بينما كان فريق الإنقاذ التابع لقوات البحرية الأميركيةيحاول إنقاذ الرئيس الذي سقطت طائرته في المحيط الأطلسي عندما كانت تحلق فوق مثلث برمودا، وقع المنقذون في خطأ غير مقصود تسبب في إيقاظ وحش رهيب لم يهدد الساحل الشرقي للولايات المتحدة فحسب بل العالم بأكمله. وقائع فيلم “برمودا تينتيكال”، الصادر في 2014 للمخرج الأميركي نيك ليون وتأليف جيف ميد، ربما تتشابه مع أحداث جارية، تعيد الخوف حول العالم من إيقاظ وحش راكد، كان ضحاياه بعشرات الآلاف في هيروشيما وناجازاكي عام 1945، عندما قصفت الولايات المتحدة المدن اليابانية بالقنابل النووية في الحرب العالمية الثانية.
فعلتها أميركا عمداً في الحرب العالمية الثانية قبل أكثر من 77 عاماً، واستيقظ الوحش خطأ قبل نحو 36 عاماً حاصداً مزيداً من الأرواح ممن تأثروا بالتسرب الإشعاعي الناجم عن كارثة انفجار المفاعل النووي “تشرنوبل” في شمال أوكرانيا تحت قيادة الاتحاد السوفياتي، وخلال عام 2022 لوحت روسيا مراراً بإيقاظه مجدداً في مواجهتها مع الغرب على الأراضي الأوكرانية، باعثة مزيداً من القلق، وليس من المبالغة أن نقول الرعب، في أنحاء أوروبا ومناطق أخرى، لا سيما في ظل العواقب التي تجنيها أجزاء عدة من الكرة الأرضية منذ اشتعال الحرب في أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) الماضي، والتأثير الصادم في الاقتصادات حول العالم.
هل يفعلها الروس أم الأميركان؟
قبل أيام توعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمحو أية دولة تتجرأ على مهاجمة بلاده بأسلحة نووية، قائلاً إن موسكو قد تتبنى ما وصفه بمفهوم أميركي مفاده استخدام الضربات العسكرية الاستباقية، مشيراً إلى أن روسيا لديها تفويض لشن ضربة نووية وقائية، وأن الأسلحة الروسية المتقدمة التي تفوق سرعة الصوت ستضمن الرد بقوة إذا تعرضت بلاده للهجوم.
مراراً قال بوتين إن روسيا مستعدة لاستخدام “كل السبل المتاحة” لحماية أراضيها، كما أدلى مسؤولون روس من مستويات مختلفة بتهديدات مماثلة. فخلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) الماضي، لوح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بالنووي من أجل حماية الأراضي التي تم ضمها لاحقاً إلى روسيا بموجب استفتاء شعبي في شرق وجنوب أوكرانيا، وكان ذلك رداً على سؤال صحافي عما إذا كان لدى روسيا مبررات لاستخدام الأسلحة النووية للدفاع عن المناطق التي ضمتها. وفي الشهر نفسه، قال نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي دميتري مدفيديف، إن روسيا من أجل حماية سيادتها تستطيع استخدام ليس فقط إمكانية التعبئة العامة لجنودها، بل وأية أسلحة أيضاً، بما في ذلك أسلحة نووية استراتيجية.
ومع ذلك طالما أكد بوتين ومسؤولو روسيا أن استخدام موسكو للسلاح النووي سيأتي كرد على هجوم مماثل، فخلال تصريحاته الأخيرة التي جاءت في اجتماع مع المجلس الروسي للمجتمع المدني وحقوق الإنسان، أعلن الرئيس الروسي أن بلاده لن تبادر إلى استخدام السلاح النووي إلا “رداً” على ضربة عدائية محتملة تطاول أراضيها. وقال “نعتبر أسلحة الدمار الشامل، السلاح النووي، بمثابة وسيلة دفاع (اللجوء إليها) يستند إلى ما نسميه (الرد انتقاماً)، إذا تعرضنا لضربة نضرب رداً على ذلك”.
وأوضح “لم نصب بالجنون، فنحن ندرك ما الأسلحة النووية، لدينا هذه الوسائل على نحو أحدث وأكثر تقدماً من أية دولة نووية أخرى، هذه حقيقة واضحة، لكننا لسنا على وشك الركض في أنحاء العالم ملوحين بهذا السلاح مثل شفرة حلاقة”.
استراتيجية الأمن القومي لبايدن
إذا كانت موسكو تؤكد بأنها لن تبادر باستخدام السلاح النووي، فهل تفعلها واشنطن مجددا؟ ذلك السؤال أصبح مطروحاً في ظل استراتيجية الأمن القومي الجديدة للرئيس جو بايدن، التي صدرت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وتتمرد على القيود المفروضة على استخدام الأسلحة النووية.
فوفقاً للوثيقة فإنه “بحلول عام 2030، ستواجه الولايات المتحدة، وللمرة الأولى في تاريخها، قوتين نوويتين رئيستين كمنافسين استراتيجيين وخصوم محتملين (روسيا والصين)”. واستجابة لذلك التهديد، ستحتفظ الولايات المتحدة “بمعيار مرتفع للغاية للاستخدام النووي” من دون استبعاد استخدام الأسلحة رداً على تهديد استراتيجي غير نووي للوطن أو القوات الأميركية في الخارج أو للحلفاء.
