معمر فيصل خولي
في 18 كانون الأول/ ديسمبر 1973، أصدرت “الجمعية العامّة للأمم المتّحدة” قرارها باعتبار اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية للأمم المتحدة . ونظرا لأهمية هذا القرار ، وأهمية اللغة في حياة الأمم والشعوب، ارتأى مركز الروابط في إعادة نشر مقال الدكتور معمر فيصل خولي ” اللغة العربية:الهوية والانتماء”.
المقدمة
لغة الأمة هي مصداق هويتها ونسغ حياتها ووعاء ثقافتها ومجتلى حضارتها ومرآة نهضتها وحاضنة تراثها وهي ذاكرة الأمة وتاريخها، ووجود الأمة مرتبط بوجود لغتها، والأمم التي انقرضت لغاتها زالت من الوجود، ولا بقاء لأمة يتخلى أهلها عن لغتها.
واللغة هبة تميز الكائن البشري على ما عداه من الكائنات، يتم اكتسابها التدريجي مع النمو الأول لخلايا الطفل في شهور عمره الأولى، من خلال لبن الأم وصوتها، ومن هنا جاء مصطلح “لغة الأم” الذي يُطلق دائمًا على اللغة التي تلقاها الإنسان بفطرته وغريزته، وتعلمها كما تعلم الأكل والشرب والمشي، ربما بدون جهد إرادي منه، ولكن من خلال الاستجابة الغريزية لدوافع البقاء والتحضر.
ولهذا فإن اللغة الأم تصبح جزءًا لا يتجزأ من شخصية صاحبها، وتظل حتى وإن زاحمتها لغات أخرى فيما بعد، هي أقرب اللغات للتعبير عن الخلجات الدقيقة على اختلاف ميادين الإرسال والاستقبال.
ومن المؤكد والمسلَّم به أن اللغة، وهي وعاء الفكر، تمثل مقياسًا خطيرًا من مقاييس الهوية والانتماء، وتظل بمثابة البوتقة التي تجمع تراث الأمة، وتستوعب مقومات فكرها وثقافاتها على توالى عصور التاريخ، فهي أداة التعبير ووسية التوصيل، وهي مادة التوثيق التي تضمن لفكر الأمة بقاءً وخلودًا. ولا شك أن الاهتمام باللغة القومية يظل مؤشرًا من مؤشرات الاهتمام بالقومية ذاتها، حيث تظل اللغة معبرة عن الوعي الجماعي للأمة، مرتبطة-كل الارتباط- بهوية أبنائها، معبرة عن وحدة صفوفهم، ووحدة أهدافهم، ووحدة فكرهم في آنٍ واحد.
واللغة كما ورد في تقرير التنمية الإنسانية العربية عام 2003م، أبرز سمات المجتمع الإنساني، وما من حضارة إنسانية إلا وصاحَبَها نهضة لغوية، وما من صراع بشري إلا ويُبطن في جوفه صراعًا لغويًّا، فاللغة هي المنظار الذي من خلاله يدرك الإنسان عالمه، وهي العامل الحاسم الذي يشكل هوية هذا الإنسان ويضفي على المجتمع طابعه الخاص.
فالهوية نتاج المعاني التي يشيدها الأفراد عبر اللغة. والطابع الخاص للمجتمع وليد تفاعل ما يسري في داخله من خطابات لغوية ترتهن بالمتغيرات التاريخية، وتعكس كل ما تزخر به المنظومة المجتمعية من أوجه الوفاق والشقاق.
وبدا من الطبيعي أن ينطلق الاهتمام باللغة من واقع جهود أهلها الناطقين بها، فهي أغلى ممتلكاتهم، وأبرز ملامح هويتهم، وذلك يستدعي دومًا مراجعة النفس تجاه المتغيرات الحالية والمستقبلية، ضمانًا لبقائها في سياق الزحام الحضاري لتظل قوية صُلبة معبرة عن كياناتها الثقافية كما كانت عبر ماضيها، وهو ما يستدعي-أيضًا- مزيدًا من الاهتمام بها، وبذل محاولات جادة لتنقيتها من كل الشوائب التي يمكن أن تحيط بها، أو تحاول إضعافها أو النيل منها.
