ساهمت أجهزة التصوير الثابتة والهواتف المتنقلة في توثيق شرائط فيديو عديدة للحظة وقوع انفجار في شارع الاستقلال في مدينة إسطنبول أمس، ورصدت الكاميرات ردود فعل الكثيرين من الذين تصادف تواجدهم في تلك المنطقة الأكثر ازدحاما في العاصمة الاقتصادية لتركيا وواحدة من أشهر المدن في تاريخ الحضارات الإنسانية.
حسب الصور والشرائط لتلك الدقائق الأولى التي رافقت الحدث، يبدو أن عبوة التفجير دمرت أحد الشتول الكبيرة في الشارع بحيث اختفى جزء كبير منه وظهر فوقه وقربه عدة قتلى وجرحى، فيما يقوم بعض المارّة أو العاملين في الحيّ بتفقّد بعض المصابين، وتبع ذلك هروب كثيرين رعبا وتقاطر سيارات الإسعاف والأمن.
تساعد هذه الصور واللقطات عناصر الأدلة الجنائية على تحديد إن كانت الواقعة، كما أعلن نائب الرئيس التركي فؤاد أوقطاي، سببها «تفجير امرأة نفسها وسط المارة».
سيعيد هذا التذكير بحوادث مشابهة، منها ما حصل في الشارع نفسه عام 2016، حين وقع انفجار انتحاري أسفر عن سقوط أربعة قتلى وإصابة 36 آخرين، وكان ذلك جزءا من هجمات انتحارية عديدة تزايدت كثيرا في ذلك العام، بينها عملية لانتحارية فجرت نفسها أمام مسجد بورصة شمال غرب البلاد فأصابت 13 شخصا بجروح، وكذلك شابة أخرى فجرت نفسها في أنقرة وجرحت 37 شخصا، وكان آخر وقائع هذا المسلسل هجوم مسلحتين كرديتين على قوات الشرطة في محافظة مرسين الساحلية في شهر أيلول/سبتمبر الماضي ثم تفجير نفسيهما مما أدى لمقتل ضابط شرطة وجرح ضابط آخر ومدني.
لم يكن حزب العمال الكردستاني هو الهاجس الأمني الوحيد في تركيا، حيث ساهم صراع تركيا مع تنظيم «الدولة الإسلامية» في قيام التنظيم بهجمات إرهابية كبيرة، منها تفجيرات سروج وديار بكر وأنقرة والريحانية بين الأعوام 2013 و2015، وصولا إلى دخول الدولة التركية في حرب مع التنظيم، وسماحها للقوات الأمريكية باستخدام قاعدة أنجرليك الجوية في الحرب ضد التنظيم في العام 2015، والتي انتهت بدخول قوات الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» للموصل عام 2016.
من اللافت، على مستوى تحليل الأحداث الآنفة في تركيا، أن استكمال إنهاء سيطرة تنظيم «الدولة» على سوريا تم على يد قوات حزب العمال الكردستاني السورية (قوات سوريا الديمقراطية) للتنظيم من مدينة الرقة عام 2017، وإذا كان هذا قد أنهى خطر التنظيم الإرهابي في سوريا والعراق، وبالتالي في تركيا أيضا، فإنه لم ينه، وربما ساهم في تأجيج الخلاف التاريخي الطويل الأمد بين أنقرة و«جبال قنديل» العراقية، مركز قيادة الحزب المذكور، الذي يسيطر حاليا على أجزاء كبيرة من سوريا، وبعض مناطق العراق، بدعم كبير من الولايات المتحدة الأمريكية.
رغم توافر عناصر الاشتباه المعتادة في حزب العمال الكردستاني في الحدث الإرهابي الأخير في شارع الاستقلال في إسطنبول، ووجود أسباب عديدة، منها الهجمات المتكررة على مواقع الحزب في العراق وسوريا، والضغط التركي الحاصل في موضوع أنشطة الحزب في السويد وفنلندا (وحتى توجيه الاتهام لعمدة إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، المعارض القوي لحزب «العدالة والتنمية» والذي ساهمت أصوات الأكراد والعلويين في إسطنبول بفوزه عام 2019) فإن من المبكّر القفز نحو هذا الاستنتاج.
الأكيد، على أي حال، في الحدث الأخير أن المقصود منه كان إيقاع أكبر عدد ممكن من المشاة الأبرياء، وتسديد ضربة أمنية خطيرة للدولة التركية، تعيد تذكيرها بأن أيام الإرهاب وترويع المدنيين لم تنقض بعد.