منذ أسابيع وحركة الاحتجاجات مستمرة وبشكل متزايد في بعض المدن الإيرانية، إذ عمت التظاهرات أكثر من 125 مدينة حتى الآن، وقُتل ما لا يقل عن 270 شخصًا، واعتقل ما يقرب من 14000 متظاهر وناشط، وفقًا لمجموعات حقوق الإنسان في إيران. كما قال نشطاء إيرانيون إن قوات الأمن الإيرانية فتحت النار يوم الجمعة 28 تشرين الأول/اكتوبرعلى متظاهرين في مدينة زاهدان بجنوب شرق البلاد التي شهدت أسابيع من الاضطرابات. وقد أفادت التقارير الصحافية أن إطلاق النار أسفر عن مقتل ستة أشخاص على الأقل بينهم صبي يبلغ من العمر 12 عامًا، ما يهدد بإشعال مزيد من التوترات.
وبرغم قمع القوات الحكومية المفرط للتظاهرات إلا إن حركة الاحتجاج ازدادت تمسكا بهدفها المعلن وهتافها المركزي «امرأة، حياة، حرية». يقول راميار الحسني، المتحدث باسم منظمة هنغاو الكردية – الإيرانية لحقوق الإنسان: «بدأت النساء موجة الاحتجاج هذه، لكن الجميع انضموا لها، النساء والرجال كتف إلى كتف، وكل إيران اليوم متحدة». ويضيف موضحا «لأول مرة في تاريخ إيران منذ الثورة الإسلامية، هناك وحدة فريدة من نوعها بين الأعراق، الجميع يرددون نفس الشعار، ومطلبهم موحد».
الرد الحكومي الإيراني تمثل بشيطنة حركة الاحتجاج، إذ اتهم النظام دولاً أجنبية، مثل الولايات المتحدة التي يسميها «الشيطان الأكبر» وإسرائيل، بإثارة حركة الاحتجاج، رغم عدم وجود دليل على ذلك، ومنذ البداية، قامت قوات الأمن بقمع المتظاهرين بعنف شديد، لا سيما في المناطق التي تعيش فيها الأقليات العرقية مثل كردستان وبلوشستان. وتم إطلاق النار على أشخاص بسبب إطلاق أبواق سياراتهم دعمًا للمتظاهرين، كما تم اعتقال عدد كبير من الصحافيين بمن فيهم الذين أبلغوا عن وفاة أميني لأول مرة، والمحامين والمشاهير ونجوم الرياضة ومجموعات من ناشطي المجتمع المدني، وقد ألقت الحكومة الإيرانية باللائمة على «أعداء خارجيين» إذ اعتقلت السلطات في 30 ايلول/سبتمبر الماضي تسعة مواطنين أوروبيين قالت إنهم جواسيس يثيرون الاضطرابات.
على مدى أكثر من أربعة عقود من عمر النظام الإسلامي، تأمل الإيرانيون خيرا في الفكرة التي وعد بها القادة الإصلاحيون بتغيير الحياة الاجتماعية للشعب الإيراني، لكن لم يحدث شيء. الرسالة اليوم صارخة وواضحة، الجمهورية الإسلامية نفسها يجب أن تزول. لقد حاول الرئيسان الإصلاحيان السابقان، محمد خاتمي وحسن روحاني، في فترة حكمهما تقريب إيران من الغرب، وتقليل القيود المفروضة على العلاقات الاجتماعية في حياة الإيرانيين، وتوفير المزيد من الحريات الاجتماعية والسياسية، لكن جهودهما فشلت إلى حد كبير بسبب تشدد المؤسسات الدينية التقليدية وفي مقدمتها مؤسسة الولي الفقيه الممسكة بزمام الأمور في إيران.
وما زاد الطين بلة، انهيار الاقتصاد الإيراني في السنوات الأخيرة، الذي صاحبه تصاعد اللامساواة، وبات الشباب الإيراني يرون في الشوارع أبناء رجال السلطة يتمتعون بحياة فاخرة، بينما ينهب آباؤهم ثروة الشعب، وفي جانب آخر تهدر مليارات الدولارات من الثروة الإيرانية على توسيع سياسات دولة الولي الفقيه إقليميا عبر التدخل في دول الجوار، والنتيجة ترك الإيرانيين العاديين من دون أي مستقبل.