تتميز اللغة العربية عن كل لغات البشر بأنها لغة العبادة، ولهذا انتشرت مع الإسلام في كل شبر وصلت إليه تلك الدعوة الخالدة، واستطاعت في سنوات معدودات أن تبتلع اللغات المحلية، التي كانت تتكلم بها شعوب كثيرة وكأنها عصا النبي موسى عليه السلام، التي ألقاها أمام السحرة فإذا هي تلقف ما يأفكون. وارتباط اللغة العربية بالدين الإسلامي ساعد كثيرًا على سرعة وازدياد رقعة انتشارها، كما اوجد التسامح في الإسلام رابطة قوية بين اللغة والهوية الثقافية. ويتمثل ذلك المبدأ الأثر النبوي الشريف الذي رواه المؤرخ والمحدث الشهير ابن عساكر:” ليست العربية من أحدكم بأبيه ولا بأمه، وإنما العربية لسان، فمن تكلم العربية فهو عربي”.
وقد ألغى الإسلام العصبيات القبلية، وقضى على التفرقة العنصرية حين ساوى بين العرب والعجم، وحين أعلن النبي-صلى الله عليه وسلم- في سمع الزمان من خلال خطابه الشهير في حجة الوداع أنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. وهكذا استوى تحت مظلة الإسلام سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، والعباس ابن عبدالمطلب القرشي الهاشمي.
ولم يكن عجيبًا أن يشمر غير العرب عن سواعدهم وأن يسعوا منذ فجر الدعوة الإسلامية إلى تعلم هذه اللغة وإتقانها، ودراسة خصائصها، واستلهام أسرارها، واستنباط قواعدها، إذ عليها “مدار أحكام الكتاب العزيز والسنة النبوية” على حد تعبير ابن عساكر في مقدمة معجمه الشهير” لسان العرب”.
واللغة العربية، التي سارت مع المد الإسلامي الذي انطلق من شبه الجزيرة العربية، ابتلعت لغات كثير من الشعوب التي اختارت الإسلام لها دينًا، واللغة العربية لها لسانًا، فتكلمتها بطلاقة غريبه، واستطاعت أن تسهم في إثراء التراث العربي في مجالات الحياة المختلفة، في الطب والصيدلة والرياضيات والكيمياء والفلك، ولم تكتف بكل هذا فأسهمت أيضًا في الأدب واللغة والنحو. وفي عصورها الزاهرة استطاعت اللغة العربية أن تستوعب تراث الأمم القديمة من فرس وإغريق وسريان وغيرهم، وأن تقدمه للبشرية سائغًا شرابه، لذيذٍا طعمه، فأثرت الفكر الإنساني والحضارة الإنسانية في مجالات العلوم المختلفة البحتة والتطبيقية.
وأثبتت اللغة العربية من ناحية أخرى أنها قادرة على استيعاب كل ثقافات الأرض حتى غدت في أواخر القرن الثاني عشر للميلاد لغة العلم والحضارة، وأصبح العلم يتكلم بالعربية لمدة تزيد على ثمانية قرون من عمر الزمان، كانت الأمة قوية فقويت معها لغتها. وأقبل علماء أوربا على تعلمها وترجمة تراثها العلمي إلى اللاتينية فيما يُعرف بعصر الاستعراب الأوروبي.
ولم يكن مصادفة أن يبرز من بين الشعوب غير العربية، من يثري هذه اللغة شعرًا ونثرًا وتأليفًا في شتى المعارف والفنون. بل إننا ليأخذنا العجب حين نرى أن أعظم علماء العربية هو سيبويه الفارسي، وحين نرى أعظم شيوخ الحديث البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وكلهم من أصول غير عربية ومن بلاد شديدة البعد عن شبه الجزيرة العربية.
