متلازمة الاحتجاج المسلح في العراق: من صراع الأفكار إلى العنف

متلازمة الاحتجاج المسلح في العراق: من صراع الأفكار إلى العنف

ينبغي أن تكون ظاهرة الاحتجاج العنيف في العراق إحدى الأولويات المهمة على أجندة رئيس الوزراء الجديد، محمد شياع السوداني، الذي من المتوقع أن لا يدخل في أي مواجهة مباشرة مع أي فصيل مسلح، لكنه سيسعى إلى استعادة مكانة الدولة وهيبتها. وفي هذا السياق، أعلن السوداني في وقت سابق خلال فترة ترشحه أن الحكومة ستعمل على ضبط السلاح المنتشر، وفرض سيادة الدولة، وتقييد أعداد المليشيات والمجاميع المسلحة، وفرض قوة القانون على أي فصيل مسلح أو جهة تحمل السلاح وتمارس أدوارها بعيداً عن الدولة وسياق المؤسسات الأمنية. وينبغي على حكومة السوداني أن تعمل على فك الارتباط القائم منذ سنوات بين الاحتجاجات والعنف المتبادل.
* * *
تصاعد انتشار الاحتجاجات العنيفة بين صفوف المجتمع العراقي بشكل كبير، وتكررت مشاهد العنف ونزيف الدماء بحيث أصبحت تمثل أحد أهم مظاهر الاحتجاجات الشعبية في العراق، التي غالبًا ما لا تمر من دون سقوط ضحايا بين طرفي النزاع. فمن هو الذي أوجد متلازمة الاحتجاج المسلح، وما الذي جرد الاحتجاجات السياسية في العراق من سلميتها؟ وما هي تداعيات ثقافة الاحتجاجات المسلحة في العراق على مستقبل النظام السياسي؟ سوف يشكل فهم الإجابة عن هذه الأسئلة أمرًا أساسيًا، خاصة بعد تولى الحكومة الجديدة في العراق ولايتها، وفي ظل الظروف المعيشية المتدهورة التي يمر بها المواطن العراقي والتي تشير إلى احتمال بروز حركة احتجاجات جديدة.
خلال مئة عام من عمر الدولة العراقية، شكل الاحتجاج المسلح من خلال الثورات والانقلابات والانتفاضات المسلحة العلامة المميزة للمشهد السياسي والاجتماعي العراقي. ومنذ العام 2003 ولغاية اليوم، شهد العراق ثلاث مراحل من الاحتجاجات التي بدأت سلمية، لكنها انتهت بكوارث عنيفة، وتشمل مرحلة المقاومة، و”الربيع العراقي”، و”احتجاجات تشرين” 2019.
منذ بداية سقوط نظام صدام حسين في العام 2003 وحتى منتصف العام 2008، أصبحت الاحتجاجات المسلحة جانبًا مهمًا من جوانب المقاومة العراقية. وللأسف، أتت تلك الظاهرة بنتائج مدمرة ذهبت بالعراق إلى النزاع الطائفي، وأفسحت المجال أمام الجماعات المسلحة التي استفادت من التنظيم القوي والعنف المطلق. وقد انتهت تلك الدوامة إلى إفراز مخرجات سياسية ثقيلة، أبرزها تراجع قوة الدولة، وانقسام المجتمع طائفيا وفكريا، واندلاع النزاع الأهلي بين السنة والشيعة، وانتشار العمليات الإرهابية، وتبرير وجود المليشيات المسلحة كأمر واقع حتى تتمكن الدولة من القضاء على تنظيم القاعدة وعلى الجماعات المسلحة الأخرى وتحجيم المليشيات في العام 2008.
مع صعود موجات الربيع العربي التي انطلقت من تونس ومصر في نهاية العام 2010 ومطلع العام 2011، بدأت دورة ثانية من الاحتجاجات الشعبية العراقية في شباط (فبراير) 2011. وقد بدأت هذه الاحتجاجات سلمية تحمل شعارات مدنية. ثم شهدت تلك الاحتجاجات أعمال عنف متبادل بين المحتجين والقوات الأمنية، وتحولت إلى ما سميت “ثورة العشائر” التي تحولت إلى لاحقا إلى حواضن لتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)، الذي قدم عناصره أنفسهم في البداية بشكل يتوافق مع المزاج الشعبي في مناطق الاحتجاج.