ويشير عدد من المراقبين والباحثين في الشأن الإيراني إلى نقطة مفادها: منذ احتجاجات تشرين الأول/أكتوبر 2019 لم تحدث أي احتجاجات واسعة النطاق في إيران. كانت هناك احتجاجات منتظمة للمعلمين، وأعمال شغب محلية في الأحواز، واحتجاجات صغيرة في أصفهان. ومع ذلك، فإن الاحتجاج الحالي هو الأول منذ عام 2019 الذي غطى البلاد بأكملها. وبعد المداهمات الدموية في عام 2019 غرق الكثير من الإيرانيين في التشاؤم، واعتقدوا أنهم لم يعودوا قادرين على الوقوف في وجه النظام. ومع ذلك، فإن القضايا الاجتماعية والاقتصادية الثقيلة، وتعيين رئيس غير محبوب، مع مجلس وزراء فاقد للمصداقية، والتشدد في تطبيق مظاهر المبادئ السلوكية الإسلامية، خلقت وضعًا لا يطاق للمواطنين.
الحركة المناهضة للحجاب كانت قد بدأت قبل وفاة مهسا أميني، رداً على المبالغة في تصرفات دوريات الإرشاد المسؤولة عن تطبيق اللالتزام بالسلوك الشرعي الإسلامي في الأماكن العامة بتشجيع من الرئيس المحافظ إبراهيم رئيسي. في صيف عام 2022 تم تنظيم أول حركة مناهضة للحجاب في شبكات التواصل الاجتماعية باستخدام هاشتاغ: «#نه_به_حجاب_اجباری» (لا للحجاب الإجباري). ولم يذهب النشاط المناهض للحجاب إلى أبعد من تحميل صور بعض النساء من دون حجاب في أنحاء مختلفة من إيران. لكن مقتل مهسا أميني في 13 أيلول/سبتمبر فجّر رفضا مكتوما متراكما منذ مدة طويلة بين الإيرانيين، وأدى إلى إشعال فتيل حركة الاحتجاج الواسعة، إذ ندد المتظاهرون بحكم رجال الدين، ورددوا هتاف «الموت للديكتاتور» في إشارة إلى المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي.
يبدو أن السؤال الرئيسي أصبح: ما هو الدور الذي يلعبه الجيل «زد» الإيراني في حركة الاحتجاج؟ العديد من المتظاهرين هم من الشباب، أو أولئك المعروفين باسم جيل «زد». وقد دفعت العولمة والإنترنت هذه المجموعة إلى الاحتجاج عبر تدمير الاختلافات الثقافية بين الشباب في الشرق الأوسط وأوروبا. وعندما ترى شابة إيرانية صغيرة على وسائل التواصل الاجتماعي كيف تعيش المرأة في مختلف دول العالم، وهامش الحريات الذي تتمع به، ونتيجة تواصل الشباب الإيراني مع أقرانهم في مختلف دول العالم، اكتشفوا أنهم يعيشون في بلد يجبرهم على الذهاب إلى فصل ديني إلزامي، والعيش في ظروف التشدد التي تفرضها شرطة الأخلاق على السلوك اليومي، والتفتيش على شكل الملبس، وطريقة الكلام والتحرك، مع تطبيق قواعد اللباس الإسلامية الصارمة، والفصل بين الجنسين في المدارس والجامعات، لتكون النتيجة مقارنة تثير اشمئزاز الشباب وتدفعهم نحو التمرد.