ولعل مما يلفت النظر أيضًا أن شعوب الأرض التي ارتضت الإسلام دينًا لها قد ارتضت اللغة العربية لسانًا لها، وأن الشعوب التي حافظت على لغاتها كتبت تلك اللغات بحروف عربية، سواء في ذلك اللغات الإفريقية كالسواحلية واللغات الأسيوية كالفارسية والأوردية.
وتمضي عجلة الزمن، وتتعرض الشعوب التي دخلت في دين الله أفواجًا، واتخذت لغة القرآن لها لسانًا، تتعرض لظروف عصبية، فتمتحن عقيدتها، ويتلعثم نطقها وتتعثر كتابتها. وفي وطننا العربي أصبحت اللغة العربية، التي كانت لغة الحضارة وأداة التنوير لعدة قرون، أصبحت شبه غريبة على أبنائها في هذا العصر الذي نعيش فيه، فتعثرت ألسنتهم وصارت عبئًا ثقيلًا عليهم في جميع مراحل التعليم، حتى وصلوا إلى الجامعة وهم لا يكادون يقيمون عبارة، ولا يحسنون التعبير بها عن ذوات نفوسهم. ومن الثابت أن اللغة وسيلة اتصال وتفاهم بين الناس، ومن ثم يصبح إتقانها ضرورة من ألزم الضرورات، وليس نوعًا من الترف كما يتوهم البعض.
تأتي أهمية هذه الدراسة تزامنًا مع اليوم العالمي للغة العربية الذي يصادف الثامن عشر من شهر كانون الأول/ ديسمبر من كل عام، للتأكيد بأن واقع الأمة العربية المتأزم والمتخلف والمريض، انعكس على واقع اللغة بإهمالها من قبل أبناؤها وليس جمودها، كما تؤكد هذه الدراسة على كون اللغة القومية لأي أمة من الأمم هي عماد هويتها القومية. وتتوزع هذه الدراسة على عدة محاور:
أولًا- اللغة وسيلة لإنقاذ الهوية:
من المفيد هما أن نشير إلى ثلاث تجارب في التاريخ الحديث والمعاصر تم الاعتماد فيهم على اللغة لإنقاذ الهوية وحمايتها من التداعي. وهذه التجارب كانت مع اللغة العبرية واليابانية والكورية.
كانت اللغة العبرية من اللغات الميتة، فقد نجح المتحدثون بها في إحيائها من الموات ولمها من الشتات. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر قامت مجموعة من الشباب اليهود الأوربيين بحركة لإحياء اللغة العبرية. وكان من أشهرهم “أليعازر بن يهودا” الذي دعا إلى إحياء اللغة العبرية من خلال جعلها لغة التخاطب في الحياة اليومية، ونادى بشعار “لاحياة لأمة بدون لغة”. وفي سنة 1881م، هاجر إلى فلسطين مع زوجته وأسرته، وفرض اللغة العبرية لغة التخاطب والحديث بين أفراد أسرته، رغم أنها كانت لغة ميتة مثل اللغة اللاتينية، لا تستخدم إلا في الطقوس الدينية. ورغم سخرية الناس منه إلا أنه أسس رابطة للمتكلمين بالعبرية في فلسطين، وأصدر مجموعة من الصحف باللغة العبرية في القدس، وقام بإعداد معجم للغة العبرية أنجز منه تسعة مجلدات في حياته، وأكمله تلاميذه من بعده إلى ستة عشر مجلدًا.
واستجابة لجهد “أليعازر بن يهودا” تم إنشاء مدارس تدرس كل موادها باللغة العبرية بما فيها التاريخ والجغرافيا والرياضيات وغيرها، وأنشأوا مراكز عديدة لتعليم لغتهم للمهاجرين الجدد، وتلقينهم أنها اللغة المقدسة “ليشون قاديش”. وحرصوا على ذكر المواقع والأماكن باللغة العبرية، فالضفة الغربية هي السامراء، وغزة يهودا، والخليل حبرون، وبئر سبع هي بئر شيفع .. إلخ.
