الزيارة الأخيرة التي قام بها قاسم توكاييف رئيس كازاخستان إلى موسكو جاءت مواكبة لزيارة مماثلة قام بها فياتشيسلاف فولودين رئيس مجلس الدوما إلى أوزبكستان المجاورة، وهو ما يكشف ضمناً عن حراك “جيوسياسي” ثمة من يقول إنه بات تعبيراً عن “صحوة روسية” تستهدف العودة إلى “لم الشمل” مع أصدقاء الأمس القريب. وثمة من يربط بين هذه التحركات على الصعيد الأوروآسيوي، وما ترومه موسكو من إعادة ترتيب أوراقها في آسيا الوسطى بعد فترة لم تطل كثيراً من “التوتر المكتوم” في علاقات موسكو مع بلدان هذه المنطقة، وهو ما ظهر على السطح خلال الأسابيع القليلة الماضية، وما تناولته “اندبندنت عربية” في تقارير سابقة لها من موسكو. وذلك في توقيت تتواصل فيه المعارك القتالية على خطوط التماس الروسية – الأوكرانية على وقع ما يحتدم من نزاعات “غير معلنة” بين أطراف الداخل الأوكراني، يزيد من حدتها تذمر أوروبي “مكتوم” ثمة من يعزوه إلى ما تعانيه شعوب القارة العجوز من متاعب اقتصادية وسياسية.
رفاق الأمس
مقدمة تتباين مفرداتها بين التوجه نحو ما هو أقرب إلى محاولات لم الشمل من جانب، وارتباك العلاقات بين رفاق الأمس من جانب آخر، ما يقول باحتمالات تحولات جذرية على صعيد الواقع الأوروآسيوي. وكان قاسم توكاييف رئيس كازاخستان “فاجأ” الأوساط السياسية المحلية والعالمية بزيارة رسمية لموسكو، في أعقاب سلسلة من “الملاسنات” الكلامية تعبيراً عما كان يحتدم من جدل حول علاقات البلدين. وقد كشفت الزيارة الأخيرة عن رغبة مشتركة في تحقيق مزيد من التوافق بعيداً عما يتعرض له الجانبان من ضغوط تتباين بقدر تباين مواقع كل من البلدين وسياساته تجاه الأزمة الأوكرانية، على غير ما حاول الإعلام “شبه الرسمي” في كل من البلدين تصويره. ومن هنا يتوقف المراقبون في كل من موسكو والأستانة عند اختيار توكاييف رئيس كازاخستان لموسكو محطة أولى في سلسلة زياراته الخارجية، بكل ما يعنيه ذلك من دلالات.
وذلك ما حرص على الإشارة إليه كل من الرئيسين فلاديمير بوتين وتوكاييف، في إشارة لا تخلو من مغزى إلى أجهزة الإعلام في كل من البلدين، التي تعجلت “الأحكام” من منظور “تعليمات قديمة” على ما يبدو. وكانت أجهزة الإعلام “شبه الرسمية” ممثلة في برنامج “أمسية مع سولوفيوف”، استبقت زيارة رئيس كازاخستان لموسكو بعدد من التقديرات التي انطلقت في تقديرها للزيارة من مواقف يغلب عليها الطابع غير الودي. ونقلت “نيزافيسيمايا غازيتا” (الصحيفة المستقلة) ما تناوله برنامج “سولوفيوف” المحسوب على الكرملين، حول العلاقات بين روسيا وكازاخستان. وتوقفت الصحيفة عند ما قاله خبير الشؤون السياسية دميتري دروبنيتسكي حول أن “كازاخستان يمكن أن تصبح المشكلة التالية لروسيا”، في إشارة إلى احتمالات تكرار ما يحدث على صعيد العلاقات الروسية- الأوكرانية. ومضى الخبير الروسي ليبرر ما خلص إليه من استنتاج بقوله “العمليات النازية نفسها الموجودة الآن في أوكرانيا يمكن أن تبدأ هناك أيضاً”، فضلاً عن إشارته إلى أن “هناك أيضاً كثيرين من الروس، والأراضي هناك. أنا آسف، وسيميبالاتينسك هناك (في شمال كازاخستان)، والوقود النووي لجميع روساتوم لدينا موجود أيضاً”، بما يعني وجود الخلافات حول الأراضي والتذكرة بالوضعية النووية السابقة لكازاخستان، على غرار ما كانت عليه أوكرانيا، وما أثاره الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تبريراً لما أعلن عنه حول ضرورة استعادة بلاده وضعيتها النووية.
