هناك من يصفه بالسيناريو الكارثي، ذلك الذي قد تضطر فيه الولايات المتحدة بعد عام أو عامين أو ثلاثة من الآن، أن تواجه الصين وروسيا وإيران معاً في وقت واحد، لا تبدو الفكرة مستبعدة على أية حال، ذلك أن مقدمات الحرب العالمية الثانية تتشابه مع ما يجري حالياً في العالم من حيث محاولة قوى محددة تعديل النظام الدولي القائم، لكن على رغم بعض الاختلافات فإن حرب أوكرانيا وتزايد فرص الحرب حول تايوان وقلق واشنطن من الاضطرار إلى الاختيار بين محاربة إيران أو قبولها كدولة على عتبة نووية جعل السيناريو الكارثي محتملاً، فهل يمكن للولايات المتحدة أن تواجه القوى الثلاث، وإذا لم تكن قادرة فما البدائل؟
ليست فكرة سخيفة
تخيل سيناريو يهتز فيه العالم بحرب مشتعلة في أوروبا، وأخرى في المحيط الهادئ، وثالثة محتملة في الشرق الأوسط، قد يعتقد بعضهم أنه فكرة سخيفة أو مجرد هواجس ومخاوف، لكن التاريخ والواقع الحالي ينذر بخطر حدوث مثل هذا السيناريو، فالحرب التي بدأتها روسيا في أوكرانيا أشعلت أكبر صراع في أوروبا منذ أجيال، وأثارت معركة بالوكالة بين القوى العظمى، وفي شرق آسيا تتزايد فرص الحرب كما أظهرت التوترات التي أثارتها زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي إلى تايوان في أغسطس (آب) الماضي، وفي الشرق الأوسط قد تضطر الولايات المتحدة إلى الاختيار بين محاربة إيران وقبولها كدولة على عتبة نووية، كل هذا يعني توافر مقومات اندلاع حريق هائل في أوراسيا.
وعلى رغم أن هذا النوع من السيناريوهات الكابوسية قد لا تتحقق بسبب احتمال ألا تندفع الولايات المتحدة إلى الحرب مع تطور أي من هذه المواقف، فضلاً عن اختلاف التوقيت الذي قد تندلع فيه الحرب بحسب تطورات كل منطقة، فإن هناك من المؤشرات والأزمات التي توضح مدى خطر اندلاع حرب كبرى، بخاصة عندما تكون الأزمات الحالية مترابطة بشكل أعمق مما تبدو عليه.
مأزق أميركا
قد لا يكون أعداء أميركا متحالفين رسمياً، ولكنهم متحالفون ضمنياً في منطقة حرجة وهي قلب أوراسيا، حيث لا يمكن للولايات المتحدة أن تتعامل عسكرياً مع مشكلة واحدة من دون النظر لتأثيرها في قدرتها على التعامل مع الآخرين، وفي وقت لا يمكنها تحمل رؤية التصعيد على ثلاثة مسارح عمليات عسكرية دفعة واحدة، وهو مأزق يشبه في بعض النواحي فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية كما يقول هال براندز، أستاذ الشؤون العالمية في كلية “جونز هوبكنز” للدراسات الدولية المتقدم.
في ذلك الوقت، كما هي الحال الآن، كان النظام الدولي يتعرض للهجوم من اتجاهات عدة، حيث كانت اليابان تسعى إلى الهيمنة في الشرق الأقصى، وكانت ألمانيا هتلر تتنافس على السيادة والسيطرة في أوروبا وخارجها، في حين كانت إيطاليا بقيادة بينيتو موسوليني تعمل على تشكيل إمبراطورية في البحر المتوسط وأفريقيا، وعلى رغم القليل من الحميمية التي ربطت هذه الدول في محاولاتها تعديل النظام الدولي القائم، فإن الأيديولوجيات العنصرية المختلفة التي حفزت ألمانيا النازية وإمبراطورية اليابان كانت غير متوافقة بشكل أساسي، ولم يكن توقيع برلين وروما وطوكيو على ميثاقها الثلاثي عام 1940 سوى مجرد اتفاق فضفاض لتفجير النظام الحالي وبناء إمبراطوريات منفصلة وسط الأنقاض.