وانطلاقًا من دعوة “أليعازر بن يهودا” أصبحت العبرية الآن شديدة الحيوية كما أصبحت تشكل الهوية، وتدرس بها كل العلوم الحديثة في الكيمياء والفيزياء والصيدلية والطب والهندسة والعلوم الإنسانية، وتعقد بها المؤتمرات. وهكذا جسدت هذه المحاولة الناجحة تماسك الهوية من خلال لغة يتم إحياؤها من العدم.
ومما يدلل على أهمية اللغة في توحيد أهلها، والنهوض بهم هذه الشعوب التي هزمت عسكريًّا، وتمسكت بلغتها؛ فاليابانيون مثلًا بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية خضعوا لشروط الأمريكيين في تغيير الدستور وحلٍّ الجيش ونزع السلاح وغير ذلك، ولكنهم رفضوا التخلي عن لغتهم القومية التي تمسكوا بها، واستعملوها في معاهدهم وجامعاتهم ودخلوا بها معتركات الحياة العلمية والصناعية المتطورة، وكذلك كان الكوريون الذين وقعوا تحت احتلال اليابانيين الذين فرضوا عليهم لغتهم، ومنعوا الكوريين من التعليم بلغة بلادهم، ولكنهم بعد تخلصهم من الاحتلال-بعد هزيمة اليابانيين في الحرب العالمية الثانية- وجدناهم اعتمدوا اللغة الكورية الفصيحة أساسًا للتنمية البشرية، وجعلوا في بلادهم لغة التعليم في مختلف مراحله، وتخصصاته المتنوعة، وكتبوا جميع اللافتات وأسماء المحلات بها فقط، وفي حال الاضطرار إلى كتابة أسماء أجنبية كما في لافتات السفارات والفنادق الكبرى جعلوها بالحروف الأجنبية الصغيرة تحت الحروف الكورية الكبيرة.
ثانيًا- اللغة العربية والهوية: لا شك أن اللغة هي الفكر وهي الهوية وهي الماضي والحاضر والمستقبل. وتواجه اللغة العربية في الوقت الحاضر عدة آفات منها استعمال اللغة العامية، سواء في وسائل الإعلام، أو في لغة الباحثين والمذيعين والمحاضرين، وهي آفة مستعصية لا يسهل القضاء عليها.
وقد غلبت لغة العامة حتى على لغة المدرسين والأساتذة في المدارس والجامعات، بخلاف ما كان عليه الأمر قبل، فقد كان المعلمون في المدارس الابتدائية لا يلقون دروسهم إلا باللغة العربية السليمة. ونعاين انتشارها أيضًا في شتى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمنطوق بها وفي الإعلانات ولافتات المحال التجارية والمطاعم والمقاهي وغيرها، وما يبعث على الأسى استعمال العامية في مناقشة الماجستير والدكتوراه في كليات الدراسات العليا في الجامعات الرسمية التي أنشئت حديثًا في بعض الدول العربية مثل المملكة الأردنية الهاشمية.
وتلك هي الآفة العظمى التي ينبغي التصدي لها. من خلال التوعية الاجتماعية، من طريق الإذاعة والتلفزة وإقامة ندوات تثقيفية وإلقاء محاضرات تحض على استعمال اللغة الفصيحة، وتكليف طائفة من الباحثين الاكِفاء إذاعة أحاديث في الإذاعة والتلفزة لتوعية الجماهير، وإعلامهم أن اللغة الفصيحة هي التي تجمع الأقطار العربية في وحدة لغوية تيسر التفاهم بين أبنائها، وإعلامهم أن الوحدة السياسية لا يتأتى تحقيقها إلا من طريق التوحيد اللغوي، وأن الانتماء إلى الأمة العربية يقتضي الاعتزاز بها والحرص على استعمالها في كل المجالات، وتذكير الجماهير في الوطن العربي بما كان للغتنا من شأن كبير في العصور المختلفة ولدى جميع الأمم التي انضوت تحت راية الدولة العربية الإسلامية.
