لا يبدو للتنظيمات والمجموعات في العالم العربي والإسلامي في ظل المعطيات الحالية، قدرة على تغيير وجه المنطقة في المستقبل المنظور. وأقصى ما يمكن أن تقوم به هذه المجموعات هو أن تحافظ على ما تبقى لديها من موارد ومقدرات، في انتظار سياق جديد يسمح بعودة مسار الإصلاح. ومن العبث أن تفكر المجموعات في الاستمرار بممارسة عملية التدافع في أعلى درجاتها كما في السابق. إن قدرا من احترام قوانين التاريخ والاجتماع، يفرض أن يفهموا الأمر على هذا النحو.
سقط مفهوم ” الدولة الراعية” في المجال السني العام، مع سقوط الدولة العثمانية. إن التاريخ كما يبدو من ديناميات حركته، يقول إن التغيير الحقيقي في مستقبل المجتمعات تقوم به الدول، في لحظات تاريخية تنشأ فبها إرادة التقدم نحو المستقبل. نحن إذن في المنطقة نحتاج إلى إحياء مفهوم الدولة الراعية للمشروع السني، الذي نشترك فيه جميعا.
التزامات عديدة
الانتماء السني للأتراك قد فرض عليهم التزامات عديدة تجاه المنطقة في الماضي، ويفرضه عليهم في الحاضر والمستقبل. خاصة في اللحظات الحرجة التي تواجه العالم السني. ليس المطلوب من تركيا أن تكون فقط قوة لصناعة التوازن في المنطقة مع إيران وروسيا والغرب، بل المطلوب أن تدرك التزاماتها مع مرور الوقت، بتاريخها البعيد والقريب كدولة سنية “راعية”، ذات مشروع ورؤية لمستقبل المنطقة. المطلوب من الأتراك الحاليين إعادة الاتصال بالفكرة السنية العامة، واستصحابها في عملية صعودهم في المنطقة. إن حمل السلاح في الماضي كان يصلح للتمدد، لكن حمل الثقافة كان يضمن البقاء واستمرار التأثير.
ليس على الأتراك أن يعيدوا الخطأ القديم نفسه، عندما أهملوا بناء ثقافة وأيديولوجيا عالمية، عندما كانوا قادرين على ذلك. نعم لقد صنعوا جغرافيا شاسعة الأطراف، لكنهم لم يملؤوها بالأفكار كما ملؤوها بالعتاد. إن الفكرة الصفوية قد استمرت حتى الآن، رغم زوال الدولة منذ زمن بعيد، لكن الفكرة العثمانية لم تستمر بعد زوال الدولة منذ وقت قريب.
ترك العثمانيون في الماضي فراغات أيديولوجية كبيرة في الأناضول وفي الجوار نتيجة انشغالهم بالغزو، وكانت سببا رئيسيا في صعود وتشكل الدولة الصفوية في القرن السادس عشر. لقد أهملوا الأيديولوجيا ففوجئوا بالصفويين يطرقون أبوابهم، من بوابة المذهب الشيعي. واضطروا لاحقا للانتباه إلى المسار الأيديولوجي، وهو ما كلفهم خوض معركة جالديران في إيران عام 1514. وتبين لهم حينها مدى تأثير المسألة المذهبية في بناء الإمبراطوريات. إن جزءا أساسيا من معاناة العثمانيين مع جوارهم في السابق كان سببه أنهم لم يكونوا يمتلكون كثافة مذهبية سنية، فاضطروا لحل تلك المشكلات عسكريا مع خصومهم. ومنذ سقوط الدولة العثمانية لم تدخل تركيا أي نزاعات تحت مظلة الإسلام أو الأيديولوجيا السنية. وهي تدبر وجودها في المنطقة من منطلق عسكري وسياسي واقتصادي خالص.