دروس التاريخ
مع ذلك، ساعدت دول المحور بعضها بعضاً في اللحظات الحاسمة، فقد ساعد دعم موسوليني غزو هتلر غير الدموي للنمسا وسوديتلاند عام 1938، وأسهم التقدم الذي أحرزته ألمانيا خلال غزوها أوروبا الغربية عام 1940 في إقناع اليابان بالتقدم نحو جنوب شرقي آسيا والمحيط الهادئ على حساب فرنسا المهزومة وبريطانيا اليائسة وأميركا المشتتة، وفي ذلك الوقت، كما هي الحال الآن، كانت هناك قوة عظمى تواجه المتاعب في كل مكان وتكافح من أجل التصرف بشكل حاسم، ففي أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، ترددت بريطانيا في اتخاذ خط متشدد ضد ألمانيا بينما كانت تواجه تهديدات متزامنة من إيطاليا واليابان، وهو ما تواجهه الولايات المتحدة الآن من مشكلات مماثلة وسط الأزمات المتفاقمة في أوروبا وآسيا.
ومثلما كافح القادة الغربيون في ثلاثينيات القرن الماضي للتنبؤ بمدى السرعة التي يمكن أن تتسبب بها الأزمات الإقليمية في حدوث انهيار عالمي، لم يعتقد معظم صانعي السياسة في فترة ما بعد الحرب الباردة أن اللحظة أحادية القطب الأميركية ستنتهي إلى مواجهة قوى كانت تبني جيوشها منذ عقود وتستعد لتحديات تنذر بأن تصبح حادة.
مواجهة روسيا
وتتمثل هذه المواجهات في حرب أوكرانيا التي تتصادم فيها أهداف كييف وموسكو، إذ تسعى أوكرانيا إلى تحرير جميع الأراضي، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، بينما يهدف الكرملين إلى تحويل أوكرانيا إلى دولة تابعة، لكن الحرب أطلقت العنان لمنافسة شرسة بين القوى العظمى، حيث تقدم واشنطن وحلفاؤها لأوكرانيا الأسلحة والمال والمعلومات الاستخباراتية لاستنزاف الجيش الروسي، ويضربون الاقتصاد الروسي من خلال العقوبات، في حين استخدمت موسكو الطاقة لجعل الحرب أكثر إيلاماً لأوروبا، وهددت بالتصعيد النووي على أمل الحد من خسائرها في ساحة المعركة من خلال تقليص الدعم الغربي لأوكرانيا.
وفي صراع يعتقد فيه الرئيس الروسي بوتين أنه يستطيع إجبار أعدائه على التوقف قبل أن يتكبد هزيمة كبرى، وتتصرف الولايات المتحدة وكأنها يمكن أن تردع بوتين عن التصعيد لفترة كافية لكي تفوز أوكرانيا، فإن نتيجة الصراع هي توازن عنيف وغير مستقر لا يمكن أن يستمر إلى الأبد لأن الطرفين يسعيان لتحقيق أهداف لا يمكن التوفيق بينها.
صراع تايوان
في شرق آسيا، بدأ العد التنازلي للصراع في مضيق تايوان، فقد استخدمت بكين زيارة بيلوسي للجزيرة كذريعة لمناورات عسكرية تنذر بتصعيد أعلى للتوتر الإقليمي، وإذا كان المسؤولون الصينيون يفضلون تحقيق أهدافهم من دون حرب، وهي السيطرة على تايوان ودفع الولايات المتحدة خارج منطقة غرب المحيط الهادئ، مع احتمال أن تكون الفوضى الدموية في أوكرانيا جعلت الرئيس الصيني شي جينبينغ أكثر حذراً في شأن استخدام القوة، فإن التعزيز العسكري الذي استمر لثلاثة عقود منح الرئيس الصيني فرصة أفضل بكثير لإخضاع تايوان إذا اختار ذلك.