والآفة الثانية التي جثمت على مجتمعاتنا هي استعمال اللغة الأجنبية في التواصل بين الناس، وكأن اللغة العربية لم تعد صالحة للتفاهم بين أفراد المجتمع، وحرص المسؤولون العرب على استخدام هذه اللغات في المقابلات واللقاءات الرسمية، بل حرصوا على استخدامها في داخل الأسرة الواحدة. ومنذ عهد قريب نهض فجأة الرئيس الفرنسي الأسبق “جاك شيراك” وغادر قاعة مؤتمر أوربي لرجال الأعمال، وكان سبب غضبه قيام أحد رجال الأعمال الفرنسيين بإلقاء كلمته أمام المؤتمر باللغة الانجليزية وليس بلغته الفرنسية. وهذا أبلغ دليل على خوف الفرنسيين على لغتهم الوطنية.
وبرغم أن اللغة العربية إحدى اللغات الرسمية المعتمدة في اليونسكو وفي هيئة الأمم المتحدة، فإن ممثلي الدول العربية يلقون بياناتهم باللغة الإنجليزية، واحيانا قليلة باللغة الفرنسية. وحتى في المنتديات والمؤتمرات التي تقام في عواصم الوطن العربي، ويشارك فيها الاجانب، يتحدث أبناء العربية باللغة الإنجليزية، فعلى سبيل المثال، عقد في أحد فنادق البحر الميت في المملكة الأردنية الهاشمية في شهر شباط/فبراير 2007م، مؤتمرًا يبحث استراتيجيات التعليم العالي العربية، وكانت اللغة الإنجليزية لغة المؤتمر المعتمدة مع أن عدد المشاركين الأجانب الذين لا يعرفون اللغة العربية في ذلك المؤتمر لا يتعدى العشرين من أصل أربعمائة مشارك كلهم من العرب، وكأن ذلك من دواعي الفخار، لا من إهدار الهوية والانسلاخ من الانتماء الذي يوحي به حديثنا باللغة القومية وهي المستودع الزاخر بالمعاني والأفكار والقيم. ومن هنا، هل يجوز القول: إن اللغة العربية كانت في مازق؟ إن مأزقها أبناؤها أنفسهم!.
وهي (استعمال اللغات الأجنبية) آفة مردّها إلى مركّب النقص في نفوس مستعملي اللغة الأجنبية، والتوعية الاجتماعية من وسائل علاج هذه الآفة، بإقناع أفراد المجتمع بأن الأمة التي تتخلّى عن لغتها وتستعمل لغة أخرى هي غير جديرة بالبقاء.
ولم يقتصر استعمال اللغات الأجنبية، والإنجليزية خاصة، على أفراد المجتمع بل تجاوزهم فطغى على لافتات المحال التجارية والفنادق والمطاعم وغيرها، وعلى الإعلانات الموضوعة في الطرق. ومن يسر في شوارع عمّان أو القاهرة أو غيرهما من العواصم العربية فعينه تكاد لا تقع على لافتة واحدة باللغة العربية، فكأن سمعة المحل لا ترقى إلا باستعمال الأجنبية. واستأثرت الشركات والمؤسسات العالمية بمنافذ العمالة، وجعلت اتقان اللغات الأجنبية شرطًا للتعيين بها، وفرضت ذلك فرضًا على التعليم.
وفي أقطار الخليج العربي هيمنت اللغات الأسيوية الوافدة مع العمالة التي تستعين بها في مختلف الميادين والمجالات. ولا يقف التحدث بها عند حد هذه العمالة، بل انتشرت بين أبناء الخليج مما جعل اللغة العربية فيها لغة “هجين”، والخوف أن تصبح في المستقبل لغة الأقلية في أوطانها.
وفي مجال التعليم، تلجأ كثير من المدارس الخاصة للتدريس باللغة الأجنبية، منذ الصف الابتدائي. في حين لا توجد في” إسرائيل” مدرسة واحدة تدرس بغير اللغة العبرية إلا إذا كانت لأبناء الهيئة الدبلوماسية في السفارات الأجنبية. فالعبرية في حالتهم ليس مجرد تواصل، بل أداة بناء الأمة.
