أكبر تهديد لأميركا يكمن في الداخل‏

أكبر تهديد لأميركا يكمن في الداخل‏

يجادل هذا المقال، ‏‏ومقالان سابقان أيضاً،‏‏ بأن أكبر المخاطر التي تواجه كلاً من رؤساء الصين وروسيا والولايات المتحدة هي‏‏ ذات طابع محلي‏‏. وينبغي أن يفاجئ هذا الطرح بعض القراء، لأن وجهة النظر التقليدية السائدة في أميركا، والتي تؤكدها استطلاعات الرأي، هي أن أكبر التهديدات لهذه الأمة تأتي من الصين وروسيا. ولكن، لا تراهنوا على ذلك.‏
وصف‏‏ المقال الأول ‏‏تصرفات الرئيس الصيني، شي ‏‏جين بينغ، ‏‏بأنها “غورباتشوف معكوسًا”، حيث بدلاً من “فتح” المجتمع الصيني على العالم كما فعل ميخائيل ‏‏غورباتشوف‏‏ في الاتحاد‏ ‏السوفياتي، واضعًا بذلك نهاية الاتحاد السوفياتي عن غير قصد، يقوم شي بإغلاقه. وتشكل الاحتجاجات الضخمة ضد سياسة “صفر كوفيد” الجارية الآن مثالاً على ذلك. ولكن لا ينبغي أن نخطئ: من خلال فرض ضوابط صارمة على المجتمع الصيني، يقتل شي إصلاحات ريادة الأعمال التي كان قد أطلقها ‏‏دنغ شياو بينع ‏‏ويكسر العقد الاجتماعي مع الشعب الصيني.‏
ومن جهته، كرر الرئيس الروسي، ‏‏فلاديمير بوتن‏‏، ربما من دون تقدير العواقب، النمط السوفياتي الهش المتمثل في فرض السيطرة السياسية المركزية. لكن‏ ‏بوتين ‏‏لا يملك كوادر الحزب وتنظيمه أو أيديولوجيته الاشتراكية اللازمة لفرض قراراته، ويترتب عليه أن يعتمد على شعبيته للحفاظ على الشرعية. وتتحدى “‏‏العملية العسكرية الخاصة‏‏” التي أطلقها في أوكرانيا هذا المستوى من الدعم الشعبي، على الرغم من أن الشرطة السرية وغيرها من عملاء الحكومة يمكنهم محاولة القضاء على المعارضة أو تحييدها.‏
أما التحدي الرئيسي الذي يواجهه الرئيس بايدن في الولايات المتحدة، فهو التعامل مع ‏‏مجتمع أميركي مفكك‏‏. وقد بدأ هذا التفكك في أوائل آب (أغسطس) 1964. في الرد على ما تم تصويره -خطأ- على أنه سلسلة ثانية من هجمات قوارب الطوربيدات الفيتنامية الشمالية ضد مدمرتين تابعتين للبحرية الأميركية، والتي لم تحدث فعلاً، ومع صوتَين معارضين فقط في كلا المجلسين، أقر الكونغرس الأميركي ووقع ليندون جونسون قرار “خليج تونكين”‏‏. وكان ذلك القرار إعلانًا فعليًا للحرب، أدى إلى وقوع الولايات المتحدة في المستنقع الفيتنامي.‏
‏بعد ذلك‏‏، كان حوالي 80 في المائة من الأميركيين يثقون بالحكومة الفيدرالية ويصدقون كلمة قادتها. وبعد ثمانية وخمسين عامًا الآن، يعتقد حوالي ‏‏80 في المائة من الأميركيين ‏‏أن الولايات المتحدة تسير في الاتجاه الخاطئ. وقليلون فقط هم الذين يثقون بالحكومة، بما في ذلك المحكمة العليا التي يعتقد الكثير من الأميركيين أنها أصبحت مسيسة بشكل مفرط. والأسوأ من ذلك أن أساس الحكومة، دستور الولايات المتحدة، قد لا يكون مناسبًا للغرض في القرن الحادي والعشرين.
لماذا يحدث ذلك؟ حتى يعمل الدستور ومبدأ الفصل بين السلطات، يجب أن ينطبق‏‏ واحد على الأقل من ثلاثة ‏‏شروط على الوضع في أميركا. أولها أن يتمتع أحد الحزبين بحق النقض (الفيتو) من خلال السيطرة على الكونغرس، وكذلك على البيت الأبيض، فضلاً عن تأمين خمسة أصوات على الأقل في المحكمة العليا. و‏‏لم يتمكن أي رئيس أميركي من تحقيق‏‏ ذلك، ولا حتى فرانكلين روزفلت الذي كان يتمتع بأغلبية ضخمة في الكونغرس.‏