وقد تضطر بكين إلى استخدام القوة للحصول على ما تريد، بخاصة أن احتمالات إعادة التوحيد السلمي لتايبيه مع الصين تقل كل عام، بينما تبدو الولايات المتحدة وحلفاؤها عازمين على منع محاولة بكين للسيطرة الإقليمية، وهو ما أشار إليه جيك سوليفان مستشار الأمن القومي للرئيس جو بايدن، حينما أوضح أن الولايات المتحدة في السنوات الأولى من عقد حاسم في منافستها مع بكين، كما يتصاعد جدل حاد في واشنطن حول متى سيصبح التهديد الصيني أكثر حدة، ويعتقد كثير من المراقبين أن المواجهة ستكون على بعد سنتين إلى ثلاث سنوات في الأقل.
تحدي إيران
ثم هناك الشرق الأوسط القابل للاشتعال بشكل دائم، إذ كادت المنافسة العنيفة بين واشنطن وطهران أن تنفجر عام 2019 وأوائل عام 2020، بعد تسلسل بدأ بانسحاب الولايات المتحدة عام 2018 من الاتفاق النووي عام 2015 وبلغ ذروته بمقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني في غارة أميركية، بينما يشير مراقبون إلى أن التقدم الذي أحرزته إيران في تخصيب اليورانيوم منحها القدرة على الاقتراب من تصنيع سلاح نووي في وقت قصير، لذلك تعيد الولايات المتحدة وإسرائيل النظر في ما إذا كانت هناك حاجة إلى مزيد من الأساليب لمنع إيران من تجاوز هذا الخط الأحمر، ومن الممكن أن تحدث أزمة بسرعة خلال أشهر قليلة إذا فشلت المفاوضات لإحياء الاتفاق النووي بشكل حاسم.
ويمكن أن تتطور الأزمة بشكل أبطأ إذا استمرت المفاوضات إلى أجل غير مسمى، وحتى إذا تم التوصل إلى اتفاق ما فقد تظل الولايات المتحدة تواجه إيران التي تعد بنيتها التحتية النووية أكثر تقدماً مما كانت عليه في عام 2015، وسيتوافر لها حينذاك أموال إضافية بفضل تخفيف جزئي للعقوبات، بما قد يعزز شهية إيران للهيمنة في المنطقة.
الحرب احتمال واضح
وإذا كانت الحرب بين الولايات المتحدة وخصومها ليست حتمية في أي من هذه المسارح الثلاثة، فإنها تظل احتمالاً واضحاً في كل منها، وعندما تنهار مناطق عدة في وقت واحد، فإنها يمكن أن تؤدي إلى انهيار النظام العالمي بالنظر إلى أن أوروبا والشرق الأوسط وشرق آسيا تشكل مجتمعة النواة الاستراتيجية للمسرح الأكبر وهو أوراسيا، الذي كان النقطة المحورية للسياسة العالمية في العصر الحديث، ومن خلال زرع الاضطرابات داخل هذه المناطق تهز القوى “التعديلية” وهي الدول الراغبة في تعديل النظام الدولي ركائز عدة للنظام العالمي القائم في وقت واحد.
ومن خلال متابعة وتنفيذ أجنداتهم الخاصة يخلقون فرصاً للآخرين لاستغلالها، إذ إن التوترات المحمومة مع الصين وروسيا تجبر واشنطن على السير بحذر مع إيران، في حين أن الرئيس الروسي خسر رهانه بأن تركيز أميركا على الصين سيضمن رد فعل ضعيفاً عندما هاجم أوكرانيا، ومع ذلك فإن الخطر المتمثل في أن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين قد تتحول إلى صراع عسكري قريباً جداً، لا تزال تمنح بوتين الأمل في أنه يمكن أن ينتصر إذا تمكن من الصمود.
