على الرغم من الأدلة المتاحة، يحاول الكثيرون في واشنطن التقليل من شأن اندفاع حلف شمال الأطلسي شرقا كقوة دافعة لحرب بوتين.
* * *
الآن، بعد مرور أكثر من ثمانية أشهر على بدء الحرب في أوكرانيا، يبدو أن ثمة إجماعا قد ترسخ بين المعلقين الأميركيين: كان لتوسيع حلف شمال الأطلسي وسنوات من السياسة الأميركية دور ضئيل -أو معدوم- في قرار فلاديمير بوتين غزو أوكرانيا، والذي كان قائمًا بدلاً من ذلك بالكامل على الأمراض الإمبريالية التي تنطوي عيها روسيا بوتين.
وكتب البروفيسور ألكسندر موتيل من جامعة روتغرز أن المظالم الروسية بشأن توسع حلف شمال الأطلسي التي ساعدت في إشعال فتيل الحرب “لا معنى لها”، مجادلاً بأن “الطغاة يستخدمون التوسع والعدوان ضد الأجانب كوسيلة لإضفاء الشرعية على حكمهم”. ويصر المؤرخ تيموثي سنايدر على أنه “لا يمكن أن يكون حلف شمال الأطلسي هو القضية”؛ إن بوتين “يريد ببساطة أن يغزو أوكرانيا، وكانت الإشارة إلى حلف شمال الأطلسي أحد أشكال الغطاء الخطابي لمشروعه الاستعماري فحسب”. ويؤكد لنا السفير الأميركي السابق لدى أوكرانيا، ستيفن بيفر، أن محاولة بوتين “تصوير أزمة ما قبل الغزو التي خلقتها موسكو مع أوكرانيا على أنها نزاع بين الناتو وروسيا… لا تصمد أمام التدقيق الجاد”.
من الواضح أن لدى بوتين وغيره من أعضاء النخب الروسية وجهة نظر متشككة إزاء استقلال أوكرانيا وانفصال شعبها عن روسيا. وسوف تجد في أي حرب نسيجًا من العوامل المختلفة التي أدت إلى اندلاعها. ولكن بالنظر إلى الأدلة المتاحة، فإن من الصعب إنكار أن حلف “الناتو” وتعديه المتزايد على ما يعتبره الكرملين مجال نفوذه كان عاملا مركزيا في الطريق إلى الحرب.
ولسنا في حاجة إلى استعراض عقود من الاعتراضات المعلنة وفي الاتصالات الخاصة من المسؤولين الروس والأميركيين على حد سواء لنفهم دور توسع الناتو في اندلاع الحرب. ولنتأمل ما قاله المسؤولون الأميركيون أنفسهم في الأشهر التي سبقت الغزو، كما ورد في تقرير صحيفة “الواشنطن بوست” المنشور في آب (أغسطس) استنادًا إلى “مقابلات متعمقة مع أكثر من ثلاثين من كبار المسؤولين الأميركيين والأوكرانيين والأوروبيين ومسؤولي حلف شمال الأطلسي”.
”في 7 كانون الأول (ديسمبر)، تحادث بوتين وبايدن في مكالمة فيديو”، كما جاء في التقرير. و”ادعى بوتين أن التوسع شرقًا للتحالف الغربي كان عاملاً رئيسيًا في قراره إرسال قواته إلى حدود أوكرانيا”.
وليست هذه في الواقع سوى واحدة من أربع حالات على الأقل من هذا القبيل موثقة في ذلك التقرير. “وتلا الزعيم الروسي شكاواه المعتادة حول توسع الناتو، والتهديد الذي يشكله ذلك للأمن الروسي، والقيادة غير الشرعية في أوكرانيا”، كما يروي التقرير عن اجتماع عقده مدير وكالة المخابرات المركزية، وليام بيرنز، مع بوتين في تشرين الثاني (نوفمبر) 2021. وينقل التقرير أيضًا ما حدث في اجتماع بيرنز اللاحق مع مستشار بوتين، نيكولاي باتروشيف: ”لقد ردد بالضبط تقريبا نفس شكاوى بوتين حول التاريخ وحلف شمال الأطلسي في مناقشاته مع بيرنز”.
في أوائل كانون الثاني (يناير)، كما أخبرتنا صحيفة “الواشنطن بوست”، كرر نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، لنظيره الأميركي “موقف موسكو من أوكرانيا… وأن على حلف شمال الأطلسي إنهاء خططه التوسعية”. وقليلون هم الذين يتذكرون على الأرجح أن الرئيس بايدن نفسه قال في حزيران (يونيو) من العام الماضي بعد اجتماعه مع بوتين إنه “ما يزال، على ما أعتقد، قلقًا بشأن كونه، أقتبس، (محاصرًا)”، في إشارة إلى الشكاوى الروسية طويلة الأمد بشأن توسيع حلف شمال الأطلسي.
