أشرت في مقالة الأسبوع الماضي إلى ندوة «مستقبل التغيير في الوطن العربي» التي عقدها «مركز دراسات الوحدة العربية» في بيروت منذ أسبوعين بالتعاون مع «المعهد السويدي» بالإسكندرية، وقد كلفت في هذه الندوة بإعداد بحث عنوانه «مدخل إلى قراءة إجمالية في المشهد العربي» تناولت فيه خمس نقاط قبل أن أصل إلى خاتمته وهي دروس الخبرة الماضية، وبنية النظام العربي، وتهديد الهوية العربية، وتفاقم الاختراق الخارجي، وحال الجامعة العربية. وقد انتهيت بعد تحليل هذه النقاط الخمس إلى صورة متشائمة عن المستقبل العربي ذكرت بصددها أن المشهد العربي يبدو في مجمله بالغ الكآبة محملاً بنذر خطيرة. وأن هذه النذر تشير إلى عدد من المشاهد المستقبلية أولها مشهد التفتت المخيف الذي يفضي بالنظام العربي إلى أن يكون لوحة بشعة من فسيفساء طائفية ومذهبية وإثنية وعرقية سواء بسبب الإخفاق في بناء دول وطنية حديثة تسمو على الانتماءات الأولية لمواطنيها على رغم مرور ما يزيد عن نصف قرن على استقلال الأغلبية العظمى من الدول العربية، أو بسبب المخططات الخارجية المكشوفة التي تسعى إلى إدامة التفكك وزيادته تسهيلاً للهيمنة وإلحاق الجزيئات العربية القادمة لا قدر الله بأطر غير عربية تُنهي حلم العرب المشروع بالوحدة والتنمية والعدل.
وأضفت بعد هذا المشهد الكارثي أن ثمة مشاهد أخرى يراهن البعض عليها منها على سبيل المثال وقف تدهور الأوضاع بالتوصل إلى حلول للصراعات والأزمات المستحكمة في الوطن العربي بما يمكّن من العودة بالتدريج إلى الوضع الطبيعي الذي أسميته «الطفو بديلاً عن الغرق»، ويعني هذا استمرار العجز عن التصدي لمشكلات العرب الكبرى على رغم بقاء النظام العربي، لأن التدهور الحالي في أوضاعه بدأ من نقطة متدهورة أصلاً. ومنها أيضاً أن تنهض قوة أو قوى عربية مؤتلفة بمهمة إصلاح أو تطوير تنعكس بالإيجاب على الأوضاع العربية دون أن يجرؤ هذا البعض على الحديث في المدى القصير أو المتوسط عن مشهد وحدوي أو حتى تضامني ولو في وجه الأخطار الخارجية.
وكنت صريحاً في التعليق على هذه المشاهد المحتملة بأنه ليس في نيتي أن أبذل أدنى جهد في استشراف الفرص المتاحة أمام أي منها، فالأوضاع التي تواجهها الأمة الآن جديدة ومفاجئة في شدة خطورتها وليس في طبيعتها وكذلك شديدة التعقيد، ولهذا فإننا لا نملك رفاهية البحث المتعمق المعقد في احتمالات المستقبل بينما الخطر داهم وحالٌّ بين ظهرانينا يهددنا بالفناء إن تقاعسنا في مواجهته. وذكّرت بأن عديداً من مشروعات الاستشراف السابقة التي كان لي شرف المشاركة فيها قد انتهى إلى نتائج صحيح أن قيمتها باقية ولكنها اهتزت مع حدوث متغيرات لم تكن في الحسبان، وأبرز الأمثلة في هذا الصدد كان تفكك الاتحاد السوفييتي بعد سنوات قلائل من انتهاء المشروع الرائد لاستشراف المستقبل العربي الذي نفذه «مركز دراسات الوحدة العربية» على مدار عقد كامل، الأمر الذي أدى إلى تغير جذري في نموذج النظام الدولي غيّر الكثير من منطلقات الاستشراف وبالتالي من صدقية توقعاته، وعليه فإن الأولوية المطلقة الآن للتصدي للمخاطر الداهمة التي تحدق بنا.
وقد اعترض البعض على ما قلته أو تحفظ عليه، فقيل إن ما يحدث الآن لا يمثل نهاية المطاف ففي مدى زمني أطول يمكن للمشهد أن يتغير، وتردد أيضاً أن مناقشة مشاهد المستقبل المحتملة تبقى مهمة واجبة على الأقل باعتبارها ضرورة منهجية، وقيل كذلك إنه لا يجوز علمياً «الاستقالة» من الاستشراف. وقد وافقت على هذا كله، ولكنني مع ذلك تمسكت بوجهة نظري، فأنا لا أنكر أهمية عمليات استشراف المستقبل ولا «أستقيل» منها، وكذلك لا أنفي احتمال أن يكون المشهد العربي بعد خمس سنوات مثلاً مختلفاً عما هو عليه الآن، بل ربما ينحو إلى التحسن ويأخذ بأسباب الإصلاح ومن ثم الاستقرار وتجنب التفكك غير أن هذا كله مرهون بأن نحسن مواجهة التحديات الخطيرة التي تجابهنا الآن وننتصر عليها قبل أن نستغرق في البحث في احتمالات المستقبل لسبب بسيط هو أن النجاح في مواجهة هذه التحديات هو وحده الطريق الآمن إلى مستقبل أفضل.
د.أحمد يوسف أحمد
صحيفة الإتحاد الإماراتية