سمات التحالف الثلاثي
قد لا يرى الأميركيون العلاقة بين الصين وروسيا على أنها تحالف، ولكن هذا يرجع في الغالب إلى افتقارها إلى ضمانات الدفاع المتبادل الصريحة التي ميزت التحالفات الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك تظهر سمات عدة للتحالف، منها مبيعات الأسلحة والتدريبات العسكرية المشتركة، والعلاقات المتنامية في تقنيات الدفاع، فضلاً عن اتفاق ضمني بعدم الاعتداء بما يحرر بكين وموسكو للتركيز على الولايات المتحدة بدلاً من القلق في شأن بعضهما بعضاً، وهذا في حد ذاته يعد أحد الأسباب الحاسمة لتزايد أخطار الحرب، لأن خصمي الولايات المتحدة من القوى العظمى يمكنهما الآن القتال بشكل متتال أو متزامن.
لكن إيران ليست في الوزن نفسه مثل روسيا والصين، ومع ذلك فهي جزء من هذا المحور، حيث قاتلت روسيا وإيران معاً لإنقاذ نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، بينما تدخلت الصين وروسيا بشكل دوري لحماية طهران من الضغط الأميركي في مجلس الأمن، سواء ما يتعلق بالعقوبات أو بيع الأسلحة الإيرانية، وأصبح هذا التعاون أكثر وضوحاً حينما أجرت طهران مناورات بحرية ثلاثية مع موسكو وبكين بعد تصاعد التوترات بينها وبين واشنطن عام 2019، ووقعت شراكة استراتيجية مدتها 25 عاماً مع الصين عام 2021، وزودت طهران موسكو بمئات من طائرات “الدرون” العسكرية لاستخدامها في أوكرانيا.
وتؤكد مساعدة طهران لروسيا على أمر حيوي، وهو أنه إذا تمت هزيمة روسيا أو الصين بشكل حاسم، فإن القوتين الأخريين ستواجهان أميركا كقوة عظمى أكثر جرأة، ويمكن أن تستهدف بشكل أكثر عدوانية بقية خصومها، وإذا كانت الصين غير راغبة الآن في الانخراط في حرب أوكرانيا، فإن تعرض روسيا لانهيار عسكري يتسبب في انهيار سياسي في موسكو قد يدفعها لتقديم مساعدات اقتصادية وإمدادات عسكرية لموسكو على رغم التحذير الأميركي.
القدرة على المواجهة
غالباً ما تعاني حكومة الولايات المتحدة في التعامل مع أكثر من أزمة واحدة في وقت واحد، لأن اهتمام كبار صانعي السياسة محدود، كما تتمتع أميركا حالياً بقدرة أقل على التعامل مع تحديات عسكرية عدة مقارنة مع أي وقت مضى منذ الحرب الباردة، فقد أدت التخفيضات الدفاعية الكبيرة في أوائل عام 2010، في ظل الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد وبعد سحب معظم القوات من العراق وأفغانستان، إلى جانب تراجع بيئة التهديد العالمية ضد الولايات المتحدة، إلى إجبار واشنطن على تبني استراتيجية الدفاع في “حرب واحدة”، بدلاً من قدرتها على خوض حربين متزامنتين خلال فترة التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
ويعكس هذا التحول الإدراك المتأخر في واشنطن بأن حرباً كبرى مع خصم قوي مثل الصين ستفرض أعباءً كبيرة على الجيش الأميركي، ومع ذلك فهذا يعني أن البنتاغون يفتقر إلى الموارد اللازمة للتعامل مع حالات الطوارئ العنيفة لخوض حربين متزامنتين، ناهيك بثلاث حروب إذا حدثت في وقت واحد أو في تتابع وثيق.
خفض الالتزامات
تقول الكتب الاستراتيجية إن الدولة التي لديها التزامات أكثر من القدرات يجب أن تقلل من التزاماتها أو تزيد من قدراتها، وهذه نصيحة جيدة على المدى الطويل لكنها ليست مفيدة الآن، ولهذا يجادل ما يسمى المتخصصون القدامى في آسيا بأن على الولايات المتحدة أن تخفض تصعيد المواجهات، بل وتزيل التزاماتها في الشرق الأوسط وأوروبا للتركيز على الصين.