إذ يصعب على مواطنٍ ياباني، أو فرنسي، أو حتى ” إسرائيلي” أن يفهم كيف يمكن أن يولد أطفال لوالدين فرنسيين أو يابانيين أو ألمانيين أو ” إسرائيليين” ينمون وينشأون في بلدهم، ولكنهم لا يتحدثون لغتهم الأم، لا في البيت ولا المدرسة، ولا يدرسون العلوم في بلدهم بلغتهم، فالتحدث بلغة الأم والتعلم بها أمر طبيعي وبديهي في نظر مواطن تلك البلاد، لذا يعد الابتعاد عن اللغة الأم تبعد عن المساهمة في المنجزات الثقافية والعلمية للحضارة في عصرنا.
ومن أهم التحديات التي تواجه اللغة العربية اليوم هو ما أطلق عليه مصطلح العولمة وهي أحد أساليب الاستعمار الثقافي والاجتماعي والسياسي، وهنا لا ننكر أن للعولمة جوانبها الإيجابية، ومنها نشر المعرفة والتبادل المعرفي والثقافي بين الأمم، وإقامة التواصل المعرفي بينها، ولكن من سلبيات العولمة تفوق إيجابياتها.
ولهذا ابتكر أصحاب هذه الدعوة أسلوبًا للسيطرة على ثقافات الشعوب ولغاتها وهويتها وحضاراتها وأسلوبها ظاهره نشر المعرفة وباطنه السيطرة على الأمم ثقافيًّا ومعرفيًّا وسياسيًّا، فالعولمة من أخطر التحديات التي تواجه اللغة العربية، ولغتنا تتعرض اليوم لهجمات فتاكة من دعاة العولمة، وهم يزعمون أنها لم تعد صالحة في هذا العصر لأن تكون وعاء للتقدم العلمي والتقني، ومن الخير استبدال اللغات الأجنبية والإنجليزية باللغة العربية، بغية استيعاب المعطيات الحديثة، ودعاة العولمة يهيبون بالأمة العربية أن تجعل تراثها وراء ظهرها وأن تسير في ركب الأمم المتقدمة لتحظى بالتقدير والتقدم، ومن هنا الدعوة إلى إنشاء شرق أوسط جديد يغاير في مفاهيمه وثقافاته وتوجهاته السياسية ثقافة الأمة العربية. ونشير هنا إلى بعض معالمه ومشاريعه التي تهدف إلى طمس الهوية العربية:
1- إعادة تعريف هُوية الدول العربية؛ نذكر على سبيل المثال العراق اليوم ينظر له بوصفه بلد مكونات، ويشهد محاولات لنفي هويته العربية، والامر ينطبق على السودان، الذي اضحى نهباً لمشاريع تقسيمية.
2- المشروعات الرامية إلى استبعاد مصطلح العروبة والعربية والوطن العربي والأمة العربية، كمشروع الشرق الأوسط الجديد، ومشروع الشراكة الأوروبية المتوسطية .. الخ.
3- المشروعات العاملة على استبعاد اللغة العربية من بين اللغات العالمية في هيئة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، واستبعادها من امتحانات الشهادة الثانوية على أنها لغة ثانية في فرنسا، واعتماد اللهجات العامية للأقاليم العربية” مثل إقليم المغرب العربي، وإقليم مصر والسودان، إقليم بلاد الشام والعراق، وإقليم الخليج العربي”
4- المشروعات العاملة على تلقي مواد المعرفة باللغة الانجليزية في المدارس الخاصة والجامعات الخاصة في دول الخليج العربي، واللغة الفرنسية في دول المغرب العربي، والعاملة على تعزيز اللهجات الدارجة في القنوات الفضائية وعلى شبكة “الانترنت”.
5- المشروعات الهادفة إلى التعتيم على الحضارة العربية الإسلامية، وتشويه التاريخ العربي وتزويره، والداعية إلى قطع العلاقة مع التراث” قتل الأب على حد تعبير دعاتها”.