الشراكة الاستراتيجية
وذلك ما أثار ضجة واسعة النطاق في الأوساط الكازاخستانية، وما سارع رومان فاسيلينكو نائب وزير خارجية كازاخستان إلى الرد عليه بقوله “إن مثل هذه التصريحات تضر بالعلاقات الوثيقة تقليدياً بين كازاخستان وروسيا وتستحق رد فعل مماثل من السلطات الروسية”. أما عن الرد فقد صدر على الفور على لسان دميتري بيسكوف الناطق الرسمي باسم الكرملين الذي أشار إلى وجود القوى التي تخطئ تقدير علاقات البلدين، مؤكداً ضرورة عدم الالتفات إلى ما يقولون، بل و”عدم مشاهدتهم”، على حد تعبيره. واستشهدت مصادر الجانبين بما قاله الرئيس بوتين في برقية التهنئة التي بعث بها إلى نظيره الكازاخستاني بمناسبة فوزه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة حول أن “علاقات الشراكة الاستراتيجية والتحالف بين أستانة وموسكو القائمة على التقاليد الجيدة للصداقة وحسن الجوار والاحترام المتبادل تتطور بنجاح كبير”، فضلاً عن تقديره قرار الرئيس الكازاخستاني لاختيار موسكو محطة أولى لسلسلة زياراته الخارجية، انطلاقاً مما قاله توكاييف حول “الأهمية السياسية العميقة” لزيارته روسيا الاتحادية التي كانت ولا تزال الشريكة الاستراتيجية الرئيسة، والدولة التي تربطنا بها علاقات عميقة في مختلف الصناعات”، إلى جانب “رمزيتها المؤكدة”، على حد تعبيره.
صادرات الغاز
ومن هذا المنظور يبدو حرص موسكو واضحاً على تجاوز ما يتناثر على الطريق من عثرات، وما جرى ارتكابه من أخطاء، وتفهم ما جنحت إليه بلدان آسيا الوسطى من سياسات في محاولة لتفادي تبعات ما تتعرض له من ضغوط تستهدف إرغامها على الالتزام بما فرضته الدوائر الغربية من عقوبات ضد روسيا. وذلك ما يفسر كثيراً من المواقف والقرارات التي صدرت عن الجانبين، ومنها ما يتعلق بالخلافات التي نشبت بين كازاخستان وروسيا حول مسارات صادرات الغاز إلى أوروبا، وما نجحت الأستانة في تجاوزها بعيداً عن الأراضي الروسية من خلال خط أنابيب باكو- تبليسي-جيهان على رغم ما تتكبده كازاخستان من نفقات إضافية. ولعل ذلك ما كان وراء الفكرة التي طرحها الرئيس بوتين في لقائه الأخير مع نظيره الكازاخستاني الذي سارع بإعلان ضرورة التفكير فيها.
مصالح مشتركة
أما هذه الفكرة فلم تقتصر على مستوى العلاقات الثنائية، إذ إن بوتين وبحسب ما عهد عنه القريبون منه، كان يستهدف بما طرحه حول ضرورة التفكير في قيام “اتحاد يجمع روسيا وكازاخستان ومعهما أوزبكستان” يختص بقضايا الطاقة، يعني بالدرجة الأولى ليس فقط خدمة المصالح المشتركة للبلدان الثلاثة في مجال استخراج ونقل الغاز، بل وبما تكون معه خطوة على طريق مزيد من الخطوات الوحدوية التي يمكن من خلالها تجاوز الخلافات الآنية، ويعيد علاقات البلدان الثلاثة إلى سابق عهدها من الوئام والتعاون المشترك.