لكن الانتقال إلى سياسة خارجية تتمحور حول الصين لن يكون من الحكمة في شيء، لأن التراجع الفوري عن التصعيد في أوكرانيا قد يسمح للرئيس بوتين بالفوز، وإرسال رسالة مفادها أن الهجوم التقليدي عندما يكون مدعوماً بالتهديد النووي يمكن أن يؤتي ثماره، كما أن الانسحاب بشكل كبير من الشرق الأوسط عندما تكون طهران على العتبة النووية هو وصفة للهيمنة الإيرانية أو الفوضى الإقليمية.
علاوة على ذلك، من الضروري زيادة الإنفاق الدفاعي الأميركي مرة أخرى، فقد أظهرت حرب أوكرانيا ومجموعة من التحليلات أن الولايات المتحدة بحاجة ماسة إلى زيادة الإنفاق الدفاعي لنشر القدرات وزيادة مخزونات الذخيرة وتعزيز القاعدة الصناعية المطلوبة للفوز بحرب واحدة، ناهيك بحربين أو ثلاث، ولا يمكن لواشنطن أن تسمح باستمرار عدم كفاية الوسائل اللازمة لتحقيق الغايات، أو أن تظل في حال مزمنة من الإنهاك الجيوسياسي، ولكن إذا كان التعزيز العسكري الضخم ضرورياً فسوف يستغرق الأمر سنوات حتى يؤتي ثماره، وسوف يستغرق وقتاً طويلاً لإحداث فرق مع الخصوم.
استراتيجية التسلسل
غير أن هناك استراتيجية أخرى قد تمثل حلاً موقتاً، وهي استراتيجية التسلسل التي تسعى إلى إدارة عديد من المشكلات المتقلبة من دون التراجع بشكل كبير أو جعلها تصل إلى ذروتها في تتابع سريع، وتقوم استراتيجية التسلسل على حقيقة أن واشنطن قد يكون لديها وقت في منطقة أكثر من أخرى، إذ يمكن أن تأتي اللحظة الحاسمة في أوكرانيا في غضون أسابيع أو أشهر، في حين أن لحظة الخطر الأقصى مع الصين قد لا تبدأ قبل بضع سنوات.
وتم تصميم استراتيجية التسلسل لتحقيق أقصى استفادة من هذه الثغرات، من طريق حل بعض الأمور بسرعة مع تأخير المواجهة في مكان آخر، لكن نظراً إلى أن هذه الاستراتيجية هي الملاذ للذين يفتقرون إلى خيارات أفضل، فلا يوجد ضمان بأنها ستنجح، إذ يتطلب التسلسل أولاً إنهاء الحرب أو الصراع الذي دخلت فيه الولايات المتحدة بالفعل، وإن كان ذلك بشكل غير مباشر مثل أوكرانيا، حيث يمكن القول إن الحرب الروسية على أوكرانيا ساعدت الموقف العالمي للولايات المتحدة، من خلال التسبب في توسيع “الناتو” وإضعاف جيش موسكو، ومع ذلك قد يؤدي الصراع الطويل إلى إلحاق الضرر بواشنطن من طريق صرف انتباهها عن التهديد الأكبر الذي تشكله الصين واستهلاك الأموال والأسلحة النادرة التي يحتاج إليها “البنتاغون” للردع أو لخوض صراعات أخرى إذا لزم الأمر.
تصورات إنهاء حرب أوكرانيا
من الصعب إنهاء الحرب في أوكرانيا، إذ لم يظهر بوتين أي حافز للتفاوض في شأن الشروط التي قد تقبلها أو ينبغي أن تقبلها أوكرانيا، وهناك خطر لا يمكن قياسه وهو أن محاولة إخراج روسيا من جميع أنحاء أوكرانيا بما في ذلك شبه جزيرة القرم، يمكن أن تجعل بوتين يفي بتهديداته النووية، ويمكن أن تصبح حرب أوكرانيا واحدة من تلك الصراعات التي يجعل فيها الاقتراب من النصر أقرب إلى الكارثة.
ليس هناك مفر من هذه المعضلة بسهولة، لكن حقيقة أن بوتين قد تمسك حتى الآن بالتهديدات الخطابية بالتصعيد النووي، بدلاً من تقديم إشارات خطيرة مثل تحريك قواته النووية بشكل واضح، تشير إلى أنه ربما يحاول الحصول على فوائد الترهيب النووي من دون أن يتحمل أعباء وتداعيات الحرب النووية، بالتالي قد يكون من المفيد المخاطرة بوقوع صراع موسع على المدى القريب للحد من أخطار نشوب حرب طاحنة وطويلة الأمد.
