تتحرك الصين لتوسيع حضورها في المنطقة العربية، حيث من المقرر أن تنظم قمة مع قادة عدد من الدول العربية والخليجية في المملكة العربية السعودية، تسعى من خلالها لعقد اتفاقات اقتصادية وعسكرية وتنموية، وتعرض فيها خدماتها على هذه الدول مقابل السير خطوة نحو عالم متعدد الأقطاب ينهي الهيمنة الأميركية ويمنح بكين الدعم في عدد من القضايا.
الرياض – تشكل القمة الصينية – العربية المزمع عقدها في السعودية محطة هامة ضمن سياق عالمي يسعى للخروج من هيمنة القطب الواحد إلى عالم متعدد الأقطاب، بدأت تتجلى معالمه في أكثر من منطقة.
فالصين الطامحة لتجاوز الولايات المتحدة والتربع على عرش أكبر اقتصاد عالمي في عام 2030، بحاجة إلى شراكة إستراتيجية مع الوطن العربي المتموضع في قلب العالم القديم، والمتحكم في أهم طرق ومعابر التجارة العالمية بين الشرق الأقصى وأوروبا.
والأهم من ذلك كله ثراء الدول العربية بموارد الطاقة التي لا غنى للمارد الصيني عنها لتحريك عجلة اقتصاده الضخم، والهيمنة على التجارة العالمية.
بينما تحتاج الدول العربية إلى الاستفادة من التكنولوجيا الصينية واستثماراتها في البنية التحتية، والتخلص من الهيمنة الأميركية وانحيازها المطلق إلى إسرائيل على حساب حقوق الشعب الفلسطيني.
الصين تريد أن تصطف البلدان العربية إلى جانبها في أي صراع مستقبلي مع الولايات المتحدة بشأن تايوان
فالمصالح الصينية – العربية متشابكة إلى حد التكامل في الكثير من الملفات، خاصة الاقتصادية منها، والتجارة بينهما تضاعفت لنحو عشر مرات في أقل من عقدين؛ حيث ارتفع حجم التبادل التجاري بيم الطرفين من 36.7 مليار دولار في 2004 عند تدشين منتدى التعاون الصيني – العربي إلى 330 مليار دولار في 2021، وفق المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو).
وهذا الرقم يجعل من الصين الشريك التجاري الأول للدول العربية مجتمعة، متفوقة على الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي.
ثلاث قمم
ليس ذلك فقط، فقيمة الاستثمارات الصينية في الدول العربية بلغت 213.9 مليار دولار ما بين 2005 و2021، ما يعطي لهذه الشراكة بُعدا اقتصاديا أكثر متانة، يتجاوز الجوانب التجارية التي ميزت العلاقة بين الدول الغربية والمنطقة العربية.
ولن تقتصر زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى العاصمة السعودية الرياض على المشاركة في القمة العربية – الصينية، بل تسبق ذلك قمتان أخريان، الأولى مع السعودية والثانية مع دول الخليج، وفق وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان.
ولم يعلن بعد موعد عقد هذه القمم الثلاث، إلا أن المؤكد أنها في الأيام العشرة الأولى من ديسمبر الجاري، بحسب القنصل الصيني العام في دبي لي شيوي هانغ. حيث تأكد عقد القمة العربية – الصينية في 9 ديسمبر، وفق الدعوات التي وجهتها السعودية إلى عدد من الزعماء العرب.
ولم يرشح بعد موعد القمتين الصينية – السعودية والصينية – الخليجية، إلا أن وكالة رويترز نقلت عن ثلاثة مصادر قولهم إن الرئيس جين بينغ سيصل إلى الرياض اليوم 7 ديسمبر.
وتولي الصينُ السعوديةَ أهميةً خاصة باعتبارها أكبر اقتصاد عربي والمزود الأول لها بالنفط، بينما يحاول ولي العهد الأمير محمد بن سلمان تنويع شراكات بلاده مع القوى الكبرى حتى لا يبقى رهينة الضغوط الأميركية، وآخرها اتهام واشنطن للرياض بالاصطفاف إلى جانب روسيا بعدما قرر تحالف أوبك+ تخفيض إنتاج النفط بمليونيْ برميل يوميا.
ويمثل الحصار الاقتصادي الذي تحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون فرضه على روسيا والضغط على بقية دول العالم للمشاركة فيه، إنذارا لكل من الصين والسعودية بأن الدور قد يأتي عليهما، ما يجعل تكثيف التعاون بينهما أمرا ملحا، رغم أن الرياض ليست جاهزة الآن للتخلي عن تحالفها الإستراتيجي مع واشنطن في ظل استمرار التهديد الإيراني وتواصل حربها في اليمن ضد الحوثيين.
