يرتقب أن تنطلق الأسبوع المقبل جولة جديدة من المفاوضات بين حكومتي بغداد وإقليم كردستان العراق لصوغ اتفاق جديد حول الملفات الخلافية المتراكمة في ظل عقبات يواجهانها لإيجاد مخرج للقرارات القضائية العليا الصادرة ضد إدارة النفط الكردي، فيما يرجح مراقبون أن يقتصر الاتفاق “في أفضل الأحوال” على الملفات الثانوية في ظل الصعوبات التي تعترض الملفات الساخنة، على رغم الحديث عن تلقي الأكراد مسبقاً “بعض الضمانات”.
وغالباً ما كانت الاتفاقات تتعثر بين الطرفين منذ عام 2009، لجأ خلالها الأكراد إلى تصدير نفطهم بمعزل عن بغداد، بينما أقدمت الأخيرة على قطع حصتهم في الموازنة الاتحادية، ومما زاد المشهد تعقيداً كان إصدار المحكمة الاتحادية وهي أعلى سلطة قضائية في البلاد حكماً في فبراير (شباط) الماضي، يقضي “بعدم دستورية قانون النفط والغاز الصادر عن برلمان الإقليم في عام 2007، وبطلان عقود الإقليم المبرمة مع الشركات الأجنبية”، إلا أن أربيل رفضت القرار ووصفته بـأنه “سياسي غير دستوري”.
وكانت الحكومتان توافقتا على صيغة اتفاق منذ عام 2014 تلزم الإقليم تسليم نسبة من إنتاجه النفطي أو من إيرادته لبغداد، أو استقطاع نسبة من حصة الإقليم في الموازنة الاتحادية، قبل أن يتعثرا في أعقاب انتخابات العام الماضي التي أفرزت انقسامات داخل كل كتلة لتولد تحالفات بخلاف العرف السياسي الذي نشأ على “ركائز طائفية وعرقية” منذ أول انتخابات شهدتها البلاد في عام 2003.
وتتركز النقاط الخلافية الرئيسة إلى جانب النفط، على حصة الإقليم في الموازنة الاتحادية، وتطبيق المادة 140 من الدستور الخاصة بحسم مشكلة المناطق موضع النزاع بين الطرفين، وأبرزها محافظة كركوك النفطية.
ضمانات على الورق
وفي رد على التساؤلات المطروحة يرى الباحث السياسي أحمد أبو عباتين أن “الورقة الكردية في هذه المفاوضات ستكون ضعيفة لأن الكرد فقدوا اليوم ثقلهم عندما كانوا يلعبون دور بيضة القبان في توافقات تشكيل الحكومة واختيار الرئاسات، وكانوا أيضاً يمتلكون عنصراً دولياً داعماً لهم في فترة لم يكن العراق آنذاك يمثل أولوية دولية”. وأضاف “غالباً ما يتم الحديث عن حصول الكرد على ضمانات على مستوى الوعود التي لا تتحقق عادة، وأغلبها تقتل على مسرح تعارضها مع الدستور، وتتلاشى على مسرح الممارسة اليومية”.
ويبدو أن التغييرات التي طرأت على المشهد السياسي قد لا تساعد في تحقيقات نتائج حاسمة في المفاوضات على وفق أبو عباتين الذي قسم الملفات الخلافية بين “رئيسة وأخرى ثانوية”. وقال إن “هناك ملفات ساخنة يصعب على الكرد أن يحققوا بشأنها مكاسب، لأن من يرشح رئيس الوزراء يجب أن يحظى بالأغلبية لكون بعض القرارات تحتاج إلى كتلة نيابية ذات ثقل عددي مؤثر وتشريعات، بخاصة أن التحالفات قد تشظت ولم يعد هناك من يمتلك 90 مقعداً أو أكثر، وإن كان الإطار التنسيقي يمتلك ثقلاً، لكنه مقسوم على سبعة أو ثمان قوى”. واستدرك “لكن الكرد قد يحصلون على ملفات ثانوية أخرى تتعلق بالموازنة والمرتبات وتخصيصات قوات البيشمركة (الكردية) والمتعلقة بالتنسيق الأمني في مناطق محددة، لكن على مستوى الملفات الكبيرة أعتقد أن لا الظروف ولا الوضع السياسي يسمحان بذلك”.