يقول مركز السيطرة على الأسلحة ومنع الانتشار النووي في واشنطن، إن التهديد باستخدام الأسلحة النووية يزيد من فرص نشوب صراع نووي. ويشير إلى أن خيار الإدارة الأميركية بالاحتفاظ باستخدام الأسلحة النووية أولاً، يفترض أنه يمكن لها الفوز في حرب من هذا النوع، وهي سياسة تتعارض مع عقيدة الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان بأنه “لا يمكن الانتصار في حرب نووية ولذا يجب عدم خوضها أبداً”، ذلك إيماناً بأن الجميع خاسر في حرب مدمرة.
وفي ظل غياب سياسة عدم الاستخدام الأول. يقول مراقبون أميركيون إن خصوم الولايات المتحدة المسلحين نووياً لديهم سبب للخوف من أن واشنطن قد تشن هجوماً نووياً يمكن أن يدمر بعض أو كل أسلحتهم النووية ويمنعهم من الرد، وربما يشعرون بالضغط لاستخدام أسلحتهم النووية في وقت مبكر من الأزمة.
وشهد الكونغرس الأميركي بعض الجهود للدفع بقوانين تمنع البيت الأبيض من الاستخدام الأول للأسلحة النووية. ففي أبريل (نيسان) 2021 تقدمت السيناتور الديمقراطية أليزابيث وارن بمشروع قانون “عدم الاستخدام الأول”، وسبقها في فبراير (شباط) النائب الديمقراطي تيد ليو، بمشروع قانون “تقييد الاستخدام الأول” الذي يتطلب موافقة الكونغرس باستخدام الأسلحة النووية في إعلان حرب.
شرق آسيا بقعة ساخنة
إيقاظ الوحش النووي لا يتعلق بالتوتر الروسي الغربي فحسب، فثمة عمليات تطوير نووي جارية على قدم وساق في شرق آسيا حيث المنطقة الرئيسة للتنافس الجيوسياسي بين واشنطن وبكين. فقبل أسبوعين، أفاد تقرير لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بأن حجم الترسانة النووية الصينية سيزداد بأكثر من ثلاثة أضعاف بحلول عام 2035 لتبلغ 1500 رأس نووية، مشدداً على أن بكين تواصل تعزيز قدرات سلاحها الجوي. ووفقاً للتقرير السنوي حول الجيش الصيني فإن القوات الصينية تتقدم على الصعيدين النووي والتقليدي، مشيراً إلى تخطي المخزون الصيني من الرؤوس النووية 400 حالياً. وهو ما لا تنفيه الصين لكنها وضعته في سياق “الدفاع عن النفس” وليس بهدف سباق للتسلح.
تقع في تلك المنطقة قضية أكبر تتعلق بتايوان، تلك الجزيرة الواقعة قبالة البر الرئيس للصين ويبلغ عدد سكانها 23 مليون نسمة، بينما تعتبرها الصين جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، علماً أن بكين تعهدت قبلاً بإعادتها إلى كنفها ولو بالقوة. وفي أغسطس (آب) الماضي زارت رئيسة مجلس النواب الأميركي حينها نانسي بيلوسي تايوان في واقعة أججت التوترات، وردت عليها الصين بإجراء مناورات عسكرية كانت الأوسع نطاقاً حول الجزيرة منذ تسعينيات القرن الماضي.
وفي حين انحسر التوتر منذ ذلك الحين، إلا أن مسؤولاً عسكرياً رفيعاً أشار إلى أن الأنشطة الصينية حول تايوان وإن انحسرت لا تزال أوسع نطاقاً من السابق وتشكل مصدر قلق. واعتبر تقرير الـ”بنتاغون” أن ممارسات الصين “في منطقة المحيطين الهندي والهادئ تزداد قسرية وعدوانية”، وهو تعبير تعتمده الإدارة الأميركية للدلالة على تغير التحالفات في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وفي حين يستبعد مراقبون اندلاع حرب نووية بين واشنطن وبكين، فإن الأخيرة ربما تلوح بذلك السلاح لردع خصومها في ما يتعلق بقضية تايوان.
كما تواصل كوريا الشمالية تجاربها الصاروخية من دون هوادة، التي كان أكثرها إثارة للقلق إطلاق ما يشتبه في أنه صاروخ باليستي عابر للقارات في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مما دفع الولايات المتحدة وخمس دول أخرى إلى عقد اجتماع طارئ في بانكوك بعد أن سقط الصاروخ في مياه المنطقة الاقتصادية الخالصة لليابان، فيما قال وزير الدفاع الياباني ياسوكازو هامادا، إن هذا الصاروخ يمكنه الوصول إلى البر الرئيس للولايات المتحدة.
وتشهد شبه الجزيرة الكورية توترات مرتفعة بعد أشهر من التحذيرات المتكررة من واشنطن وسيول في شأن التجارب النووية الصاروخية التي تجريها بيونغ يانغ. وبلغت تلك التوترات درجة مثيرة في نوفمبر عندما بدأت مناورات جوية أميركية وكورية جنوبية بمشاركة أكثر من 200 مقاتلة أطلق عليها “فيجيلانت ستورم”، وهو ما دفع بتبادل التهديدات اللفظية بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية.
اندبندت عربي