بعيداً من الموقف الذي أعلنه قائد حرس الثورة الإيرانية الجنرال حسين سلامي في تشييع ضحايا الاعتداء الإرهابي الذي حصل في أحد المزارات الدينية في مدينة شيراز في 16 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، والبيان المشترك الذي صدر عن وزارة الأمن وجهاز استخبارات الحرس حول الحراك الاعتراضي والشعبي الذي تشهده إيران، يمكن القول إن المؤسسة العسكرية بجناحيها العقائدي الذي يمثله حرس الثورة والرسمي الذي يمثله الجيش، هي الغائب الأكبر عن المشهد اليومي وإن الجهة أو الأجهزة التي تتولى عملية القمع والضرب وملاحقة المتظاهرين والمعترضين محصورة في الظاهر تحت عنوانين، قوات الشرطة بكل أنواعها (أمن عام وأمن داخلي…)، إلى جانب قوات من التعبئة (الباسيج) ومعها عناصر أمنية بلباس مدني يعتقد بأن مرجعيتها تعود إلى وزارة الاستخبارات والأمن.
هذه الحقائق الميدانية والمواجهات التي تشهدها شوارع المدن الإيرانية تطرح سؤالاً مفصلياً وأساسياً، لماذا تحجم قوات حرس الثورة عن النزول إلى الشارع وتتولى مهمة التعامل مع هذه التظاهرات والمتظاهرين؟، بخاصة أن المهمة الأولى الدينية والشرعية للحرس هي الدفاع عن الثورة والنظام الإسلامي من أعداء الداخل والخارج وهي مهمة تعتبر في أساس وصلب عقيدته العسكرية والعقائدية!
يبدو واضحاً من الآلية التي يتبعها الحرس وینفذها في التعامل مع الأحداث أن هذه آلية تحاول الفصل ما بين الأزمة الداخلية موزعة على بعدين، والأزمة الخارجية أو ما يعتقده من تهديد آت من خلف الحدود وهو أيضاً يوزع على مستويين.
على المستوى الداخلي، فإن البعد الأول والدافع الذي أسهم في انكفاء هذه المؤسسة العسكرية عن التعامل مع الحدث الحاصل أن قيادتها تحاول الابتعاد عن التورط المباشر ودفع الأجهزة الأخرى إلى ساحة المواجهة مع المواطنين باعتبار أن الحراك لا يخرج عن دائرة المطالب المتراكمة، تحديداً في البعد الاقتصادي، بخاصة أن أصواتاً كثيرة من بين الدوائر المقربة من الحرس بدأت تتحدث علانية عن فشل حكومة إبراهيم رئيسي في إدارة الملف الاقتصادي، فضلاً عن فشلها في كسر الجمود على مسار المفاوضات النووية، في وقت لجأت هذه المؤسسة إلى تقديم تضحية أساسية عندما تخلت عن شرطها بإخراجها من لائحة العقوبات الأميركية في محاولة لتسهيل عملية التفاوض وإعادة إحياء الاتفاق النووي، فضلاً عن أن الجهاز الذي تسبب في اندلاع موجة الاعتراضات الأخيرة، أي جهاز شرطة الأخلاق، لا يقع ضمن مسؤولياتها، بالتالي على أجهزة الدولة الأمنية والاستخبارية تحمل مسؤولية التعامل مع تداعيات مقتل الفتاة مهسا أميني.
ولعل هذه القيادة (الحرس) لم تصل إلى قناعة بأن الأحداث التي يشهدها الشارع الإيراني دخلت مرحلة متقدمة، ربما تتحول إلى تهديد وجودي للنظام، بالتالي فإنها غير مجبرة على تكرار تجربة عام 2019 والدخول مباشرة في قمع الاعتراضات على خلفية مطالب اقتصادية وانتهت بسقوط أكثر من 350 قتيلاً، بحسب رواية وزير الداخلية حينها رحماني فضلي وأكثر من 1500 ضحية بحسب إحصاءات المعارضة.