وكان الخلاف بلغ أوجه في يونيو (حزيران) الماضي، عندما أعلن وزير المالية في الحكومة السابقة علي علاوي أن “قرارات المحكمة الاتحادية لا تسمح بمنح الإقليم حصة من الموازنة، إلى حين حسم ملف إدارة نفطه الذي فقد شرعيته”. وهدد علاوي آنذاك “بقطع المبلغ الذي يحول شهرياً إلى الإقليم والبالغ 136 مليون دولار”.
شروط مسبقة
ووفقاً لتسريبات صحافية متداولة، فإن المطالب الكردية في إطار اتفاق تشكيل حكومة محمد شياع السوداني تتضمن تشريع قانون النفط والغاز وإعادة إطلاق حصة الإقليم في الموازنة، فضلاً عن إعادة المناصب التي كانت من حصة الكرد في مناطق موضع النزاع، بخاصة في محافظتي كركوك ونينوى وكذلك في صلاح الدين، مع السماح بإعادة فتح مقار ومكاتب القوى الكردية بعد أن كانت انسحبت على وقع إجراءات عقابية اتخذتها بغداد في عام 2017 ضد الإقليم لخوضه استفتاء للانفصال.
وبشأن إمكان الطرفين القفز على قرارات المحكمة الاتحادية، يعتقد أبو عباتين أن “كل القرارات الصادرة عن أدنى المحاكم عندما تكتسب الدرجة القطعية فإن لها الولاية الجبرية المطلقة للتنفيذ ولا يستيطع أحد مخالفتها، فكيف بقرارات صادرة عن أعلى محكمة دستورية في البلاد المتمثلة بالمحكمة الاتحادية العليا التي لقراراتها الولاية الجبرية والمطلقة واجبة التنفيذ”. وختم حديثه بالقول “قد يحصل هناك وهناك مناورات وتسويف لكن من الصعوبة تجاوزها”.
من جهته أعطى الباحث السياسي ياسين عزيز نظرة شبه متشائمة عن إمكان تحقيق نتائج “على رغم ما قيل عن إبرام اتفاق مسبق”، فرأى أن “هناك سؤالاً يفرض نفسه الآن وهو ما الضمانات المقدمة لتنفيذ الاتفاق واقعياً، وألا يتعثر كما حصل مع الحكومات السابقة؟”. وأوضح أن “المفاوضات لن تكون سهلة وستطول، ولست متفائلاً في أن يحقق الطرفان تفاهماً متيناً يمكن أن يستمر طيلة ولاية السوداني، لأن مسألة النفط أصبحت رهن قرارات المحكمة الاتحادية وتحتاج إلى مخرج قانوني، وكذلك الموازنة التي تترابط مع ملفات النفط والمعابر وإيرادات الإقليم. وفي أفضل الأحوال يمكن أن يحققا تفاهماً لمدة محددة على أن يعودا إلى الاتفاق السابق الذي ترسل بموجبه بغداد مبلغ 136 مليون دولار إلى الإقليم لدفع مرتبات موظفيه”.
هذه التوقعات أتت متوافقة مع رؤية المحلل الاقتصادي نبيل المرسومي الذي قال مستنداً إلى مصادر كردية إن “حصة الإقليم في موازنة 2023 ستبقى على ما كانت عليه في موازنة العام الماضي مع احتفاظه بإيراداته النفطية، على أن يتم احتساب الصرف بدءاً من الشهر الحالي، لكن لا يمكن التأكد من دقة المعلومات إلا بعد استكمال مشروع الموازنة”، مبيناً أن “الخطوة هي جزء من الاتفاق السياسي الذي تشكلت حكومة السوداني على أساسه”.
إلا أن النائب مصطفى جبار سند أعلن أن دعوته التي كان رفعها في سبتمبر (أيلول) الماضي ضد تحويل حكومة بغداد الأموال إلى الإقليم “ما زالت قائمة”، وقال “لا يمكن لأية حكومة أن ترسل مبالغ في حال كسبت الدعوى”.