‏ثانيا، يجب حدوث ‏‏أزمة‏‏ مثل الهجوم على “بيرل هاربور”، والتي يمكن أن تؤدي إلى حشد وتجميع أمة منقسمة. لكن وباء “كوفيد 19″، الذي مات فيه عدد من الأميركيين أكثر من الذين ‏‏قتلوا في ميادين المعارك في ‏‏كل حرب خاضتها الأمة منذ العام 1775، زاد من انقسام الأمة بدلاً من تجميعها. وأخيرًا، يجب أن تكون الكياسة والتسوية حاضرَين في الخطاب الأميركي. وكلاهما مفقود عمليًا.‏
ومما يفاقم هذه العوامل الحزبية السامة بشكل غير اعتيادي، التي تساهم بشكل رئيسي في إفشال الحكومة وتقليل كفاءتها. ويعتبر الكثيرون من كلا الحزبين أن‏ الحزب الآخر شرير. وبذلك يكون الهدف هو الاستيلاء على السلطة لمنع المعارضة من تدمير الأمة. وأحد الأمثلة على هذا التحزب المفرط ما يلي: قبل سنوات، كان الزواج‏‏ من خارج الدين‏‏ من المحرمات. واليوم، يجري تثبيط الزواج‏‏ من خارج الانتماء السياسي ‏‏بشكل متزايد.‏
‏مع سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب أو الشيوخ، سيكون الحكم أكثر صعوبة. سوف تنتقم الأغلبية من الحزب الجمهوري ‏‏من الديمقراطيين بسبب عملهم على محاولة عزل الرئيس السابق ترامب مرتين، وفرضهم ما يؤكد الجمهوريون أنه “أجندة‏‏ استيقاظ” لتخويف الناس من التغيير ‏‏وامتلاك عقلية ‏‏ثقافة إلغاء‏‏. وما يزال الديمقراطيون ينظرون إلى الحزب الجمهوري في ظل الرئيس الأخير باعتباره تهديدًا للديمقراطية.‏
كان ‏‏لينكولن ‏‏على حق حين أكد أن البيت المنقسم لا يمكن أن يصمد. فما الذي يمكن أن يفعله الرئيس‏ ‏بايدن إذن ‏‏لإعادة تجميع الأمة بينما لا يتم تجاهل الاعتداءات الصينية والروسية على النظام الدولي؟‏
‏عندما سُئل في ‏‏مؤتمره الصحفي الأخير‏‏ عما سيفعله بشكل مختلف في العامين المقبلين، قال بايدن: “لا شيء”. وبايدن على حق. فقد تم إقرار التشريع اللازم وسوف يستغرق نفاذه وقتًا. وإذا انخفض التضخم في الأشهر الثمانية عشر المقبلة إلى 5 في المائة أو أقل؛ وأصبح سعر البنزين 2.50 دولار للغالون؛ ومع تعافي أسواق الأسهم، سيخوض الجمهوريون معركة انتخابية شاقة في العام 2024. ومع ذلك، هذا لا يعني أن مجتمعًا مكسورًا سيكون قادرًا على إصلاح نفسه ذاتيًا.‏
ما يجب على بايدن فعله هو استدعاء قيادة الكونغرس إلى كامب ديفيد قبل عيد الميلاد، وإبقائها في خلوة حتى يتم التوصل إلى اتفاق بشأن العديد من القضايا الحاسمة، بما في ذلك ‏‏سقف الديون‏‏؛ والميزانية؛ وإصلاح‏‏ قانون العد الانتخابي للعام‏ 1887؛ وإضفاء قدر من الكياسة على الخطاب السياسي.‏
‏هل سينجح ذلك؟ ربما. ولكن في غياب هذا الجهد، فإن أميركا ستكون في خطر من الداخل أكبر من الذي تواجهه من الخارج، والأسوأ من ذلك أن قلة من الأميركيين هم الذين يدركون ذلك.‏
‏*هارلان أولمان Harlan Ullman: كبير المستشارين في “مجلس الأطلسي”، والمؤلف الرئيسي لكتاب “الصدمة والرعب”. كتابه الأخير هو “‏‏الفارس الخامس والجنون الجديد: كيف أصبحت هجمات الاضطراب الهائلة الخطر الوجودي الذي يهدد أمة منقسمة والعالم بأسره”.‏

الغد