عودة بنيامين نتنياهو، أقوى من ذي قبل أيضاً، ليست مفاجأة في ذاتها إلا عند عقولٍ وفئاتٍ وأجهزة تفكير لا تقوم بصدد دولة الاحتلال الإسرائيلي بما هو أبعد من تقليب الكليشيهات القديمة المستعادة؛ حول «الديمقراطية الأوحد في الشرق الأوسط»، أو «لو لم توجد، لتوجّب أن نخلقها»، أو «دولة شعب بلا أرض، في أرض بلا شعب»؛ أو، لمَن شاء التوسّع والوقوف على رأي إسرائيلي، الأساطير العشر التي ناقشها إيلان بابيه في كتاب يحمل العنوان ذاته، صدر سنة 2017.
ليست مفاجأة، على قدم المساواة، انتظار توزير فاشي عنصري استيطاني مثل إيتمار بن غفير، بدأ حياته السياسية بسرقة سيارة رئيس حكومة الاحتلال إسحق رابين، سنة 1995، معقباً بأنّ الوصول إلى السيارة يعني أيضاً إمكانية الوصول إلى جسد صاحبها ذات يوم، وهذا ما حصل بالطبع وإنْ برصاصات إيغال عمير. وشرطة الاحتلال التي أخرجته بالقوّة من مبنى الكنيست، سوف تحرس قريباً عودته إلى وزارة ما، حيث لن تتغير كثيراً أعمال الشغب والعنصرية والسباب المقذعة التي يكيلها للعرب، إلى جانب انحيازاته لمنظمات إرهابية من كلّ حدب إسرائيلي وصوب.
طريف، حتى من باب الشماتة الهادفة (كما هي حال هذه السطور) أن يتوقف المرء عند معطى واحد محدد في نتائج انتخابات الكنيست الأخيرة؛ أي عجز حزب «ميرتس»، واجهة ما كان يُسمى «اليسار» بين الأحزاب الإسرائيلية، عن بلوغ نسبة الـ 3.25٪ المؤهلة للدخول إلى الكنيست، للمرّة الأولى منذ تأسيسه عام 1992؛ وتلك، عند زهافا غال – أون، زعيمة الحزب، «لحظة صعبة للغاية بالنسبة لي، ولأصدقائي (…) وهي كارثة على ميرتس، كارثة للبلاد، ونعم، كارثة شخصية بالنسبة لي».
والحديث عن هذا «اليسار» الإسرائيلي الآخذ في الانقراض يقود إلى شخصية شولاميت ألوني (1928 – 2014)، «أمّ حركة ميرتس» كما كانت تُلقّب، في إشارة إلى موقعها السابق المتقدّم ضمن المجموعة التي تأسست سنة 1992 كتحالف بين «راتس» و«مابام» و«شينوي»، وحصلت على 12 مقعداً في انتخابات الكنيست لذلك العام. ألوني هي الوحيدة التي تجاسرت على استعادة اقتباس شهير يُنسب إلى إيغال آلون (1918 ـ 1980)، ويفيد المعنى التالي، ليس حرفياً بالطبع: لوحات الفنان الروسي ـ الفرنسي اليهودي مارك شاغال، وحدها تقريباً، تتيح للبشر أن يسبحوا في فضاء ميتافيزيقي ملوّن، بعيداً عن الأرض بمعانيها المجازية والفلسفية، وبعيداً كذلك عن الأرض بمعانيها الفيزيائية الدنيوية، حيث الحياة والمجتمع والسياسة.
ومن منبر الكنيست، ذات يوم مضى وانقضى وانطوى، استعادت ألوني مخلوقات شاغال كي تذكّر ساسة دولة الاحتلال بأنّ أيّ مفاوضات مع الفلسطينيين ينبغي أن تضع جانباً، ونهائياً، مناخات شاغال التي تلغي أرض البشر؛ لأنّ المعطى الفلسطيني لا يحتمل إسقاط الأرض من لوحة الأرض الفلسطينية المحتلة، ولا من أية لوحة فلسطينية أخرى حيث يعيش البشر ضمن قوانين الجاذبية… جاذبية التاريخ والهوية والحقوق والسياسة!
وعلى نحو أو آخر، لا تقول انتخابات الكنيست الأخيرة إنّ زمن «ميرتس» تحجبه اليوم أزمنة بن غفير وبتسلئيل سموطريتش ووَرَثة الكاهانية في أسوأ أنماطها العنصرية والفاشية. نادرون، إذن، أولئك الذين سوف يتذكرون ألوني (ذلك «اليسار» الشاحب الوسطي المتقلب التائه…!)؛ والأرجح أنّ استعارة شاغال لن تُستعاد إلا من باب الحنين إلى شطر من شخصية آلون يلائم واقع الحال الراهنة في دولة الاحتلال: أنه كان أحد أبرز رجال عصابات الـ»هاغاناه»، وأحد مؤسسي الـ»بالماخ» ذراعها العسكري الإرهابيّ، وقائد الجبهة الجنوبية خلال حرب 1948؛ وأخيراً، وليس آخراً: صاحب خطة السلام الشهيرة التي تحمل اسمه، وتقضي بضمّ الضفة الغربية، أو «يهودا والسامرة» في تعبيره، إلى المملكة الأردنية الهاشمية، ولكن من دون السماح للجيش الأردني بالانتشار فيها.
«كاهانا حيّ»، خلاصة القول؛ بل هو يتمطى ويعوي ويتمدد!
القدس العربي