وكانت المخرجات السياسية والأمنية مختلفة تماما عن مقدماتها. فقد انتهت دورة الاحتجاج المسلح بتصدر الفصائل المسلحة الشيعية المشهد، وتأسيس “الحشد الشعبي” كرد فعل طبيعي على ظهور تنظيم “داعش” وتمدد الإرهاب. وفي المقابل، انتشر الصراع المسلح في كل مكان، حيث أنتج كل جانب من جوانب الصراع مجموعات منشقة عنيفة بشكل متزايد.
ومن الجدير بالذكر أن الدورة الثالثة من الاحتجاجات العنيفة في العراق جاءت في الأساس نتيجة للشعور المعادي لإيران. وعلى الرغم من أن المرحلتين الأوليين من العنف ركزتا على مقاومة الوجود الأميركي في العراق، ثم النظام العراقي نفسه، إلا أنهما افسحتا المجال لبروز الدورة الثالثة للمقاومة المسلحة في العراق، التي انطلقت في 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2019.
في تشرين الأول (أكتوبر) 2019، كان الأمر مختلفًا بشكل جذري عن دورات الاحتجاج السابقة. فقد أصبح مركز جغرافية الاحتجاجات بغداد، وعمقها محافظات الوسط والجنوب، ومطالبها وطنية غير مختصة بطائفة أو فئة، وخطابها جذاب عبّر عن مطالب شعبية صار يرددها أغلب العراقيين.
ومع ذلك، رافق هذه الاحتجاجات المزيد من العنف، سواء بتعرض المتظاهرين لإطلاق النار أو الاغتيالات والتصفيات، أو تعرض القوات الأمنية لقنابل المولوتوف والحجارة والعيارات النارية أحيانا، بالإضافة إلى تعرض المرافق العامة والخاصة للحرق والاختراق من قبل المتظاهرين أو من قبل ما يسمونهم بـ”المندسين”. وقد بلغت حفلات العنف ذروتها عندما تم صلب صبي في “ساحة الوثبة” أمام آلاف المتظاهرين، الأمر الذي ألمح إلى انحراف الاحتجاج نحو أبشع صور العنف. وهكذا، مرة أخرى، وعلى الرغم من أن الاحتجاجات بدأت كمقاومة سلمية، وتحديداً ضد الوجود الإيراني في العراق، إلا أن هذا الوئام المؤقت سرعان ما انهار في مواجهة القمع الوحشي.
تميزت الدورة الثالثة من الاحتجاجات العنيفة بأنها أضفت الطابع المؤسسي على تلك الاحتجاجات، وبشكل أكثر تحديدًا، تمكنت بعض القوى السياسية من الدخول كشريك في الحراك التشريني، وهي شراكة اعتبرها البعض ضرورية للحفاظ على زخم الحراك. ومن أبرز الأمثلة على ذلك نزول جماهير “التيار الصدري” إلى ساحات التظاهر، كما ظهرت مجموعات صدرية منظمة أُطلق عليها اسم “أصحاب القبعات الزرقاء”، التي بررت وجوده بأنه من أجل تأمين سلامة المعتصمين في ساحات الاحتجاج. لكنها لم تتمكن على الرغم من ذلك من كسب ثقة وانسجام المحتجين الآخرين، فحصلت حالات تصادم دموية بينهم. ومع ذلك، اعتمد التيار الصدري على حراك تشرين كوسيلة لكسب الدعم الشعبي خارج قاعدته الأصلية.
في واقع الامر، استغل التيار الصدري “ثورة تشرين” وما رافقها من قمع وتخبط من قبل القوات الأمنية في العام 2019 كمبرر لتشكيل بؤرة احتجاج مسلح جديدة. وتجسد هذا الاحتجاج المسلح في أكثر من صورة، كان أبرزها ما شهدته المنطقة الدولية الخضراء من اقتحام مبنى البرلمان وتعطيل أعماله في تموز (يوليو) 2022، ثم محاولة دامية لاقتحام المنطقة الخضراء بقوة السلاح والاشتباك باستخدام الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة في ليلة أرعبت سكان بغداد وخلفت أكثر من 34 قتيلًا وعشرات الجرحى، من المهاجمين للمنطقة الخضراء والمدافعين عنها.
