القاهرة– في الشمال البعيد، اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية، في فبراير/ِشباط الماضي، لكنها أثرت -وبشدة- في جيوب المواطنين داخل مصر.
وحسب دراسة أجراها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء -جهة حكومية- فقد انخفضت دخول نحو 20% من الأسر المصرية جرّاء الأزمة الروسية الأوكرانية.
وتشير البيانات الرسمية إلى ارتفاع مستوى التضخم في سبتمبر/أيلول الماضي، لأعلى مستوياته خلال أربعة أعوام، حيث وصل لنحو 15%.
وبالتزامن، صرح وزير المالية محمد معيط أن العالم كله يواجه كارثة في الوقت الراهن تتمثّل في تحديات ارتفاع الأسعار وتكلفة التمويل، وأوضح -في تصريحات متلفزة- أن الصوت الأعلى حاليًا يتمحور حول الكساد والبطالة وتأثر معدلات التنمية.
وفي مايو/آيار الماضي أكد رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أن كلفة الأثر المباشر للحرب الروسية الأوكرانية على موازنة بلده تقدر بـ 130 مليار جنيه سنويًا، فضلًا عن تكلفة غير مباشرة تصل إلى 335 مليار جنيه سنويًا، “الدولار يعادل 24.37 جنيه”.
تأثر الأسر المصرية
أوضحت الدراسة التي حملت عنوان “أثر الأزمة الروسية الأوكرانية على الأسر المصرية” أن 36.9% من الأسر التي انخفض دخلها عانت من عدم كفاية الدخل، وأن 95% من تلك الأسر اعتمدت على الاقتراض للوفاء باحتياجاتها.
وذكرت أن التعطل عن العمل جاء في صدارة أسباب تأثر الدخل، ثم انخفاض الطلب على النشاط، تلاه خفض أصحاب الأعمال للأجور، وأخيرًا توقّف مشروعات بشكل مؤقت.
ويعتقد 94.1% من الأسر أن الأزمة الأوكرانية الروسية أثرت فيهم بشكل عام، وجاء ارتفاع أسعار السلع ضمن أهم مجالات التأثير بنسبة 99.2%.
إلى ذلك أفادت الدراسة التي شملت 17 ألفًا و710 أسر أن 65.8% من الأسر تأثر نمط إنفاقها على السلع نتيجة الأزمة، كذلك انخفض استهلاك حوالي 74% من الأسر من السلع الغذائية، وحوالي 90% من الأسر انخفض استهلاكها من البروتينات “لحوم وطيور وأسماك”، مقارنة بما كان قبل الأزمة.
كما أن نحو 85% من الأسر تغيّر نمط شرائهم من السلع؛ فأصبحوا يشترون ما يحتاجون إليه لمدة أسبوع فقط، مقارنة بنمط الاستهلاك قبل الأزمة.
معاناة مستمرة
في يونيو/حزيران 2020، أصدر الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، دراسة ترصد أثر جائحة كورونا على المشتغلين بمصر.
وأوضحت أن الجائحة أثرت في الحالة العملية لـ61.9% من المشتغلين بمصر، وأصبح 55.7% من المتشتغلين يعملون أيامًا أقل أو ساعات أقل من المعتادة، وتعطّل 26.2% عن العمل.
وأفادت الدراسة أن 73.5% من المشتغلين انخفضت دخولهم جراء الجائحة.
وفي تقرير صدر حديثًا، قالت منظمة العمل الدولية إن آفاق أسواق العمل العالمية ساءت خلال الأشهر الأخيرة، متوقّعة تدهور نمو التوظيف العالمي خلال الربع الرابع من العام الجاري.
وذكرت أن مستوى ساعات العمل في الربع الثالث من العام الجاري كان أقل بنسبة 1.5% من مستويات ما قبل الجائحة، ما يمثّل عجزًا قدره 40 مليون وظيفة بدوام كامل بمختلف أنحاء العالم.
تشكيك في الدراسة
من جهته شكّك أستاذ الاقتصاد بجامعة أوكلاند الأميركية مصطفى شاهين، في نتائج الدراسة التي أجراها مؤخرًا الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
وقال شاهين -في تصريحات للجزيرة نت- إن النظام المصري حاول ترويج الحرب الروسية الأوكرانية كونها سببًا لارتفاع الأسعار أمام الرأي العام المصري، وهو ما تدلّل عليه نتائج الدراسة الصادرة عن جهة رسمية.
وتابع شاهين “لقد أقنعوا الناس أن سبب غلاء السلع يعود لأسباب خارجية رغم أن المشكلة داخلية بالأساس”، وتساءل مستنكرًا “ما علاقة الفلّاح الذي يعمل في الحقل أو العامل في المصنع بحرب خارجية، لماذا ينخفض دخلهما جراء أزمة بين روسيا وأوكرانيا؟”.
وأشار إلى قرارات حكومية كان من شأنها خفض دخول المصريين وتعطلهم عن العمل، مثل قرار وقف البناء في المدن وعواصم المحافظات، الذي أدّى إلى تعطّل عشرات الآلاف عن العمل.
وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد شدّد في أكثر من مناسبة على عدم الموافقة على السماح بالبناء إلا بعد وضع آليات وضوابط عمل محددة، تفاديًا لعشوائية البناء التي تشهدها البلاد منذ عقود.