لماذا تركيا؟ لا يمتلك العالم السني الآن فرصة للخروج من حالة الأزمة، إلا من خلال دولة إقليمية راعية. إن الجغرافيا السياسية والواقع الحالي حاسمان في هذا التحليل، وإذا نظرنا إلى وضعية النظام السني العام، فإن تركيا تبدو وحدها قادرة على التعامل مع الأزمات التي قد يواجهها المسلمون في الغرب. تركيا هي الدولة الوحيدة حاليا في العالم السني التي بإمكانها ممارسة التدافع الحضاري الإسلامي. وفي حين تبدو القوى العربية معطلة وخارج الخدمة، تبدو القوى الإسلامية الأخرى في آسيا باردة، في ماليزيا وأندونيسيا وباكستان. وهي لا تتوفر في الوقت الحالي على مقومات التدافع، لا من الناحية الثقافية ولا العسكرية، وغير منخرطة في المشروع السني بفاعلية واضحة.
يوظف العثمانيون الجدد التاريخ ببراعة من بوابة الإعلام، ويعيدون صياغة قصص البطولات. وقد أنتج هذا المسار نجاحات كبيرة في العالم الإسلامي، وبات الناس يعرفون الكثير عن الرموز العثمانية التأسيسية. لكن التاريخ والاحتفاء بالأمجاد العسكرية رغم قدرته على تحريك الوعي والشعور العام، إلا أنه لا ينتج مشروعا ثقافيا. في المقابل يفشل الإيرانيون، رغم تفوقهم في السينما العالمية في إبراز رموزهم التاريخية في المنطقة. والسبب واضح وهو أن تاريخهم الإسلامي الخاص ليس فيه غزو أو فتوحات في العالم. فلا الشاه إسماعيل الصفوي ولا عباس الكبير ولا نادر شاه الأفشاري بإمكانهم أن يحظوا بنفس القبول في المنطقة، مثل أرطغرل أو عثمان أو سليمان القانوني، والسبب أن الرموز الإيرانيين لم يحملوا الإسلام إلى أي مكان في العالم.
لن تجد للدول التي تعاقبت على حكم إيران أثرا في المعارك الإسلامية الكبرى أو الصغرى. وهم لم يفكروا أن يفتحوا للإسلام بلدانا أو أن يتوسعوا باسم الإسلام. لقد ظلت معاركهم مع الداخل الإسلامي لا مع الخارج. التشيع بطبيعته قد ضيق على الفرس نطاق السلوك الإمبراطوري التعددي، الذي يضم القوميات والأجناس والمذاهب المختلفة مثل النموذج العثماني. لم نجد من الدول الشيعية نزوعا لنقل الإسلام نحو مناطق جديدة في العالم، في أوربا أو البلقان أو أفريقيا. وأفضل ما يمكن عمله الاكتفاء بإسقاط عواصم الجوار. وإذا أردنا أن نحكم على الأداء الإمبراطوري للفرس المسلمين في الماضي، فهو في رأيي وصف لا يستحق أن يطلق على أي دولة شيعية فارسية. فلا أحد منها حمل متاع الإسلام إلى العالم.
لكن في لحظات الهزائم العسكرية الثقيلة، كان المذهب هو ما ينقذ الفرس، ويعيد عصبيتهم إلى الحياة من جديد. إنها الايديولوجيا الشيعية التي تتدخل لإنقاذ الفرس عند كل منحدر تاريخي سحيق، مثل الهزيمة القاسية أمام العثمانيين في صحراء جالديران، عندما أصيب شرف الصفويين وعرضهم بأقصى أنواع الإهانة. حينها يتدخل المذهب لإنقاذ الفرس، عندما تنهار السياسة والجيوش.
تعتبر العناصر الثقافية في تركيا في العالم الإسلامي حتى اللحظة قليلة الكثافة. وحتى الإسلام السياسي هناك لا يوظف المذهبية السنية بكثافة واضحة. لكنه في المقابل يمتلك قدرا كبيرا من الشعور بالقومية والمحلية. وبإمكاننا الاستناد في تقييمه فقط إلى منجزاته الاقتصادية والسياسية لا الفكرية والثقافية. وربما كانت خفة الأيديولوجيا سببا في القبول العام في الداخل التركي بالمشروع الإسلامي اللاأيديولوجي. لكن قدرا من الكثافة الأيديولوجية ضروري في عملية الصعود على المستوى الإقليمي، ذلك أن المرور عبر قناة مشروع سني إحيائي، ضروري للتواصل مع المنطقة وخلق إجماع سني جديد.
