أجمل ما في الحراك الذي تشهده إيران هذه الأيام أنه كسر كثيراً من المحرمات التي سبق أن فرضتها السلطة على الحياة العامة والسياسية والإعلامية، وإن لم تصل هذه الانتفاضة إلى طموحها في التأسيس لتغيير حقيقي في سلوك النظام وأجهزته أو حتى إلى الانقلاب عليه، إلا أن كسرها هذه المحرمات لن يكون من السهل التخلي أو التراجع والعودة عنه، حتى وإن استطاعت أجهزة السلطة إعادة فرض قبضتها والسيطرة على الشارع والاعتراضات.
ويبدو أن الإعلام التقليدي الذي يعتبر الذراع الفاعلة لدى القوى المعارضة، وبخاصة الإصلاحيين، في ظل غياب القدرة على إنشاء وسائل تستخدم التقنيات والتكنولوجيات الحديثة القادرة على الوصول الأسهل للمخاطب، أصبح المستفيد الأبرز من هذا الحراك، إذ عادت صفحات الصحف اليومية لممارسة دورها في انتقاد ما يجري من ممارسات تقوم بها الأجهزة الأمنية، والحديث عن ضرورة إجراء إصلاحات جذرية في بعض مفاصل النظام، والاعتراف بالتعددية والتنوع وحقوق الأقليات وحريات التعبير والرأي، وإعادة النظر في إلزامية الحجاب وإسقاط الحصانة عن الأجهزة الأمنية ومحاكمة المرتكبين والفاسدين من داخل النظام ومؤسساته الإدارية والعسكرية والسياسية والاقتصادية.
أن تنشر بعض الصحف والمواقع الإخبارية الرسالة التي وجهها الرئيس الأسبق محمد خاتمي وقدم فيها رؤيته للأزمة التي تعيشها إيران وآليات الحل القادرة على إعادة ضبط الأوضاع على صدر صفحاتها الأولى مرفقة بصورة واضحة له، يعني أن ظل الأجهزة الأمنية والرقابة بدأ بالتراجع والتراخي، وإن هذه الصحف والمواقع لم تعد تجد نفسها ملزمة بتنفيذ رغبة وإرادة المرشد الأعلى الذي فرض عليها عبر الأجهزة ممارسة مقاطعة قاسية وشاملة لأي خبر يتعلق ويرتبط بالرئيس خاتمي على مدى السنوات الـ 20 الماضية بعد خروجه من السلطة التنفيذية.
ولعل من أكثر الأشياء المتفق عليها خلال العقود الثلاثة الماضية من عمر النظام الإيراني حال الرقابة الشديدة والمتشددة التي فرضها النظام وأجهزته على وسائل الإعلام، بخاصة منذ أواخر عهد الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني، وبداية ظهور صحف جديدة من خارج الصحافة الرسمية التي كانت مختصرة في أبرز ثلاث مؤسسات صحافية هي “كيهان” و “إطلاعات” التي انتقلت إلى الجمهورية الإسلامية بالأسماء نفسها التي كانت عليها زمن الشاه والنظام الملكي، وبالمهمات نفسها في الدفاع عن النظام، ثم انضمت إليها صحيفة “جمهوري إسلامي” التي تأسست على هامش الحزب الجمهوري الذي كان من المفترض أن يكون بديلاً لحزب “رستاخيز” (البعث) الملكي، لتكون منبراً للتعبير عن أفكار الحزب وأطروحة الجمهورية الإسلامية.
ولعل الأحداث التي شهدتها السنة الأولى لرئاسة محمد خاتمي وانتهت بفاجعة السكن الطلابي لجامعة طهران كانت على خلفية قرار السلطة القضائية للنظام إقفال صحيفة “سلام” التي كان يترأسها أحد أبرز الوجوه الثورية ومرشد الطلاب الذين احتلوا السفارة الأميركية عام 1979، موسوي خوئينيها، إذ استخدم النظام القوة الغاشمة في التصدي لتحرك الطلاب، وتولى رئيس البرلمان الحالي محمد باقر قاليباف قيادة القوة المهاجمة التي قتلت واعتقلت الطلاب حينها.
وعلى رغم أن عهد خاتمي يمكن وصفه بالعهد الذهبي للصحافة والحريات الإعلامية النسبية، إذ شهد انفجاراً في الصحافة المكتوبة إلى جانب ظهور بوادر على إمكان التأسيس لما يمكن اعتباره “تعددية حزبية” دفعت كل حزب للحصول على امتياز لصحيفة يومية تكون منبراً إعلامياً يتواصل عبرها مع قواعده الشعبية، بخاصة في ظل عدم قدرة أي من هذه الأحزاب وقياداتها على اختراق جدران مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التي أحكم النظام قبضته عليها وحولها إلى منصة لمحاربة المشروع الإصلاحي، بخاصة أن الإشراف على هذه المؤسسة يقع ضمن صلاحيات المرشد الأعلى الذي وحده له الحق في تعيين رئيسيها، فضلاً عن اتساع دائرة هذا النفوذ للتدخل في تعيين مديري القنوات وكبار المسؤولين فيها وتفرد النظام بالإعلام المرئي، جاء بناء على القوانين التي وضعها ونصت على حصرية الإعلام المرئي في يد النظام.