وخلال كلمته في الجلسة العامة لمجلس النواب -التي انعقدت الأسبوع الماضي- استنكر النائب عبد العليم داوود القرار الحكومي بوقف البناء في المدن وعواصم المحافظات لعشر سنوات.
وقال إن “قرار وقف البناء تسبّب في توقّف 5 ملايين مصري عن العمل”، مضيفًا أن الحكومة لا تشعر بمعاناة المواطنين.
وأوضح أستاذ الاقتصاد بجامعة أوكلاند الأميركية أنه “من المنطقي أن ترتفع أسعار سلع معيّنة مثل القمح كوننا نستورد غالبية احتياجاتنا منه من الدولتين المتحاربتين، لكن من غير المنطقي أن تنخفض دخول المواطنين بسبب الحرب”.
وتعدّ مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، وشكّلت واردتها من القمح من روسيا وأوكرانيا نحو 80% من احتياجاتها العام الماضي.
وأكّد شاهين معاناة الاقتصاد المصري من الانغلاق والركود قبل سنوات من اندلاع الحرب، مشيرًا إلى لجوء النظام إلى تحرير سعر الصرف في 2016 بسبب تلك المعاناة الاقتصادية، ما يثبت أن الحرب بعيدة كسبب لتأزم الوضع الداخلي.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2016، حرّرت الحكومة المصرية سعر صرف العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، لينخفض سعر الجنيه أمام الدولار بأكثر من 57%، وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عاودت تحرير سعر الصرف لينخفض الجنيه بنحو 23%.
تسويغ الانهيار
وبنظرة التشكيك نفسها في نتائج الدراسة الحكومية، رأى رئيس المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام مصطفى خضري أن الجهاز المركزي للإحصاء ورّط نفسه في تسويغ الانهيار الاقتصادي الذي تعيشه البلاد.
وقال خضري -للجزيرة نت- إن الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها المواطن المصري سببها السياسات الخاطئة للنظام، “ولقد خالف باحثو الجهاز المركزي للإحصاء ضميرهم العلمي بوضع الحرب الروسية الأوكرانية شماعة لستر سوأة النظام” وفق تعبيره.
ليس ذلك فحسب، فلربما كان للحرب الروسية الأوكرانية تبِعات إيجابية على الاقتصاد المصري حال استغلال الأزمة بشكل صحيح، من وجهة نظر خضري.
وأردف “كان يمكن للحرب أن تؤثر إيجابيًا في الاقتصاد المصري لو تم استغلال الحظر المفروض على روسيا كما استفاد الاقتصاد التركي، ولكن نظرًا لغياب التخطيط الاقتصادي وتخبّط الإرادة السيادية؛ فقدنا فرصًا كثيرة كان يمكن لها أن تدفع الاقتصاد المصري إلى المنطقة الآمنة”.
تأثيرات عميقة
مسار التقليل من أثر الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد، يعدِل عنه الكاتب الصحفي محمد طنطاوي إذ رأى أن خريطة ثروات روسيا وأوكرانيا كفيلة أن تُحدث تأثيرات عميقة على الاقتصاد العالمي، تستمر لسنوات طويلة، ما دامت وتيرة الحرب لا تبشّر بحل سياسي.
وأوضح في مقال حمل عنوان “روسيا وأوكرانيا سلة غذاء العالم.. حقيقة لم نعرفها قبل 9 أشهر”، أن نقص إمداد العالم بالسلع الغذائية والنفطية التي تمتلكها كلتا الدولتين المتحاربتين له بتعات كارثية على الاقتصاد العالمي.
وتابع طنطاوي “خطورة نقص أو اضطراب سلاسل الإمداد في العالم كله، لا تنعكس على نقص السلع أو تأثر صناعات بعينها فقط؛ لكن لها تبعات مباشرة على مناخ الاستثمار والأعمال ومعدلات النمو، وتسهم في أن يتّجه كل مستثمر إلى خطط بديلة واستراتيجيات مختلفة للتوسعات المستقبلية”.
وختم قوله بأن المصريين كانوا قبل 9 أشهر يتحدثون عن حرب تبعد عنهم آلاف الكيلومترات، ولم يدرك أحد أن التأثيرات الاقتصادية والسياسية المباشرة وغير المباشرة أشبه بتسونامي يعصف بالعالم شمالًا وجنوبًا دون رحمة.
وضع أسوأ من أوكرانيا
عبر منصات التواصل الاجتماعي يتحدث مصريون عن كون الحرب الروسية الأوكرانية أثّرت في اقتصادهم وحياتهم اليومية أكثر من الروس والأوكرانيين أنفسهم.
وعدّ الباحث مصطفى خضري أن تصنيف المصريين لوضعهم بالأسوأ من الأوكرانيين نوع من السخرية السوداء. وأضاف أن المجتمع المصري يتمتع بروح تهكّمية يتغلّب بها على الضغط النفسي الذي يعانيه من سياسات الحكومة.
غير أنه استدرك قائلًا “ولكن لسخريتهم منطق حيث؛ إن النظام المصري استغلّ الحرب الأوكرانية الروسية في تمرير سياسات نقدية كارثية أدت إلى انهيار اقتصادي”.
المصدر : الجزيرة