سيكون هنالك عدة تحديات أساسية لسياسة واشنطن الخارجية خلال عام 2023. أولها موقفها في العام الجديد من تطور الحرب بين روسياوأوكرانيا، والثاني تطور الثورة الشعبية ضد النظام الإيراني. تحديان تواجههما قرارات واشنطن التي لن تكون قادرة على إنهاء أزمات 2022 بشكل حاسم في الأشهر الأولى من 2023 أو في الأقل إيجاد ردود مناسبة وحاسمة لها أوائل العام.
وبناء على أحداث العام الماضي سنحاول استشراف إمكانات إدارة بايدن في مواجهة التحديين المذكورين في ظل أجواء دولية أكثر صعوبة وتبدل في مواقف التحالفات والتوقعات والسياسات العسكرية والدبلوماسية للحلفاء والشركاء. وإذ نستشرف مواقف واشنطن من التحديات المذكورة نأخذ في الاعتبار عاملين إضافيين، الأول احتمال انفجار أزمات إضافية في هذا العام التي قد تعقد المواقف الأميركية المتطورة تجاه حرب أوكرانيا والثورة الإيرانية. والأخير قدوم أكثرية جديدة في مجلس النواب، وانقسام في مجلس الشيوخ مما سيشكل تحدياً داخلياً ثالثاً أمام الإدارة الراهنة خلال العامين المقبلين في الأقل.
استمرار حرب أوكرانيا
في الأشهر العشرة الماضية لم تتمكن واشنطن من إيجاد آلية مع شركائها الأوروبيين وفي حلف الناتو لفرض وقف لإطلاق النار من ناحية، أو حسم عسكري من ناحية أخرى يسمح لسلطات كييف ببسط سيادتها على أراضي أوكرانيا، بعد أن فرض الكرملين احتلاله للمنطقتين الشرقية والجنوبية. وأحكمت القوات الروسية سيطرتها على كامل الساحل ما بين شبه جزيرة القرم وبحر آزوف، وغيرت بالتالي المعطيات الجيوسياسية في البحر الأسود. وكما كتبنا في مقالات سابقة على رغم أن الكرملين أمر بالتقدم في اتجاه الأجزاء الشمالية من أوكرانيا وصولاً إلى مشارف كييف في بداية الحرب فإن أهدافه الاستراتيجية الكبرى وبعيدة الأمد كانت التقدم في المناطق الشرقية لضمها إلى روسيا، والتقدم في المناطق الجنوبية لإقامة حزام ما بين القرم والأراضي الروسية وإعلان ضم كل تلك المناطق إلى موسكو عبر استفتاءات، وهذا ما تم بالفعل.
وعلى رغم تمكن القوات الأوكرانية من استرجاع أراض واسعة في الشمال وبعضها في الشرق والجنوب فإن إعادة التموقع الروسي في “المناطق الحمراء”، أي التي لم ولن يتخلى عنها بوتين والبرلمان الروسي “دوما”، فإن هذه الخطوط تحولت إلى حدود أمر واقع داخل أوكرانيا بين شرقية وغربية.
الجدير بالذكر أن كييف تمكنت من استرجاع مساحات لا بأس بها من أراضيها بفضل المساعدات العسكرية الغربية الهائلة على صعيد الذخيرة والأسلحة والتخطيط والمعلومات الاستخباراتية.
10 أشهر من الحرب شرق أوروبا أدت إلى دمار كبير واستنزاف للطاقات المحلية والإقليمية والدولية، وتسببت في أزمات دولية تبدأ في مجلس الأمن حيث لم يتمكن من إيقاف هذه الحرب، وتنتهي بأزمات المحروقات وسعر النفط وبالطبع التحديات الدبلوماسية وإعادة التموقع لعدد كبير من الدول التي فضلت الجلوس في منتصف الطريق وتحاول أن يكون لها دور حواري أو في الأقل تفاوضي بين الكتلتين الكبيرتين، وذلك تقريباً في جميع القارات.
عسكرياً ومالياً
على الصعيد العسكري البحت فلتحالف الناتو وعلى رأسه الولايات المتحدة قدرات كبيرة والبعض يعتبرها غير محدودة إلا أن بعض الدول تسعى إلى إعادة النظر في سياساتها الدفاعية كما ألمانيا وبولندا، بالتالي فإن الجهود العسكرية مستمرة وتنمو في الغرب مع ما ينتج عن ذلك من متطلبات مالية واقتصادية وما يرافقها من تحديات سياسية داخلية مرتبطة بهذه التعبئة التي لم تكن منتظرة في بداية العام. على الصعيد الأميركي رأينا خلال الأسابيع والأشهر الماضية أن دافع الضرائب الأميركي بات ملزماً بتقديم نحو 70 مليار دولار للجهد الحربي الضخم في أوكرانيا، مما أحدث انقساماً عميقاً في الداخل على السياسة الأميركية حول معنى وأسباب الانخراط التام في مساندة أوكرانيا ضد روسيا.
