يُستَبعَد ان تتطوّر المبارزة بين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان إلى صدام عسكري بين روسيا وتركيا أو الى مواجهة ميدانية بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي تنتمي اليه تركيا. فالقرار لكل من موسكو وأنقرة واضح عنوانه استيعاب تداعيات اسقاط تركيا الطائرة الروسية مع الاحتفاظ بحق الغضب والانتقام لاحقاً، إذا برزت الحاجة. هذان الرئيسان المتشابهان في الإمساك بخيوط السلطة وهما يتنقلان بين رئاسة الحكومة والرئاسة باتا يُعرَفان بالقيصر والسلطان لدى كل منهما مشروع. فلاديمير بوتين عقد العزم على استعادة روسيا نفوذ الإمبراطورية السوفياتية وارتأى ان منطقة الشرق الأوسط هي بمثابة السجّادة الحمراء لتدشين مشروعه. ورجب طيب أردوغان اتخذ قرار الإبحار الحذق بين الأمواج الدولية والإقليمية ليستعيد مجد الإمبراطورية العثمانية انما على انغام ايديولوجيته الخاصة.
كلاهما قرر ان مفتاح مشروعه يكمن في البوابة السورية، وكلاهما يدرك أنه غير قادر على تنفيذ مشروعه طالما أن الآخر يتصدى له. لذلك، وعلى رغم جدية وخطورة حادثة اسقاط طائرة «سوخوي 24»، لم ينهَر هامش التفاهمات التي استجدت بين الرجلين والبلدين في اطار عملية فيينا لمستقبل سورية، ولم تسقط الاعتبارات الاقتصادية المترتبة على العلاقات الثنائية سيما تلك المتعلقة بالغاز. انما اللافت هو مستقبل العلاقة الروسية بأقطاب المعارضة السورية المسلحة، بالذات «الجيش الحر»، في ضوء معلومات أفادت بتطور مهم جداً في تلك العلاقة قبل اسقاط الطائرة الروسية. فتركيا لاعب أساس مع أقطاب المعارضة السورية المسلحة، وهي أيضاً في تنسيق مع السعودية.
هذا الطوق من التعقديات في العلاقة الروسية – التركية يلقى اهتماماً دولياً نظراً للإجماع على أولوية سحق «داعش» في سورية ضمن استراتيجية عسكرية وعملية سياسية انتقالية هشّة لا تتحمل الصدام والمواجهة بين روسيا وتركيا. لذلك، ان للتهدئة الأولوية انما المخاوف مستمرة من شخصية الرئيسين الانفعاليين، بمشروعين متناقضين أساساً، وبضخامة الأنا لديهما في خضم طموحات اعادة بناء الامبراطورية.
الرئيس فلاديمير بوتين لا يريد التورط عسكرياً في سورية بآفاق زمنية مفتوحة وهو جاهز لاستراتيجية خروج إذا ضمنت له ما يريده. وجد ان تلك الاستراتيجية مُتاحة في عملية فيينا التي أطلقتها روسيا ودعمتها الولايات المتحدة وتوسعت المشاركة فيها لتشمل 17 دولة من ضمنها ايران، علماً ان الجولة الأولى من فيينا ضمّت فقط السعودية وتركيا كلاعبين اقليميين.
أهم ما يريده فلاديمير بوتين من سورية هو محاربة الإرهاب السنّي في المناطق التي يسيطر عليها «داعش» كي لا يحاربه في الشيشان وموسكو أو في الجمهوريات الإسلامية التي تطوّق روسيا. يريد قاعدة عسكرية في طرطوس قرب قواعد حلف «الناتو» كي تكون له حرية بسط النفوذ في منطقة الشرق الأوسط. يريد استمرار العلاقة التحالفية بين روسيا وإيران. وعلى رغم اصراره على «علمانية» سورية، لا يمانع بوتين في ثيوقراطية ايرانية وهو جاهز للتحالف مع أي ميليشيات طالما تدعمه في الحرب على «داعش». بوتين يريد أن يحصد اقتصادياً في ايران بعدما استثمر فيها سياسياً. ويريد الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة في المرحلة الانتقالية ويترك الباب مفتوحاً على احتمال عدم ترشحه للرئاسة السورية، انما من دون ضمانات.
في أعقاب دخول روسيا عسكرياً حلبة الحرب السورية بصورة مباشرة، أدرك الرئيس الروسي أهمية انماء العلاقات الودية مع الدول الخليجية إذا كان يريد الخروج من ورطة سورية. أدرك ان من الضروري تحسين العلاقة المتوترة دوماً مع تركيا التي يتهمها بدعم الإرهاب كوسيلة لفرض أجندة صعود الإسلاميين الى السلطة، وبالذات «الإخوان المسلمين». عملية فيينا أمّنت الوسيلة للبحث مباشرة في مستقبل سورية مع الاتفاق على ترحيل الخلافات الى حين آخر فيما يتم البناء على أسس الإجماع. وأهم تلك الخلافات هي: مستقبل بشار الأسد في العملية الانتقالية، بالذات في مراحلها الأخيرة. تعريف مَن هي التنظيمات الإرهابية ومَن هي المعارضة السورية المسلحة المقبولة. البرامج الزمنية لخروج القوى غير السورية من الأراضي السورية، الروسية منها والإيرانية، و «حزب الله» والميليشيات.
الجديد في المواقف الروسية، وفق مصادر مطلعة، هو استعداد موسكو للانفتاح جدياً على «الجيش الحر» في مبادرة تعتبر روسيا انها تلبي الإصرار السعودي – التركي – القطري على ان «الجيش الحر» هو حليف ضروري في الحرب على «داعش». الخلاف هو على ما تعتبره موسكو بديهياً، أي مركزية القوات النظامية السورية في تلك الحرب وإن كانت بإمرة بشار الأسد، فيما توافق الدول الثلاث على ضرورة تماسك الجيش السوري ودوره البديهي، انما ليس بإمرة الأسد.
أنقرة لا تريد ما يثقب قبضتها على المعارضة السورية المسلحة. قد ترحب بالدور السعودي الجديد في رعاية جهود جمع أطياف المعارضة السياسية والمسلحة، لكنها لا ترحب بانفتاح روسي مباشر وثنائي يُضعِف قبضتها.
ثم ان أنقرة لا تثق بأساليب موسكو عند التطرق الى مستقبل بشار الأسد في العملية الانتقالية ولا يعجبها ذلك الغموض الخلاق الذي يتجنب التقدم بضمانات. وعندما صدر عن لقاء فلاديمير بوتين بالمرشد الإيراني علي خامنئي توافق على عدم الإخلال بالوعود وخيانة الحلفاء، قرأت أنقرة ذلك على أنه تعهد واضح بالتمسك ببشار الأسد في نهاية المرحلة الانتقالية كما في بدايتها.
شكوك رجب طيب أردوغان في نظيره الروسي ازدادت أساساً عندما أصرت الديبلوماسية الروسية على سورية «علمانية» فأصرّ على تحدي ذلك وأصدر التعليمات الى وفده لدى فيينا بالمعارضة القاطعة. فهو يعتبر ذلك التعبير ضربة قاضية لأي دور لـ «الإخوان المسلمين» الذين لا يريد اقصاءهم عن مستقبل سورية.
ثم هناك العنصر الكردي الذي يثير أردوغان جدياً إذ يرى ان الغرب والشرق معاً يضربان بعرض الحائط احتجاجه على اعتبار الأكراد عنصراً أساسياً يجب دعمه عسكرياً وتمكينه ميدانياً في اطار الحرب على «داعش» و»جبهة النصرة» و»القاعدة» وكل تنظيم يتعاون معها. فالرئيس التركي يشكك في عواصم حلف «الناتو» بقدر ما يشكك في موسكو عندما يتعلق الأمر بالأكراد. ولعله أراد زج «الناتو» في الزاوية عندما توجه الى الحلف بعد اسقاطه الطائرة الروسية التي تقول انقرة انها تجاهلت الإنذارات المتعددة بعدم دخول الأجواء التركية.