زيارة برلمانية
وكان فياتشيسلاف فولودين رئيس مجلس الدوما توجه إلى أوزبكستان في زيارة برلمانية، سرعان ما ربط المراقبون بينها وبين زيارة توكاييف موسكو، وما يجمعهما من دلالات سياسية. ففي هذه الزيارة حرص فولودين على الربط بين تكثيف زيارات المسؤولين والمبعوثين الأميركيين إلى منطقة آسيا الوسطى وما تشهده هذه المنطقة من قضايا ومشاكل ومنها في مجال الطاقة. الأمر الذي يستوجب التوقف عنده من منظور ما طرحه بوتين من فكرة إقامة كيان وحدوي خاص بقضايا الطاقة، يبدو ما يشبه الإجماع حول أنه سيكون مقدمة لخطوات أخرى قد تعيد كثيراً من مكونات الماضي، لكن بعيداً عن مخاوف بلدان المنطقة من هيمنة روسية، على غرار ما كانت تشكو منه إبان سنوات الاتحاد السوفياتي السابق، وما عاد ليعلنه صراحة إمام علي رحمن رئيس طاجيكستان في قمة روسيا – بلدان آسيا الوسطى.
ومن اللافت أن كل ما جرى على “الجبهة الشرقية” كان يبدو على طرفي نقيض مما تشهده “الجبهة الغربية” للفضاء الأوروآسيوي. ومن ذلك ما يحتدم من خلافات بين أعضاء فريق الرئيس الأوكراني وما يواجهه من مشاكل الطاقة وتدهور البنية التحتية، وبدء التفكير في تهجير سكان العاصمة كييف. ولا يقتصر الأمر على مثل هذه الأمور التي باتت تهدد مؤسسات العاصمة الأوكرانية بالشلل، بل تجاوزتها إلى القصور في إمدادات الأسلحة والذخيرة التي لطالما تدفقت على القوات المسلحة الأوكرانية خلال الأشهر الماضية، في توقيت تعترف فيه البلدان الأوروبية بنفاد مخزونها من الأسلحة، وعدم قدرتها على مواصلة إمداد أوكرانيا بما تقول إنها تحتاجه لمواصلة محاولات استعادتها الأراضي الأوكرانية، على حد تصريحات الرئيس زيلينسكي. وذلك ما حرص على الإشارة إليه رئيس مجلس الدوما خلال زيارته العاصمة الأوزبكية طشقند، وفي معرض لقاءاته مع كبار المسئولين ومنهم رئيس الجمهورية شوكت ميرضيايف، إلى جانب توقفه عند كثير من التفاصيل حول تاريخ علاقات البلدين وما تربطهما من أواصر تاريخية وقيم وتقاليد، في إشارة إلى ما تدعو إليه الأوساط الغربية من علاقات غريبة على المجتمعات الشرقية بكل موروثاتها الدينية والاجتماعية والأخلاقية.
المصالح الغربية
على أن ذلك كله، لا يمكن أن يعني أن الطريق بات مفروشاً بالورود أمام احتمالات عودة علاقات شركاء الأمس إلى سابق عهدها من التقارب والتعاون. إذ إن هناك من الجانبين على المستوى الثنائي، ومتعدد الأطراف، من لا يزال يضمر غير ما يعلن، فضلاً عن وجود القوى التي يغذيها أصحاب المصالح الغربية ممن ينتشرون بكثرة بين ثنايا المؤسسات الحكومية ومواقع القطاع الخاص ورجال الأعمال ممن يظلون على علاقات وثيقة بدوائر ومصالح تقف على طرفي نقيض، مما تفكر فيه دوائر الكرملين ومن يرتبط بها في عواصم البلدان السوفياتية السابقة. وذلك ما قد يكون وراء ما نشره موقع “Online47” نقلاً عن الخبير السياسي نيكولاي ستاريكوف، حول أنه على رغم ما أعلن عنه رئيس كازاخستان من خطط للتعاون مع موسكو، فإنه يظل مؤيداً للتنوع في السياسات الخارجية لبلاده، وإنه لا يقتصر اهتمامه على روسيا والصين والدول الشقيقة في آسيا الوسطى وحسب، بل يتطلع أيضاً إلى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. وخلصت مصادر أخرى إلى القول إنه على رغم ما أعلنه توكاييف من تصريحات حول الشراكة و”العلاقات العميقة”، يلاحظ الخبراء أن “قيادة كازاخستان شريكة حذرة للغاية لروسيا الاتحادية”، وهو ما لا يمكن عدم الاتفاق معه.
اندبندت عربي