إن الادعاء بأن سلوك بوتين مدفوع فقط بالإمبريالية هو جزء من نمط شائع في التغطية الغربية للحرب. وعندما يستخدم بوتين الخطاب القومي الذي يوحي بنظرة سوداوية تجاه استقلال أوكرانيا عن روسيا -دائمًا تقريبًا في الخطابات المباشرة إلى الجمهور والتي تهدف بالقدر نفسه على الأقل إلى أن تكون للاستهلاك المحلي-سرعان ما يستغل المعلقون الغربيون ذلك للإعلان عن أنه مدفوع بالتفكير التوسعي لا غير. وعندما يثير بوتين المظالم بشأن حلف شمال الأطلسي، وهو ما فعله في السر والعلن، مع المسؤولين الغربيين، فإنه يتم تجاهل شكواه أو التقليل من شأنها.
بل ويتم تجاهلها في الحقيقة حتى عندما يطرحها في تلك الخطابات العامة. ويظل الكثيرون مقتنعين بأن خطاب بوتين قبل الغزو هو دليل إيجابي على عدم صلة حلف شمال الأطلسي بهذه الحرب، على الرغم من أنه ذكر الحلف 40 مرة. وحتى مقالته الشهيرة المكونة من 7.000 كلمة التي تقدم رؤية للروس والأوكرانيين على أنهم “شعب واحد”، تأطرت حول “قوى غربية” غير محددة تتلاعب بالسياسة الأوكرانية كجزء من “مشروع مناهض لروسيا” يهدف إلى جعل البلد “نقطة انطلاق ضد روسيا”. ولا يتعين على المرء أن يتفق مع هذا التفسير ليعترف بوجوده، ببساطة.
ولكن، ماذا عن انضمام فنلندا والسويد المقترح إلى حلف شمال الأطلسي، كما يقول المعلقون؟ يقول بيفر: “كان رد فعل الرئيس الروسي هادئًا” على الأخبار، و”يقول بوتين أن هذا لا يهم”، كما يكتب سنايدر. ومن المؤكد أن هذا دليل قاطع على أن الشكاوى المتعلقة بحلف شمال الأطلسي هي مجرد ورقة تين؟
لكن هذه الحجة تتجاهل ثلاث حقائق رئيسية: المكانة الفريدة التي تحتلها أوكرانيا في التفكير الروسي لأسباب ثقافية واستراتيجية، والتي تميزها عن كل من دولتي الشمال الأوروبي؛ والحرب الكارثية التي أغرقت موسكو نفسها فيها، والتي كبلت يديها وقت الإعلان؛ وحقيقة أن الرد الروسي كان بعيدًا عن أن يكون “هادئًا”.
عندما عامت الفكرة لأول مرة، حذر حليف بوتين ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ديمتري ميدفيديف، من أن روسيا قد تنشر صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت وأسلحة نووية في مقاطعة كالينينغراد. ووصف المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، الاقتراح بأنه يشكل تهديدًا لروسيا، وحذر من أن أوروبا ستتلقى “ردًا مماثلًا” يعتمد على “مدى تمدد البنية التحتية العسكرية نحو حدودنا”. وهددت وزارة الخارجية الروسية باتخاذ “خطوات انتقامية، سواء ذات طبيعة عسكرية-تقنية أو غير ذلك”. وعلى الرغم من أن بوتين وآخرين خففوا من حدة هذا الخطاب في وقت لاحق، إلا أنهم استمروا في توجيه التهديدات، وحذر الرئيس الروسي من أنه “إذا تم نشر وحدات عسكرية وبنية تحتية عسكرية هناك، فسوف نكون مضطرين إلى الرد بشكل متماثل وفرض نفس التهديدات على تلك الأراضي التي تنشأ فيها تهديدات لنا”.
وأخيرًا، يشير المعلقون إلى أن أوكرانيا ليست دولة عضوًا في حلف شمال الأطلسي. لكن أوكرانيا أصبحت تستضيف بشكل متزايد مثل هذه “البنية التحتية العسكرية” للحلف، بما في ذلك قاعدة عسكرية استضافت في كثير من الأحيان قوات غربية، وتؤوي أوكرانيا خططًا لإنشاء قواعد بحرية مرتبطة بحلف شمال الأطلسي، وهناك زيادة في المساعدات العسكرية من الحلف -بما في ذلك، اعتبارًا من العام 2017، تزويد البلد بالأسلحة الهجومية- وهناك برامج تدريب، وميثاق محدث لـ”الشراكة الاستراتيجية”، عمَّق تعاون كييف الأمني مع واشنطن، فضلاً عن تعزيز التعاون الأمني مع حلف الناتو بشكل عام. كما تكثّف الوجود الأميركي في المنطقة أيضًا، مما أدى إلى وقوع آلاف الحوادث بين قوات حلف شمال الأطلسي والقوات الروسية، وهناك المهام العابرة للحدود التي شملت أوكرانيا، وأثارت العديد من الاعتراضات الروسية، التي يخشى بعض الخبراء أنها أصبحت “استفزازية للغاية”.
