اعتاد الناخبون في الولايات المتحدة الأمريكية على تحويل الانتخابات النصفية للكونغرس إلى مناسبة حافلة بالأجندات الداخلية المتصارعة، حول ملفات متعددة تبدأ من الاقتصاد ومشكلات التضخم والبيئة ولا تنتهي عند الحقوق المدنية والحريات العامة والإجهاض والهجرة أو حتى تسهيل عمليات التصويت مقابل التضييق عليها، فضلاً عن الملفّ الأبرز المتكرر المتمثل في اختبار شعبية الرئيس الأمريكي ذاته وما إذا كانت عمليات التجديد بمثابة إسناد لشاغل البيت الأبيض أو إفصاح متقدم عن هوية منافسه في الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد سنتين.
ومن حيث المبدأ لم تختلف الانتخابات الأخيرة عن مثيلاتها في معظم الدورات السابقة، لكنها تميزت هذه المرّة بتصاعد الهواجس حول حال النظام الديمقراطي الأمريكي في ذاته، وما إذا كانت خسارة الحزب الديمقراطي ما يتمتع به من أغلبية ضئيلة في مجلسَي النواب والشيوخ لا تعني فقط عودة الحزب الجمهوري إلى انتزاع الأغلبية، بقدر ما تنذر أيضاً بتعزيز مواقع التيارات الشعبوية والانعزالية واليمينية المتطرفة والفاشية في قلب أعلى مؤسسات أمريكا الدستورية والتشريعية والفدرالية والإدارية. كذلك تفاقمت أكثر من ذي قبل معدلات العنف اللفظي وتراشق الاتهامات ونظريات المؤامرة حول التزوير، واستخدام مفردات بذيئة ابتدأها الرئيس السابق دونالد ترامب نفسه.
ذلك لأن عمليات اقتراع يوم أمس لم تقتصر على انتخاب أو تجديد 435 مقعداً في مجلس النواب و35 في مجلس الشيوخ، بل شملت أيضاً 36 مرشحاً لحكام الولايات الـ50، وعددا غير قليل من أمناء الولايات الذين تزايدت أهمية وظائفهم في ضوء الانتخابات الرئاسية الأخيرة. والفوارق بين امتلاك أي من الحزبين للأغلبية لا تتعدى مقعداً واحداً في مجلس الشيوخ وأقلّ من 10 مقاعد في مجلس النواب، وغالبية استطلاعات الرأي رجحت نجاح الجمهوريين في حيازة الأغلبية داخل المجلسين.
فإذا تحقق هذا السيناريو فإن الرئيس الحالي جو بايدن سوف ينقلب إلى ما تطلق عليه الرطانة الأمريكية تعبير «البطة العرجاء»، من حيث شلل إدارته أمام المشرعين الجمهوريين في المجلسين والعجز شبه التام أحياناً عن تمرير البرامج التي تعهد بها خلال الحملة الانتخابية، أو تلك التي تعتبر أحجار أساس في علاقة الحزب الديمقراطي بناخبيه وأنصاره. ولسوف تقف عند نقطة عالقة، أو حتى تتجمد تماماً، سياسات تخص التضخم والطاقة وارتفاع الأسعار وشروط التصويت والحقوق المدنية والهجرة وما إلى ذلك.
وإذا كانت المواقف من القضايا العربية والانحياز الأعمى لدولة الاحتلال الإسرائيلي ونكران الحقوق الفلسطينية المشروعة لن تكون على المحك سواء خسر الديمقراطيون أم احتفظوا بالأغلبية، فإن ملفات عالمية أخرى سوف تتأثر مباشرة على غرار عشرات المليارات التي قدمتها إدارة بايدن إلى أوكرانيا ويعتزم الجمهوريون الحدّ منها في حال فوزهم. ولم يكن غريباً أن يختار مالك مرتزقة «فاغنر» الروسية توقيت التجديد النصفي كي يعلن أن مجموعته تدخلت سابقاً وسوف تتدخل مجدداً في انتخابات أمريكا.
ولأن الولايات المتحدة قوة عظمى أولى سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً، فإن شبح «بطة عرجاء» في إهاب رئيس أمريكي يمكن أن يخيم على البشرية جمعاء، وليس في أروقة البيت الأبيض وحده.
القدس العربي