تتوالى ردود الأفعال على مقال عميد الدبلوماسية الأمريكية هنري كيسنجر «كيفية تجنب حرب عالمية أخرى»، الذي تحدث فيه عن ضرورة «الحفاظ على دور روسيا التاريخي وإن مالت للعنف»، وفضّل إيجاد طريق سلمي من خلال المفاوضات لإنهاء الحرب، وهو ما جرّ عليه سلسلة انتقادات جاء أحدها من الرئيس الأوكراني زيلينسكي، الذي هاجم كيسنجر قائلا، إنه لا يهتم بمصالح أوكرانيا.
الاعتراضات على كيسنجر ليست حديثة، بل بدأت عندما قال في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، إن أوكرانيا يجب أن تتنازل عن بعض الأراضي لروسيا
كذلك انتقد أستاذ العلوم السياسية جوليان ليندلي، كيسنجر معترضا تحديدا على فكرة الاهتمام ببقاء روسيا من أجل التوازن العالمي، إذ قال «ما لا أفهمه هو تلميح كيسنجر إلى أننا بحاجة إلى الحفاظ على روسيا بشكل جذري وتنقيحي، لأن عدم التوازن المتزايد في النظام الدولي سيزداد سوءا». «هذا يطرح سؤالا يفشل كيسنجر في الإجابة عليه: كيف يمكن إقناع دولة فاشلة مفرطة التسليح تقوم على استغلال وتقويض النظام، بأن تصبح ركيزة للنظام المذكور؟»، ويعترض ليندلي على مقاربة كيسنجر بتشبيه أجواء الحرب القائمة في أوكرانيا بما قبل الحرب العالمية الأولى، وعلى تعبير «انتحار ثقافي» الذي أطلقه كيسنجر، بينما يجادل منتقدوه بأن الحرب استراتيجية وسياسية لا ثقافية، وأن التفاوض مع روسيا لن يحدث قبل اعتراف موسكو بأخطائها وشعورها بوحدة الموقف الغربي وقوته. الاعتراض على كلام كيسنجر جاء أيضا من ضابط سابق في المؤسسة العسكرية اعتبر أنه «من الخطأ الاعتقاد بأن روسيا بوتين، أو أي روسيا مثلها يمكن أن تكون شريكا في الحفاظ على التوازن العالمي عندما تكون مصممة على تدميره».
الاعتراضات على كيسنجر ليست حديثة، بل بدأت منذ منتصف العام الحالي، عندما قال كيسنجر في المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس، إن أوكرانيا يجب أن تتنازل عن بعض الأراضي لروسيا. ومن الواضح أن الحرب الروسية في أوكرانيا ما زالت تثير الكثير من النقاش والجدل في الغرب حول الأسلوب الأمثل لكبح جماح بوتين، الذي تمكن حتى الآن من السيطرة على مناطق شرق أوكرانيا، رغم الدعم الغربي الهائل لأوكرانيا، لذلك فإن الواقع على الأرض يشير لتقدم روسيا حتى الآن، رغم كل النجاحات التي يتم الحديث عنها غربيا في أوكرانيا. ويبدو أن هناك رغبة محمومة في إعادة تقييم العلاقة مع موسكو، ومراجعة للسياسات معها في العقود الأخيرة، وفي هذا الإطار رفعت السرية عن مذكرة لوزارة الخارجية البريطانية، تتضمن إحاطة لزيارة توني بلير عام 2000 لبطرسبورغ ولقائه بوتين، حيث تكشف الوثيقة أن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، ورغم حديثه عن انتهاكات لحقوق الإنسان مارستها روسيا في حملتها العسكرية في الشيشان، إلا أنه لم يطرح القضية مع بوتين، بل اهتم بتوسيع نشاط شركات النفط البريطانية في روسيا، خصوصا شركة (بي بي) برتيش بتروليوم، وتكشف المذكرة أن بريطانيا دعمت خطة لمدة ثلاث سنوات تهدف لانضمام روسيا لمنظمة التجارة العالمية، وعمل بلير على دعم مشروع لدمج روسيا في الاقتصاد العالمي، من خلال علاقاته برؤساء الدول، كما اهتم بلير بطمأنة بوتين بأن توسيع الناتو لن يكون أمرا سلبيا لروسيا، ولعل النقطة الأكثر جدلا هنا، أن المذكرة السرية تكشف أن رئيس المخابرات البريطانية M16 اعتبر أن رحلة بلير لسان بطرسبورغ ولقاء بوتين حينها ساعدت بوتين في الانتخابات الروسية حينها.. هل هذا يعني أن تقديرات الحكومة البريطانية لنوايا بوتين كانت خاطئة، وأن موسكو نجحت في تضليل الغربيين لسنوات؟ وهل سيمتد هذا ليومنا الحاضر لتنجح موسكو في فرض إرادتها في أوكرانيا، وإن بعد تضحيات كبيرة؟ الشهور المقبلة كفيلة بالإجابة أو لعلها السنوات المقبلة!
القدس العربي