ثالثًا-اللغة العربية والانتماء:
كما هو معروف فان الإنسان بطبيعته كائن منتمٍ، فلا يستطيع أن يشكل وجوده أو يعيش حياته بمعزل عن الآخرين. ولا يستطيع كذلك أن يبدع لغة خاصة تعزله عن سواه من البشر، الذين يشاركونه، أو بالأصح يشاركهم واقعهم الاجتماعي والسياسي والثقافي.
وهذا الواقع المشترك الذي يفرض الهوية المشتركة، هو الواقع نفسه الذي يفرض الانتماء إلى هذه الهوية دينية كانت، أو لغوية، أو وطنية. والهوية لا تتأتى بين يوم وليلة؛ وإنما هي خلاصة تعايش طويل لقوم أو مجموعة أقوام تحدد، بمرور الزمن، مكانهم الجغرافي، وتحددت معالم لغتهم المشتركة وقواعدها، وتحددت معها طموحاتهم وأحلامهم، وصاروا بحكم ذلك التكوين منتمين بالضرورة إلى هذا المكان وهذه اللغة. وأي تصدع في جدار الانتماء لابد أن يصدر تصدعات واسعة في جدران الهوية والمكان واللغة.
ومن هذا المفهوم، وبنظرة فاحصة إلى واقع الوطن العربي-المكان- فإننا نجد أبناءه يعيشون حالة من الانسلاخ العشوائي عن الانتماء إلى هويتهم العربية، ومقابل ذلك أو بسببه افتقد هذا الوطن المكان جزءًا كبيرًا من تضامن أبنائه، وكان رد فعل هذا الضعف في الانتماء إلى المكان، وإلى اللغة، إن ظهر في الواقع ما يجري من تصدع في جدران المكان العربي الذي يمتد من المحيط إلى الخليج، فانزرع في القلب منه الكيان الإسرائيلي بلغته وتوسعيته وطموحاته السياسية والاقتصادية وعدوانيته المتصاعدة.
وفي هذا السياق كان الاحتلال الأجنبي قد استولى على الوطن العربي باستثناءات لا تذكر؛ خضعت بدورها لاحتلال غير مباشر، وفي السياق نفسه، وفي وقت قريب حدث الاحتلال الأمريكي للعراق بقوة الحديد والنار، وتحت مبررات تبقى واهية مهما حشد لها المحتلون من أعذار واسباب، وسوف يبقى ضعف الانتماء إلى المكان والهوية مدخلًا إلى مشكلات وكوارث يصعب توقعها، ويمكن إدراكها من ضمن المقدمات الماثلة. إن لم يسترجع العرب إيمانهم، ويعودوا إلى التمسك بانتمائهم إلى هويتهم الواحدة.
وتكاد براهين ضعف تكون بلا حصر، وأما شواهدها فهي حاضرة في حياتنا العامة والخاصة، في مدارسنا وجامعاتنا وفي بيوتنا. ولعل التغريب بمعنى ترجمة اللفظ العربي إلى اللغة الإنجليزية ليسهل فهمه، وكأن اللغة العربية لغة غامضة، غير مفهومة، ولابد من لغة أجنبية مقابلة حتى يتم الفهم. من المظاهر الشاخصة على ضعف الانتماء.
وقد يتدرج ضعف الانتماء إلى أن يصل- لا سمح الله- إلى درجة الاختفاء. وتتزايد هنا المصاعب التي تحول دون الانتماء الحقيقي والفاعل إلى اللغة الأم، لا في البيوت الفقيرة من المكتبات والثقافة العربية فحسب، وإنما في البيوت التي كان ينبغي أن تكون نماذج لتعزيز الانتماء وتقوية الصلة بلغة الأم والأمة. وهذا البرهان له أمثلة كثيرة في حياتنا جميعًا تكمن وراءه التعقيدات والمصاعب التي تعاني منها اللغة العربية.
يضاف إلى ذلك ضعف الانتماء هو الذي زيّن للبعض القول بأن نقل أفراد الأسرة نحو الآفاق الجديدة والتفتح والنمو لا يتم إلّا إذا تجاوزت الأسرة العربية لغتها الأصلية، وشرع أفرادها في الرطانة. وكلّما زادت ضعف انتماء العربي إلى لغته وثقافته العربية زادت مخاطر التصدع، وتضاعفت التحديات التي تعاني منها اللغة العربية.