علاقة تركيا بحلف شمال الأطلسي تحسنت في الفترة الأخيرة علماً أنها اتسمت دائماً ببعض التوتر والاختلاف على المفاهيم والسياسات. دول «الناتو» وافقت أنقرة عل حقها بالدفاع عن النفس. والرئيس أوباما دعا روسيا الى الالتحاق بالتحالف الدولي ضد «داعش» بدلاً من نصب نفسها حرة طليقة في الأجواء السورية. قال أيضاً ان الوقت مناسب لروسيا ان تقنن غاراتها ضد «داعش» وليس ضد أقطاب المعارضة السورية. أنقرة اتهمت موسكو باستهداف متعمد للتركمان في سورية قبل اسقاط الطائرة. وموسكو اتهمت انقرة، بعد اسقاط الطائرة، بأنها تعمدت استفزازها، لكن الديبلوماسية الروسية حرصت على عدم تحويل المسألة الى مواجهة مع حلف شمال الأطلسي وأبقت الغضب محصوراً بتركيا.
دول حلف شمال الأطلسي ليست مسرورة أساساً بنصب روسيا قاعدة عسكرية لها في طرطوس بالقرب من تركيا، وهي أكثر استياء وقلقاً من احتمال التورط بمواجهة مع روسيا تترتب على تصعيد عسكري بين روسيا وتركيا. فهناك المادة الخامسة التي تجبر دول حلف الأطلسي على الدفاع الجماعي عن أية دولة في الحلف تتعرض الى اعتداء.
أكثر القلقين من تدهور علاقات «الناتو» مع روسيا هو الرئيس الفرنسي فرنسوا رولاند الذي أسرع الى لعب دور الراعي لتقارب وتفاهم أميركي – روسي في أعقاب ارهاب باريس قافزاً الى اعتبار سحق «داعش» أولوية في سورية بعدما كان في الماضي يعتبر رحيل بشار الأسد أولوية.
روسيا غاضبة وبوتين غاضب جداً لأن تلك هي المرة الأولى منذ 1953 التي تُسقط فيها طائرة روسية على أيدي عضو في حلف شمال الأطلسي. موسكو غاضبة لأن اسقاط المروحية الروسية التي كانت تبحث عن الطيار الروسي أتى على أيدي تنظيم اسلامي مستخدماً صواريخ «تاو» الأميركية الصنع. فهذا ذكّر موسكو بصواريخ «ستنغر» التي استخدمها «المجاهدون» في افغانستان وأفلحوا في اسقاط الإمبراطورية السوفياتية في أواخر الثمانينات.
لكن موسكو لا تريد اسقاط عملية فيينا التي تشارك فيها تركيا والسبب هو ان عملية فيينا هي استراتيجية الخروج لروسيا من الورطة السورية.
المبعوث الأممي الخاص الى سورية ستيفان دي مستورا، في حديث مطوّل الى «الحياة» في نيويورك نُشر السبت الماضي، قال ان روسيا «لا تريد التورط في الاشتباك أطول مما يجب» وإن دول مجموعة فيينا ستستخدم نفوذها وتأثيرها في الأطراف المتقاتلة للتوصل الى وقف النار في موازاة العملية السياسية وإن هذه المجموعة هي من سيعلن وقف النار. هذا يتطلب التهدئة بين روسيا وتركيا.
انما التهدئة وحدها ليست كافية. فما وراء التصعيد الروسي – التركي في سورية خلاف عميق حول المسار السياسي وشكوك متبادلة بين المشروعين الروسي والتركي داخل سورية كما في اطار الطموحات الإيديولوجية والأحلام الأمبراطورية. لعل الديبلوماسية السعودية تنجح في لجم التهور والاعتباطية لأنها على علاقة جيدة مع البلدين. لكن هذا يتطلب ايضاحات جذرية من جانب روسيا والتزامات متينة حول العملية السياسية الانتقالية. فإذا كان الغموض الخلاق عنواناً دائماً لموسكو وإذا كان ترحيل الخلافات استراتيجية القفز على العقد بما يؤدي الى ترسيخ الأسد وتحويل المسألة السورية الى مجرد حرب على الإرهاب، لن تبقى عملية فيينا ورقة التين الساحرة وستخسر موسكو فرصة استراتيجية الخروج من الورطة السورية.
راغدة درغام
صحيفة الحياة اللندنية