وخليجيًّا تسعى الصين لتوطيد علاقتها ببقية دول الخليج الغنية بالنفط والغاز ورؤوس الأموال، وتريد الفوز بعقود تقدر قيمتها بالمليارات من الدولارات لإنجاز مشاريع عقارية وأخرى متعلقة بالبنية التحتية على غرار ملعب لوسيل القطري الذي شيدته شركة صينية، والذي يحتضن عدة مباريات في بطولة كأس العالم لكرة القدم.
وما يجذب الصين إلى الخليج ليس فقط النفط، فالغاز المسال الذي تعتبر قطر أكبر مصدريه يثير شهية بكين، حيث وقع الطرفان في نهاية نوفمبر الماضي اتفاقية لتوريد 4 ملايين طن سنويا من الغاز المسال إلى الصين طيلة 27 عاما بداية من 2026.
كما تسعى الصين للفوز بحصة أكبر من سوق الأسلحة في الخليج، فالسعودية والإمارات تخصصان أكبر ميزانيتين للدفاع في الوطن العربي، وتستورد قطر والكويت والبحرين وبدرجة أقل سلطنة عمان أسلحة تقدر قيمتها بالمليارات من الدولارات.
وتقيم الصين قاعدتها العسكرية الوحيدة في جيبوتي، الواقعة على مدخل مضيق باب المندب، كما تعبر سفنها التجارية البحر الأحمر وقناة السويس، ومعظم الدول العربية تعتبر جزءا من مبادرة “الحزام والطريق” الصينية.
من الجانب الديموغرافي يبلغ عدد السكان في 22 دولة عربية أكثر من 430 مليون نسمة، وهي سوق كبيرة، تفوق عدد سكان الولايات المتحدة أكبر شريك تجاري للصين، لذلك تسعى الصين لغزو الأسواق العربية بمنتجاتها الرخيصة نسبيا، والاستفادة من فرص الاستثمار فيها، وتأمين طرق التجارة بها.
أقطاب متعددة
لا يمكن لأي دولة مهما بلغت قوتها العسكرية أو الاقتصادية أن تفرض نفسها كقطب عالمي إلا من خلال تحالفاتها الدولية، وهذا ما تدركه الصين جيدا، والتي تسعى رفقة روسيا لتشكيل عالم متعدد الأقطاب، لذلك تعتبرها الولايات المتحدة أكبر تهديد لهيمنتها على العالم، رغم خطورة موسكو.
وفي هذا السياق تعمل بكين على تعزيز تحالفاتها ضمن عدة منظمات دولية مثل “بريكس” و”شنغهاي”، أو تعزيز تعاونها مع تجمعات إقليمية مثل منظمة “آسيان” والاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية.
فالحرب الروسية – الأوكرانية أثبتت أهمية هذه التحالفات الدولية، خاصة عند التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي يغيب فيها الفيتو، فرغم ضعف موقف موسكو السياسي والقانوني في هذه الحرب إلا أن عدة دول صوتت لصالحها أو على الأقل امتنعت عن التصويت بشأن قرار إدانة غزوها للأراضي الأوكرانية.
والعالم العربي بما يمثله من ثقل بشري وموقع إستراتيجي وموارد للطاقة والمعادن، يعتبر ضمن أولويات بكين من حيث التجارة والاستثمار، وأيضا في الجانب السياسي، إذ يمكن للصين لعب دور في حل القضية الفلسطينية، خاصة وأن مواقفها أكثر اعتدالا من الولايات المتحدة. ورغم تعاونها العسكري والتكنولوجي مع إسرائيل، إلا أن ذلك من الممكن أن يمثل عاملا مساعدا على لعب دور الوسيط في هذا الملف.
فبعد استكمال الرئيس الصيني جين بينغ ترتيب بيته الداخلي، وانتخاب الحزب الشيوعي الحاكم له رئيسا للبلاد لولاية ثالثة، عقب تعديل ميثاق الحزب الذي كان لا يسمح بأكثر من ولايتين، تستعد بكين لمرحلة جديدة في تاريخها؛ حيث تريد الصين أن تصطف البلدان العربية إلى جانبها في أي صراع مستقبلي مع الولايات المتحدة بشأن تايوان، وأن تغض هذه البلدان الطرف عما يجري لمسلمي الإيغور في شينجيانغ (تركستان الشرقية)، مقابل المزيد من الاستثمارات والقروض.
العرب