يمارس الأتراك التدافع السياسي والعسكري بقدر معتبر بنجاح. لكنهم في المقابل بعيدون عن إنتاج عناصر التدافع الأيديولوجي والثقافي في المنطقة. وتبدو ذراعهم السياسية والعسكرية والاقتصادية بعضلات بارزة، في حين تبدو ذراعهم الثقافية هزيلة في حاجة إلى عناية وتغذية، لتتساوى مع الذراع الأخرى. إن امتلاك رؤية ثقافية بالنسبة لأي دولة ليس ترفا، فهو عملية تراكمية عبر تاريخ لا يعرف قطيعة حادة وجذرية مع الماضي. ومن وجهة نظر تاريخية يعتبر امتلاك رؤية ثقافية في حاجة إلى مجهودات كبيرة من جانب الأتراك الحاليين، بسبب القطيعة التي حدثت قبل أكثر من قرن، مع الموروث والتقاليد والأفكار العثمانية، فقد كانت قطيعة مع الشعور والوعي السابق، وتوقف خلالها احترام التاريخ.
الأتراك حاليا ناجحون في إعادة احترام التاريخ العثماني من بوابة الإعلام. وهم يكشفون من جديد شغفهم بالمنجزات العسكرية، كما هي طبيعتهم في التاريخ. لكن إعادة الاحترام للتاريخ في الوعي العام رغم أهميته المحلية المرتبطة بالأتراك، يبقى غير كاف لبناء رؤية ثقافية في المنطقة، لأنه يعتمد فقط على المنجزات العسكرية. إن من السهولة اكتشاف الهزيمة الثقافية التي مني بها العثمانيون منذ السلطان سليم الثالث وابن عمه محمود الثاني منذ القرن التاسع عشر، قبل أتاتورك بمدة طويلة، عندما بدأت أكبر عملية تحديث على الطراز الفرنسي.
غياب رؤية ثقافية
وللأمانة العلمية فإن أتاتورك لم يقم بالكثير ضد الهوية الإسلامية، بالمقارنة مع السلطان محمود الثاني الذي فعل كل شيء للخروج من الخلافة. ما قام به أتاتورك كان مجرد إسدال للستار على مسار سبقه منذ قرنين. واستمر أتاتورك على انبهاره مثل من سبقوه، مثل سليم ومحمود، بالنموذج الفرنسي. وكان هو شخصيا يكتب ويتحدث اللغة الفرنسية، ومولعا بماركات اللباس الباريسية. لكن الوعي الدفين قد لاحق أتاتورك، ولذلك اختار أن يتبنى ثماني بنات، لأنه لم يكن بإمكانه الإنجاب، ولم يتبن ذكرا واحدا مخافة استصحاب مشكلات وراثة الحكم القديمة لدى العثمانيين. لقد كان بإمكان صورة أتاتورك المعلقة على الجدران أن تبتسم، لو تم قبول مشروعه بالدخول عضوا في النادي الأوروبي، لكن من بوابة الإسلاميين وهو مالم يحدث.
إن تحويل تركيا وجهتها السياسية والاقتصادية نحو المنطقة العربية والشرق الأوسط، لم يجعلها حتى اللحظة تبني رؤية ثقافية يمكن تقييمها وقياس فاعليتها، للتعامل مع المنطقة والتواصل مع وعي مكوناتها الاجتماعية والثقافية. الموجة العثمانية الجديدة مازالت نموذجا سياسيا وعسكريا تاريخيا، لا نموذجا ثقافيا بالنسبة لشعوب المنطقة.
القدس العربي