يكفي لدى تأمل الغزو الذي نفذته موسكو أن نتخيل رد الفعل السيئ الذي قد يثيره كل هذا، خاصة من دولة عسكرية تعاني من كبرياء وطني جريح. وقد فهم المعلقون الأميركيون هذا جيدًا عندما كان الحذاء في القدم الأخرى أثناء أزمة الصواريخ الكوبية، عندما وبخ جيمس ريستون من صحيفة “النيويورك تايمز” القادة السوفيات لأنهم “لم يفهموا حدود النقاش السياسي الدائر في أميركا”، حيث من المرجح أن يتفاعل أغلب الساسة بتشدد مع الأخبار التي تتحدث عن الأسلحة النووية للخصم التي يتم وضعها قبالة ساحل فلوريدا. أو كما قال أحد المقالات الافتتاحية حتى قبل أن يتم الكشف عن مسألة الصواريخ علنًا:
“دع أولئك الذين يميلون إلى الماضي للعثور على مبرر لكوبا يسألون أنفسهم عما سيحدث إذا بدأت الولايات المتحدة فجأة في إرسال كميات كبيرة من الأسلحة و”الفنيين” إلى بلد مثل فنلندا يقف ضد روسيا نفسها، والذي يُعترف حتى الآن بأنه يقع ضمن نطاق النفوذ السوفياتي كما كانت كوبا ذات يوم في نطاق نفوذ الولايات المتحدة. سيكون هناك تشابه حقيقي مع وضع كوبا. وحتى أكثر اليمينيين لدينا تعصبًا… سيتعين عليهم الاعتراف بأن مثل هذا السلوك سيكون استفزازًا غير مبرر للروس، وعبثًا خطيرًا بالتوازن غير المستقر الذي يقوم عليه السلام العالمي”.
من المفهوم إلى حد ما أن المعلقين يرغبون في التقليل من شأن كل هذا. ومن الواضح أن غزو موسكو إجرامي ومروع، لذلك من الطبيعي أن لا يريد المراقبون إضفاء المصداقية على أي عنصر من عناصر روايتها للحرب. وفي الوقت نفسه، في مناخ سياسي غالبًا ما يقدم الشوفينية في زمن الحرب، ثمة مثبطات مهنية وشخصية تدعو إلى رؤية المرء أو اتهامه بأنه “مؤيد لبوتين”. وبالنسبة للبعض على الأقل، من الواضح أن الصراع يلعب دورًا نفسيا باعتباره “حربًا خيِّرة” ضد شياطين أخطاء السياسة الخارجية الأميركية السابقة. ولكن مهما كان هذا مفهومًا، فإن هناك تكاليفًا حقيقية تترتب على تجاهله.
بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر)، تم إلى حد كبير حجب المظالم المعلن عنها بوضوح بشأن السياسة الخارجية الأميركية التي يصادق عليها أولئك الذين يقفون وراء الفظائع عن الجمهور الأميركي، الذي قيل له بدلاً من ذلك أن الإرهابيين كانوا مدفوعين فقط بكراهية الحرية، والانحطاط الغربي، وبرغبة في فرض نظامهم الديني على بقية العالم. وأي شخص يقول خلاف ذلك جرى اتهامه أيضًا بتبرير جرائم الإرهابيين، أو حتى التعاطف معها، وتم إسكاته. ونتيجة لذلك، أمضت الولايات المتحدة سنوات في اتباع نفس السياسات الخاطئة التي ساعدت في التسبب في المشكلة في المقام الأول، مما أدى إلى تأجيج المزيد من الاستياء والإرهاب المناهضَين للولايات المتحدة في حلقة مفرغة، مع ما رتبه ذلك من تكاليف هائلة على الجمهور الأميركي والعالم.
وإذا، وعندما، تنتهي هذه الحرب، ستكون لدينا الفرصة لتجنب تكرار الأخطاء التي ساهمت في اندلاعها. ولكن ليس إذا كنا مصممين مرة أخرى على تجاهل الدور الذي لعبته عقود من السياسة الخارجية الأميركية في الوصول بنا إلى هنا.
الغد