غلبة السياسة على القضاء
لكن الباحث ياسين عزيز لم يستبعد إمكان إيجاد مخرج قانوني من مشكلة قرارات المحكمة الاتحادية “إذا ما امتلك الطرفان الإرادة، فالسياسة في بلد مثل العراق تغلب على القضاء كما هو معلوم”، لافتاً إلى “تلميحات وردت في البرنامج الحكومي تشير إلى إمكان تعديل بعض هذه القرارات خلال مدة لا تتجاوز ستة أشهر”. وبشأن تقييمه للثقل الكردي في المفاوضات قال “طالما هناك تشتت في القرار بين الحزبين الكرديين الرئيسين (الديمقراطي بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد بزعامة بافل طالباني) فإن ثقل الكرد من الواضح أنه سيكون ضعيفاً للغاية، ويبدو أن الإطار التنسيقي هو الطرف الأقوى في فرض الشروط”.
خلاف مركب
أما المحلل السياسي رمضان البدران فوصف من جانبه الخلاف بأنه “مركب من مزاد سياسي وسوء فهم في نوع العلاقة في إطار نظام اتحادي رسم ملامحه الدستور، مع التداخل الذي حصل مع القضاء، مما زاد المشهد تعقيداً ليخلط بين الشأنين السياسي والقضائي”. وقال إن “محاولة الفهم الدقيق للمعضلة ستمهد لحلول تغني عن فرض الهمينة كوسيلة دعائية لإبراز قوة الآخر وحرصه على البلد، وكأن الهيمنة على كردستان هي إظهار حكم صارم ومنطو”.
وإزاء جوهر الأزمة يعتقد البدران أن الإقليم “مارس في البداية سياسة صحيحة مبنية على مواد وفقرات الدستور المتعلقة بالحقول غير المستكشفة التي بنيت على مبدأ اقتصادي وإداري بأن المستكشف ينفق عليه المال، والإنفاق كان من موازنة الإقليم، أما غير المستكشف فهو مخاطرة في اللايقين، بالتالي فإن الدستور منح للسلطات المحلية مساحة للاستثمار في مناطقها المحلية كما في المجالات الاقتصادية الأخرى”، لافتاً إلى “حق بغداد في فرض ضربية على الإقليم إذا لم تكن تستطع أن توقف إنتاجه، لأن المادة الأولية المستخرجة من تحت الأرض هي ملك للشعب العراقي بالتالي لك أن تسد تكاليف الإنتاج كافة، وأن تأخذ ربحاً على أن تعطي نسبة كضريبة للدولة، وكردستان دورها لا يختلف عن أية شركة نفطية تأتي بها من الخارج فالفكرة مشابهة”.
سلطة مركزية
ورهن البدران توصل الطرفين إلى اتفاق جديد “بمدى الصلاحيات الممنوحة للسوداني ورغبته في التعامل بمنهجية، شرط التخلي عن فكرة أن بغداد وحدها تملك العراق، أما إذا ما زالت هناك رغبة في إضفاء مهرجانات إعلامية من التنمر والسيطرة الشكلية لإقناع الشارع بالحرص فلا يمكن الحديث عن نتائج”، مردفاً أن الحل يكمن “في أن يدفع الإقليم ضريبة عما ينتجه، على ألا يكون له حق التصدير إلا من خلال الشركة الوطنية ويستلم الأموال عبر وزارة المالية الاتحادية، كما ليس من حق حكومة بغداد كما حصل مع رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، التحكم بهذه الأموال لمساومتها على تصفية الحسابات، مما أحرج الإقليم أمام الشركات الأجنبية وأجبره على مخالفة القانون”.
ويرى البدران أن “الدولة يجب أن تسير بقانون، لأن بغداد أدارت الثروة النفطية وفق قوانين النظام السابق وبصلاحيات كاملة لمجلس الوزراء من دون الحاجة للعودة إلى البرلمان، وهذا يخالف الدستور عندما يقول إن هذه الثروات هي ملك للشعب”، معتبراً أن “كردستان عندما شرعت قانوناً للنفط والغاز خاصاً بها تقدمت خطوة دستورية على بغداد التي ما زالت متخلفة لا تملك قانوناً مماثلاً، وليس لممثلي الشعب في هذا الجانب كلمة، إذ تدار الأمور بطريقة ارتجالية واجتهادية من قبل حكومة تتغير كل يوم، في حين كان بالأحرى أن تجبر المحكمة الاتحادية حكومة بغداد على إصدار قانون خاص”.
اندبندت عربي