وعلى رغم أن عهد خاتمي في رئاسة الجمهورية (1997 – 2005) شهد انفجاراً إعلامياً بالتزامن مع نوع من حرية التعبير والرأي النسبية، فإن النظام وقائده الأعلى الذي لم يستطع استيعاب هذا التحول والتكريس الشعبي عبر صناديق الاقتراع لخطاب إصلاحي يتعارض أو يشكل الضد النوعي لخطابه السلطوي اليميني المتشدد، عمل بكل ما يملك من إمكانات وقدرات وطاقات لإفشال هذه التجربة وتفريغها من عناصر قوتها، فكان أن شكل وحدة مختصة لتجهيز ملفات قضائية للصحف والصحافيين داخل جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحت إشراف مكتب المرشد مباشرة، لتكون الذراع لمحكمة الصحافة التي شكلها لملاحقة الكُتاب السياسيين والإعلاميين والصحف، ووضع على رأسها القاضي الإشكالي سعيد مرتضوي الذي سيدان لاحقاً بارتكاب مخالفات انتهاك حقوق الإنسان ضد معتقلي الثورة الخضراء، وهو الذي أصدر في يوم واحد أحكاماً قضائية بإقفال أكثر من 100 صحيفة ومجلة محسوبة على الإصلاحيين، في أكبر مجزرة بحق حرية التعبير والرأي.
وإذا ما كان الناشطون الإعلاميون لم يستسلموا لإرادة قاضي النظام، ولم يتخلوا عن مشروعهم الإعلامي على رغم اعتقال عدد كبير منهم وزجهم في سجن “إيفين” الشهير، فكان أن تمسكوا بهذا الحق بغض النظر عن الأخطار والملاحقات التي مورست في حقهم بشجاعة عالية، بخاصة أن ذاكرتهم القريبة سبق وأن واكبت تداعيات الكشف عن حلقة القتل التي شكلتها الأجهزة الأمنية لاغتيال المفكرين والصحافيين في أوائل عهد خاتمي والتي عرفت بجرائم القتل المتسلسل بقيادة مساعد وزير الأمن والاستخبارات سعيد إمامي.
الإرهاب الإعلامي الذي مارسته أجهزة النظام دفع الصحافة الإصلاحية أو غير الموالية للسلطة والمنظومة الحاكمة إلى اجترار آليات للتعامل مع الأخبار، تهدف لعدم تقديم الذرائع لهذه الأجهزة لقمعها أو إقفالها بسهولة، وبات معظم الكُتاب والصحافيين والصحافة يمارسون “رقابة ذاتية” على ما يكتبون مع اعتماد التحايل والإيحاء لإيصال الفكرة التي يريدونها بأقل قدر من الأخطار، وكان شعارهم في ذلك أن “الاستمرارية بالحد الأدنى من الحريات أفضل من إعطاء النظام وأجهزته جائزة أو مكافأة مجانية”.
النظام الإيراني وأجهزته وجدوا في انتفاضة عام 2009 أو ما سمي “الحركة الخضراء” فرصة لممارسة ما تبقى في جعبتهم من وسائل وأساليب لملاحقة الأصوات الإعلامية، وبات سهلاً عليهم ترجمة سياساتهم وموقفهم السلبي والاتهامي والتخويني الذي ينظرون به إلى الإعلاميين غير الموالين بأنهم “أقلام مأجورة” في خدمة أعداء الثورة والنظام، ويتلقون أوامرهم وتوجيهاتهم من أجهزة المخابرات الدولية والإقليمية لضرب النظام وإضعافه تمهيداً لإسقاطه والانقلاب عليه.
ولم يسلم خاتمي من هذه الحملة العشوائية التي شنها النظام في لحظة توتر شديدة نتيجة حركة الاعتراض السياسي التي نشأت حول محور المطالبة بأصوات المقترعين في الانتخابات الرئاسية التي زورت، وسجلت باسم مرشح النظام محمود أحمدي نجاد على حساب مير حسين موسوي ومهدي كروبي، فكان أن وصف النظام هذا الحراك بأنه “فتنة” بقيادة خاتمي، وفتحت أبواب السجون لاستقبال أكثر من 300 شخصية من القيادات السياسية والإعلامية والاجتماعية والإصلاحية، فضلاً عن أعداد كبيرة من الشباب المعترض الذين قتل عدد منهم تحت التعذيب بإشراف القاضي مرتضوي.
واستكملت حملة ومعركة النظام بفرض حصار إعلامي على خاتمي، فمنعت الصحف من وضع صوره أو إدراج اسمه في أي من الأخبار التي تنشرها، مما اضطرها إلى استخدام مصطلحات وتعبير مثل “الرئيس السابق للرئيس أحمدي نجاد” أو الرئيس الخامس”، حتى وصل الأمر بالرقابة إلى فرض تشويه أو محو وجهه إذا ما اضطرت إلى نشر صور أنشطة يشارك فيها.
اندبندت عربي