تقل أعمار جيل «زد» الإيراني عن ثلاثين عاماً ويشكلون 60 في المئة من سكان إيران البالغ عددهم 84 مليون نسمة، ويبلغ معدل الإلمام بالقراءة والكتابة بين أفراد هذا الجيل 97 في المئة، وتشكل النساء أكثر من 65 في المئة من المتخرجين من الجامعات. وقد كتبت كامين محمدي في تشرين الأول/اكتوبر 2022: «عندما وصلت الثورة الإسلامية إلى السلطة، كانت القضية الوحيدة التي خصتها بالذكر، من بين العديد من القضايا التي لا تعد ولا تحصى التي تستدعي الاهتمام، هي قانون حماية الأسرة الإيراني، الذي بدلوه بقانونٍ جعل النساء يعتمدن على الإرادة الأبوية وأعادتهن إلى العصور الوسطى، بعد أن كان في إيران واحداً من أكثر القوانين تقدميةً في المنطقة». وتضيف محمدي «فشهادة المرأة في المحكمة تعادل نصف شهادة الرجل، ولا يمكنها الغناء أو الرقص أو إظهار شعرها في الأماكن العامة، ويمكن تزويج الفتيات في سن الثالثة عشرة». اليوم أعرب أبناء الجيل «زد» عن رفضهم لتلك القوانين والأعراف، فهم يرغبون في أن يكونوا مثل باقي المراهقين وباقي النساء والرجال في سائر أنحاء العالم ويطالبون بأن يتمتع الجميع بنفس الحقوق كما يترتب عليهم نفس الواجبات.
وقد كتبت الباحثة الهندية مويتري موخوبادهياي عن جيل «زد» الإيراني وتهديده للنظام الثيوقراطي في إيران قائلة: «الاحتجاجات التي تشهدها شوارع المدن الإيرانية في مختلف أرجاء البلاد والتي تقودها الفتيات الصغيرات، وهن غالباً من طالبات المدارس، مع مشاركة أشخاص من مختلف التوجهات، تتميز بطابع خاص، وذلك لأنها تتألف من جيل كامل من الشباب بعضهم ليسوا سوى مجرد مراهقين يطالبون بإعادة النظر في الأسس الفعلية للسلطة وذلك النظام الديني ونخبه الحاكمة، وأولئك الرجال الذين تجاوزت أعمارهم التسعين». ويمكننا ملاحظة أنه مع إنطلاق حركة الاحتجاج منتصف ايلول/سيتمبر امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بمقاطع فيديو لشابات وفتيات صغيرات وهن يقمن بإنزال صورة المرشد الأعلى علي خامنئي ويمزقنها ثم يحرقنها مع صيحاتهن «إذا لم نتحد فسنصبح مهسا أميني التالية واحدة تلو الأخرى».
يقول بيجان عبد الكريم، أستاذ الفلسفة في جامعة آزاد الإسلامية إن «الفشل في فهم شباب هذا البلد هو خطوة خاطئة». وأضاف في لقاء مع صحيفة «اعتماد» الإصلاحية «هذا الجيل متمرد ولا يقبل سلطة أي شخص آخر سواء أكان الأب في المنزل، أو المعلم في المدرسة أو الجامعة، إنه لا يقبل سلطة الرجال على النساء، ويحارب التقاليد ويتساءل عن جميع مبادئه. أن أسوأ طريقة للتعامل مع هذا الجيل هي المقاربات البوليسية والعسكرية والأمنية».
ويشير مركز استطلاع الرأي العام للطلاب الإيرانيين «ISPA» شبه الرسمي إن «الغالبية العظمى من الإيرانيين يضمرون غضبا تجاه الجمهورية الإسلامية وهو عامل على مستوى خطير من الأهمية». ويضيف المركز: أن «متوسط عمر المتظاهرين يزداد أيضًا، ويشمل من هم دون العشرين عامًا. في حين أن عدد النساء المتظاهرات قريب جدًا من عدد الرجال. وفي كل مرة كانت هناك احتجاجات واسعة النطاق، فإنها تهدأ بشكل سطحي فقط، بينما يتراكم الغضب ويزداد مستوى العنف في المرة اللاحقة».
فإذا نجحت الحكومة في تعبئة قوات القمع الحكومية من جيش وشرطة وقوات الباسيج الشعبية شبه العسكرية المخيفة وتم أسكات وقمع المتظاهرين، فإن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال تجنب موجات الاحتجاج الكبيرة المناهضة للنظام في المستقبل. ومن جانب آخر فإن انتصار المحتجين يثير بعض التساؤلات مثل: من سيتحمل المسؤولية السياسية في أعقاب الثورة الحالية؟ ما الذي يمكن أن يكون بديلاً للإسلام الشيعي الذي يجمع اليوم أقليات عرقية مختلفة حول علم واحد في إيران؟ ليبقى مستقبل الوضع في إيران غائما.
القدس العربي