في واقع الامر، رسخت الدورة الثالثة من الاحتجاجات المسلحة ضعف الدولة وعجزها بشكل كبير، ولوحت بتغيير جغرافية الحرب الأهلية لتتحول من طائفية، كما في دورة الاحتجاج المسلح الأولى قبل العام 2008 والثانية قبل العام 2017، إلى قتال أبناء الطائفة الشيعية الواحدة.
كما أفضى الاحتجاج المسلح في العام 2022 إلى ظهور تقليد سياسي جديد وخطير للغاية، يقضى بضرورة امتلاك الأحزاب السياسية لأذرع مسلحة يمكن استخدامها كعامل قوة في كسب أصوات الناخبين وفي التفاوض السياسي، وفرض الإرادات وانتزاع التأييد، وتعطيل أو حرف مسار المؤسسات السياسية. وتمتلك أغلب القوى السياسية العراقية الفاعلة اليوم أذرعًا مسلحة، بعضها قائم منذ فترة طويلة، مثل “الحزب الديمقراطي الكردستاني، وحزب “الاتحاد الوطني الكردستاني” اللذين يمتلكان قوات “البيشمركة”، والتيار الصدري الذي يمتلك عدة أجنحة مسلحة، والإطار التنسيقي الذي يضم “كتائب حزب الله” العراقية، وهي أقوى ميليشيا مسلحة تدعمها إيران. كما أن هناك ميليشيات عسكرية لا تملك أجنحة سياسية، مثل “كتائب سيد الشهداء” و”كتائب الإمام علي” و”كتائب النجباء”.
في الختام، ينبغي أن تكون ظاهرة الاحتجاج العنيف إحدى الأولويات المهمة على أجندة رئيس الوزراء الجديد، محمد شياع السوداني، الذي من المتوقع أن لا يدخل في أي مواجهة مباشرة مع أي فصيل مسلح، لكنه سيسعى إلى استعادة مكانة الدولة وهيبتها. وفي هذا السياق، أعلن السوداني في وقت سابق خلال فترة ترشحه أن الحكومة ستعمل على ضبط السلاح المنتشر، وفرض سيادة الدولة، وتقييد أعداد المليشيات والمجاميع المسلحة، وفرض قوة القانون على أي فصيل مسلح أو جهة تحمل السلاح وتمارس أدوارها بعيداً عن الدولة وسياق المؤسسات الأمنية. وبذلك، من المتوقع أن يعمل السوداني على التوصل إلى حلول مع الأحزاب والقوى التي تمتلك أجنحة مسلحة حتى يعيد للدولة اعتبارها، وذلك على الرغم من إدراكه صعوبة أن تتنازل هذه الأحزاب عن سلاحها من دون ضمانات ملموسة.
ومع ذلك، تُؤكد هذه المراحل الثلاثة من الاحتجاجات العنيفة في تاريخ العراق الحديث -خاصة احتجاجات تشرين 2019 التي كانت مؤثرة بشكل خاص- أن الاحتجاجات المشروعة يمكن أن تخرج عن نطاق السيطرة بسرعة فائقة عندما تشارك الجماعات المسلحة فيها. ومن المتوقع أن يستغرق الأمر من السوداني والحكومة العراقية وقتا طويلا حتى يتمكنا من تصحيح الأمور. ومع استمرار الدورة الثالثة من تلك الاحتجاجات العنيفة التي ما تزال نشطة، أصبح انتشار السلاح المنفلت والفصائل المسلحة يشكلان خطراً على العملية الديمقراطية بشكل متزايد. وفي مواجهة هذا الواقع، ينبغي على القوى السياسية المؤمنة بنظام عراقي ديمقراطي إيجاد سبل عملية لإخراج السلاح من المعادلة السياسية، والتوقف عن ربط العنف بالاحتجاج. وإلا، فإن الكارثة ستكون انتظارنا مادام حوارنا ينساق إلى ثلاثية الدخان، والنار، والدماء.

الغد