قد يعني هذا زيادة كبيرة في إمدادات الأسلحة الأميركية وغيرها من أشكال الدعم لكييف خلال الأشهر القليلة المقبلة، على أمل السماح لأوكرانيا بتحرير أكبر قدر ممكن من الأراضي قبل أن تتمكن روسيا من تعبئة قوات جديدة وربما يؤثر ذلك في بوتين للتقدم بمفاوضات أكثر جدية، وقد يعني ذلك أيضاً الضغط على أوكرانيا لخفض سقف أهدافها الحربية الطموحة، مثل محاكمات جرائم الحرب للروس، وأن تتسم بالمرونة في شأن شبه جزيرة القرم، والمضي قدماً بمبادرة دبلوماسية جادة عندما تبلغ هجماتها الحالية ذروتها.
طريقة مواجهة الصين
هناك من يتصور أنه ينبغي على الولايات المتحدة تسريع تسليح الجيش التايواني بما يعرف بقدرات منع الوصول التي تجعل ثمن أي غزو صيني باهظاً، ودفع تايبيه إلى تبني الدفاع غير المتكافئ للمجتمع بأسره الذي خدم أوكرانيا جيداً، كما يجب على واشنطن تعزيز التخطيط مع أستراليا واليابان وسنغافورة لتحديد المساعدة العسكرية التي يمكن أن تتوقعها في أية أزمة، ومع مجموعة أكبر من الدول الديمقراطية للتخطيط المسبق لعقوبات شاملة في حال استخدام الصين للقوة.
علاوة على ذلك يجب على الولايات المتحدة نشر سفن وطائرات إضافية في المنطقة، وتسريع الإنتاج الضخم للقدرات التي يمكن أن تعرقل الغزو الصيني بما في ذلك الألغام البحرية، وطائرات “الدرون”، والصواريخ المضادة للسفن وغيرها من الصواريخ بالغة الدقة بعيدة المدى.
عن الاتفاق النووي
تبدو الخيارات قليلة أمام واشنطن في مواجهة إيران، فطهران تعتقد أن الموقف التفاوضي الأميركي ضعيف، بسبب تصورها أن واشنطن يائسة وتسعى لتجنب أزمة كبيرة، ومع ذلك فإن معظم الخيارات لزيادة النفوذ الأميركي، مثل التهديد بمصداقية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية تأخذ في الاعتبار التوترات مع قوتين عظميين أخريين مسلحتين نووياً، بالتالي فإن استراتيجية التسلسل تتضمن التلاعب بالوقت من طريق إرجاء الاختيار بين المواجهة والاستسلام.
وحتى التوصل إلى اتفاق دبلوماسي غير كامل في شأن المشروع النووي الإيراني من شأنه أن يؤخر المواجهة العسكرية، حتى بعد مرور مزيد من الوقت على النظام الإيراني الذي يواجه تحديات داخلية متزايدة الحدة لحكمه، ومن الناحية الواقعية فقد يجعل التعنت الإيراني خيار التوصل إلى صفقة ضعيفة غير قابل للتطبيق، وفي هذه الحال قد تلجأ الولايات المتحدة وإسرائيل إلى تكثيف العمل السري والهجمات الإلكترونية والعقوبات الاقتصادية القوية، وربما بيع إسرائيل قنابل متطورة خارقة للتحصينات من شأنها أن تسمح لها بالتهديد بشكل موثوق بهجوم أحادي الجانب.
قد تمر الولايات المتحدة خلال السنوات القليلة المقبلة من دون مواجهة حرب واحدة، ناهيك بحربين أو ثلاث، على اعتبار أن الخصوم لن يخاطروا بصراع مع قوة عظمى، لكن الوصول إلى هذه النقطة سيتطلب استراتيجية جيدة، وعلى الأرجح حظاً سعيداً.
اندبندت عربي