وفي البعد الثاني، ولعله الأخطر والأدق، فإن قيادة الحرس توصلت إلى قناعة بأن ما يشهده الشارع قد تكون له أبعاد على علاقة بصراع على السلطة بين أقطاب النظام وأن من يقف وراء هذا الصراع من داخل النظام أسقط جميع المحرمات ويحاول توظيف الحركة الاعتراضية واستغلالها في مفردات صراعه مع الآخر المنافس على مستقبل السلطة في البلاد من دون الأخذ في الاعتبار أو التوقف عند خطورة تداعيات هذا الصراع، وأن السير على حافة الهاوية لن ينتهي إلى سقوط أحد أطراف الصراع، بل ربما يؤدي إلى سقوطهما معاً، ومعهما النظام بكامله، أو في أفضل الأحوال، سقوط الطرف المنتصر مع أقرب حراك جديد الذي لن يكون بعيداً في حال استطاعت منظومة السلطة السيطرة على الشارع وقمع الاحتجاجات القائمة حالياً.
أما على مستوى الأزمة الخارجية، سواء تلك الآتية أو مصدرها خارجي حقيقي أو مفتعل، فإن قيادة الحرس وضعت استراتيجية مختلفة عن تلك التي تتعامل بها مع الأسباب الداخلية للأزمة، ولعل ما تشهده محافظات الأطراف التي تعتبر موطن الأقليات العرقية والقومية والمذهبية في سيستان وبلوشستان وكردستان وكرمانشاه وإيلام وخوزستان وأذربيجان الغربية وتبريز من أحداث وحشد عسكري وعمليات أمنية وميدانية للقوات المسلحة بمختلف صنوفها في الحرس، تشكل مؤشراً واضحاً إلى المخاوف التي تشعر بها هذه المؤسسة حيال مصادر الخطر التي تهدد النظام واستمراره وبقاءه، لذلك سارعت للحديث عن مؤامرة خارجية مدعومة من قوى إقليمية ودولية تهدف إلى تقسيم إيران أو فرض نظام فيدرالي على النظام يعطي هذه الأقليات استقلالها أو حكماً ذاتياً يضعف سلطة النظام ودوره القائم على مركزية شديدة ومحكمة.
وفي البعد الآخر، فقد لجأت قيادة الحرس ومعها وحدات من الجيش النظامي إلى حشد ألوية متعددة برية ومدفعية ومدرعة وصاروخية وحتى جوية في عدد من المحافظات الحدودية، في الشرق مع أفغانستان بذريعة الرد وردع الاستفزازات التي تقوم بها سلطة “طالبان”، وعلى الحدود مع دولة أذربيجان بعد أن وجهت إليها اتهامات مباشرة برعاية قادة الحراك الداخلي وتسهيل وصول منفذي عملية شيراز الإرهابية، وذلك بعد تحويل محافظات خوزستان العربية وكردستان وكرمانشاه الكردية إلى معسكر وساحة قتال مفتوحة مع القوى المدنية والحزبية فيها.
ولا يمكن استبعاد إمكانية لجوء هذه القيادة إلى افتعال معركة مع دول الجوار تسمح لها بفرض حالة طوارئ عامة تساعدها على تمرير مشروعها وقمع التحركات الشعبية بذريعة التهديد الخارجي، بخاصة أن المؤشر الأبرز إلى وجود هذه النوايا جاء في كلام قائد الحرس سلامي الذي لجأ إلى تهديد السعودية بنقل المعركة إلى أراضيها على خلفية اتهامها بدعم الأحزاب المعارضة في الخارج وتسخير وسائل إعلام عدة لخدمة الحراك في الداخل ودعمه.
هذه الاستراتيجية لحرس الثورة تعيد وضعه في اللحظة الحرجة في دائرة وظائفه العقائدية التي قام عليها وأن يكون المدافع عن الثورة ونظامها أمام أعداء الداخل والخارج، وما يعني أن هذه المؤسسة تحتفظ بنفسها وقدراتها وموقعها للوقت المناسب الذي تخرج فيه الأوضاع عن دائرة السيطرة وتصبح الأطراف الداخلية مصدر خطر على المنظومة بالكامل وأن تقفز إلى الواجهة وتطيح الجميع وتتصدى لمهمة إنقاذ النظام والوضع والتفرد بالمشهد والإمساك بزمام الأمور، وتعمد إلى تركيب المشهد والسلطة بما يتناسب مع استراتيجيتها ورؤيتها الإنقاذية.
اندبندت عربي