هذه الأزمة باتت ملامحها تدل على استمرارها خلال عام 2023. فالكونغرس الجديد بأكثريته الجمهورية لن يوفر دعماً دائماً للإدارة والقرارات التي ستصدر عن مجلس شيوخ منقسم بين الحزبين. سيطرح سؤال استراتيجي كبير: هل بإمكان الولايات المتحدة الاستمرار في هذا الجهد المتعاظم مالياً، وإلى أي حدود؟ الأجوبة ستكون متعددة. طبعاً الخبراء يعتبرون أن المساعدة العسكرية الأميركية عبر الناتو أو بشكل مباشر إلى أوكرانيا أمر سيفيد الصناعات العسكرية الأميركية، وهي مستعدة له كما تشير التقارير عن حجم الأرباح التي جمعتها وتجنيها الشركات الصناعية العسكرية من هذه المساعدة الضخمة إلى أوكرانيا.
بات من الواضح أن قوى الضغط المرتبطة بلوبيات الصناعات العسكرية وراء دفع إدارة بايدن وجزء من الكونغرس الماضي إلى تقديم هذا الحجم الكبير من المساعدات بسبب ربح هذا التكتل الدفاعي العسكري من ناحية، وشركات الاستشارات في الولايات المتحدة من ناحية أخرى، إذ إن هذا اللوبي سيستمر في الضغط لمساعدة أوكرانيا بغض النظر عن حل الأزمة من عدمه.
المعارضة
إلا أن التيار الانعزالي بشكل عام بخاصة التيار الشعبي الجمهوري يرفض استمرار الانزلاق في مساعدة أوكرانيا، كي لا تتحول هذه الحرب إلى استنزاف اقتصادي ومالي يربح فيه الكبار في الصناعات واللوبيات ويخسر المواطن الأميركي العادي قدرته الشرائية، فتتكثف الضرائب ويلجأ الاقتصاد الأميركي إلى مزيد من الديون.
إدارة بايدن تحاول أن تجد موقفاً أو موقعاً بين المصلحتين، مصلحة الاقتصاد العسكري من ناحية وهي تعتبره ضرورياً لاستمرار القيادة الأميركية لحلف الناتو، ومن ناحية أخرى تصميم الأصوات الناقدة المتصاعدة داخل أميركا بعدم توسيع الدعم لأوكرانيا.
ومع تسلم الكونغرس الجديد فإن إدارة بايدن تعرف تماماً أن الانتقادات ستتوسع كثيراً داخل مجلس النواب، إذ إن الرزمة التي تم تمريرها بتريليون و700 مليار للعام الآتي سيتم استهدافها وانتقادها من قبل مجلس النواب إلى حد بعيد خلال الأشهر الآتية، بالتالي ماذا يمكن أن نتوقع من البيت الأبيض وحلفائه حيال مواجهة أزمة أوكرانيا.
معادلة الأرض
أولاً الأوضاع على الأرض هي التي ستتحكم بجزء من هذا القرار، فالأوكرانيون مصممون على التقدم حتى الوصول إلى الحدود الروسية الأوكرانية حتى ولو “كلفهم ذلك” جزءاً كبيراً من “الخزينة الأميركية”. والروس مصممون على الدفاع عن المناطق التي أعلنوا أنها روسية، حتى ولو تسبب ذلك باستعمال أسلحة محظورة دولياً. وفي هذه المعادلة الخطرة يطرح سؤال ماذا يمكن لإدارة بايدن أن تقوم به؟
خيارات بايدن
بعض التقييمات تقول إن الإدارة ستسلك طريقين، علني ومخفي. الأول يتلخص في استمرار الدعم على ما هو عليه لتمكين القوات الأوكرانية من الوصول إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه على الأرض، مما يشكل ضغطاً اقتصادياً ونفسياً وإعلامياً على روسيا، ولكن الإدارة تعرف تماماً أن الانخراط غير المباشر له حدود قبل أن يتحول إلى انخراط مباشر في القتال، وهذا ما هدد به بوتين خلال الأسابيع الأخيرة.
إذاً المعادلة المخفية هي مفاوضات بدأت فعلاً بين واشنطن وموسكو حول إمكانية إيجاد سبيل أولاً لوقف إطلاق النار. أما الطريق العلني فيتمثل في بلورة آلية للمفاوضات بين طرفي النزاع، بايدن يريد إظهار أنه مصمم على دعم أوكرانيا من ناحية، ولكن عملياً يعرف تماماً ألا حل لهذه الحرب إلا بمفاوضات بين الطرفين كما تنبأ وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر. فهذه هي السيناريوهات التي سننتظرها في الأقل خلال الأشهر الأولى من 2023. أما عن تحدي إيران أمام واشنطن فهو موضوع مقالنا المقبل.
اندبندت عربي