ولحل أزمة اللغة العربية لتأصيل الهوية وتعميق الانتماء ومواجهة التحديات الآنية والمستقبلية، تجدر الإشارة إلى ما يلي:
– تفجير الطاقة الكامنة في اللغة العربية، من خلال اجراء البحوث المعمقة لاستكشاف قدراتها وآدابها، وبما يسهم في تبسيط قواعدها.
– الإفادة من الثورة العلمية التي تشهدها اللغويات الحديثة، إذ أفرزت من المناهج العلمية التي يمكن بها تناول الكثير من جوانب إشكالية اللغة العربية التي استعصت على الحل فيا مضى.
– الإفادة من التطور التقني الهائل في هندسة اللغة، ومما تزخر به شبكة المعلومات العالمية (انترنت) من مواقع عديدة لتعليم وتعلم اللغة الإنجليزية للناطقين وغير الناطقين بها، وتطوير مواقه مشابهة لخدمة اللغة العربية.
– تشجيع الباحثين في مجال نظرية الأدب وعلم النص الحديث والمعجميات والإنجازات، التي أثبتت جدواها في معالجة اللغة العربية آليًّا وخاصة في علم الصرف والنحو.
– استخدام الحاسوب في بناء المكانز العربية.
الخاتمة
من الحقائق المقررة أن اللغة العربية هي وعاء الأمة الفكر والذخيرة، ومستودع القيم الثقافية وكذلك الاجتماعية. وتوهين لغتنا وإضعافها، ونبذها وإحلال أخرى مكانها، قد يؤدي إلى بلبلة في فكر أبنائها وقيمهم العريقة، وفي معاني الهوية والانتماء.
وإذا تخلى امرؤ عن لغته واصطنع لغة غيرها، فإن تفكيره وفكره يتحول شيئًا فشيئًا إلى مخزون تلك اللغة ودخائرها، ويرتبط تدريجيًّا بعادات أهلها وقيمهن ومع مرور الوقت يتحول انتماؤه إلى ثقافتهم، وقد يعجز-فيما بعد- عن التعبير عن شعوره وعواطفه بلغته التي تلقاها بفطرته وغريزته من أمه، ويستخدم تعابير اللغة التي جرفت ثقافته، وغيبت معالمه.
إن حماية اللغة العربية من هجمات العولمة هي واجب قومي وديني في آن واحد، فاللغة العربية هي السياج المتين الذي يحميها من آثار العولمة، ومناهضة العولمة تستدعي توعية الجماهير العربية وتعريفهم بأهدافها الخبيثة وجوانبها السلبية، ومن واجب الأمة العربية حماية لغتها وتراثها وبيان الجوانب المضيئة في حضارة أمتنا وتاريخنا.
وفي الختام، أقتبسُ أبياتًا للشاعر الصقلّي ” إجنتزيا بوتينا” وعنوانها “لغة الحوار”، وهي أكثر من معبرة إذ تختزل أهمية اللغة بوصفها هوية وانتماء:
” ضع شعبًا في السلاسل
جَرَّدهم من ملابِسَهِم
سدّ أفواهَهُم.. لكنَّهم مازالوا أحرارًا
خُذ منهم أعمالَهم…وجوازات سَفَرهَم
والموائد التي يأكلون عليها
والأسّرَّة التي ينامون عليها
لكنَّهم مازالوا أغنياء
إن الشعب يفتقرُ ويُستعبَد
عندما يُسلب اللسان
الذي تركَه الأجدادُ وعندها يضيعُ إلى الأبد”.
كم كان هذا الشاعر صادقًا وأمينًا، وهو يضع النقاط على الحروف في موضوع اللغة، ودورها في حياة الإنسان الذي يجد ديمومته وديمومة شعبه وأمته في لغته التي عليها تتأسس هويته، وتتحدد معالم انتمائه.
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية