تتزايد بصورة لافتة مؤشرات التقارب بين تركيا والنظام السورى، بعد فترة قطيعة طويلة على إثر الموقف التركى الداعم للمعارضة السورية منذ اندلاع الصراع فى سوريا قبل أحد عشر عاماً. فعلى مدى العامين الماضيين، اتخذت أنقرة عدة خطوات إيجابية للتقارب مع دمشق، تجاوزت عبرها تأثيرات المواجهة المحدودة بين القوات التركية وبين قوات النظام السورى فى عام 2020، إثر استهداف الأخيرة دورية عسكرية تابعة لتركيا فى إدلب.
وبدت أبرز تلك المؤشرات فى الاجتماع الثلاثى الذى عقد فى 28 ديسمبر 2022، وجمع وزراء دفاع كل من روسيا وتركيا وسوريا فى العاصمة الروسية موسكو. وقد بدأ التحسن فى العلاقات بين تركيا وسوريا تدريجياً بلقاء محدود تم بين وزير الخارجية التركى ونظيره السورى، على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز فى بلجراد – أكتوبر 2021 – بمناسبة الذكرى الستين لتأسيسها، تلا ذلك لقاءات على مستوى رؤساء أجهزة الاستخبارات فى البلدين. وعلى مدى العاميين الماضيين، لم تتأثر محاولات التقارب بين الجانبين بالتهديدات التركية المستمرة بشن عملية عسكرية رابعة ضد قوات سوريا الديمقراطية فى الشمال السورى، فيما تعتبره تركيا حماية لأمنها القومى.
اللافت فى الاجتماع الأخير هو مستوى التمثيل – وزراء الدفاع – الذى قد ينم عن خطوات مقبلة تتعلق بطبيعة الصراع العسكرى على الأرض، وفى مقدمتها الوجود العسكرى التركى فى الشمال السورى الذى أستطاع السيطرة على مناطق حدودية واسعة خلال الفترة (2016- 2019)؛ عبر ثلاثة عمليات عسكرية هى: درع الفرات، وغصن الزيتون، ونبع السلام.
وتحاول روسيا، التى تلعب دوراً مهماً فى تقريب المواقف بين دمشق وأنقرة على مدار العامين الماضين، الحفاظ على قناة تواصل بين الطرفين ما مكنها – ولو بصورة مؤقتة – من منع تركيا من القيام بعملية عسكرية جديدة فى مناطق الحدود السورية، من منطلق الحفاظ على سيادة الدولة السورية ووحدة آراضيها، حيث استطاعت روسيا بصورة تدريجية إقناع أنقرة بأهمية أن يتولى النظام السورى مهمة فرض الأمن والاستقرار فى المناطق الحدودية معها، ورأت أنقرة فى الطرح الروسى وسيلة لعودة اللاجئين السوريين إلى أراضيهم، ووسيلة أيضاً لتقويض وجود قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، فى مناطق الشمال السورى. لكنها فى الوقت نفسه تضع حلفائها من قوات المعارضة السورية فى مرمى أهداف النظام السورى مجدداً حال رفضها المصالحة معه.
ملامح صفقة
الدور الروسى فى تقريب المواقف بين أنقرة ودمشق على مدار العامين الماضيين بدا وكأنه يقترب من فكرة “الصفقة”؛ بمعنى أكثر وضوحاً ثمة رغبة روسية فى إتمام “مصالحة” بين تركيا والنظام السورى خلال الفترة المقبلة تتوج بلقاء الرئيسين رجب طيب أوردوغان وبشار الأسد. والحديث عن الصفقة هنا يعنى أن ثمة “مساومات ومقايضات” سيتم بناءً عليها تحقيق المصالحة؛ وهنا يشار إلى متغيرين مهمين يتوسطان العلاقة بين دمشق وأنقرة: الأول، يتعلق بالمتغير الكردى السورى وتحديداً قوات وحدات حماية الشعوب المكون الرئيسى لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”. والمتغير الثانى، يتصل بمتغير الدعم التركى للمعارضة السورية بشقيها السياسى والعسكرى؛ والأخير تحديداً على درجة من الأهمية حيث تتمتع قوات المعارضة السورية المسلحة بدعم تركى لامحدود؛ سواء الجيش السورى الحر وتمركزاته فى حلب بشمال شرق سوريا، أو المعارضة المسلحة المتشددة والمصنفة إرهابياً بمحافظة إدلب فى الشمال الغربى.
وتبدو المقايضة واضحة ومؤداها “المعارضة السورية مقابل الأكراد السوريين”؛ أى تتخلى تركيا عن دعمها للمعارضة السورية مقابل أن يتولى النظام السورى بنفسه حماية الحدود التركية من تهديدات قوات سوريا الديمقراطية، مما قد يفتح الباب على تسويات متعددة الحلقات تبدأ بحل إشكالية وجود إدارة ذاتية لمناطق الأكراد السوريين من أساسها، وهو هدف مشترك للجانبين التركى والسورى على حد سواء؛ هدف أمنى لتركيا، وهدف سيادى للنظام خاصة بعد فشل لقاءات تمت بين النظام والأكراد على مدار الفترة الماضية كانت تستهدف التوصل لصيغة عمل مشتركة تضمن سيادة الدولة على مناطق الإدارة الذاتية الكردية، بما يحقق وصول دمشق لعائد ثروات الشمال السورى: النفط والزراعة.
هذه المقايضة إن تمت فستؤدى إلى وضع العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة – الداعم الرئيسى للإدارة الذاتية الكردية – على المحك. وتضع كذلك معادلات النفوذ فى الشمال السورى كله – بين تركيا والولايات المتحدة – أمام تحدٍ جديد يتمثل فى دخول طرفين مناوئين للمصالح الأمريكية فى الشمال السورى- إحدى أبرز هذه المصالح هى النفط فى الحسكة والرقة ودير الزور- وهما الطرفان الروسى والسورى، مما يزيد من تعقيد خريطة النفوذ فى سوريا بعد سنوات من ثباتها على حالة التوازن بين القوى المنخرطة فيها.
هذا التغيير المتوقع حدوثه ليس منفصلاً عن مجمل التجاذبات بين تركيا والولايات المتحدة من ناحية، وبين الأخيرة وروسيا على هامش الأزمة الأوكرانية من ناحية ثانية، والتى لايتسع المجال هنا لتفنيدها.
الأكراد.. أكبر الخاسرين
من المنطلقات السابقة، يبدو الأكراد السوريون هم الطرف الخاسر فى معادلة التقارب السوري-التركي الأخير؛ وهو ما بدا واضحاً من الرسائل التى حاولت أنقرة تسويقها لدمشق خلال اجتماع وزراء دفاع البلدين فى موسكو وأبرزها أن الوجود التركى فى الشمال السورى لا يستهدف سيادة الدولة السورية على أراضيها، وإنما يستهدف محاربة الإرهاب سواء إرهاب تنظيم الدولة “داعش”، أو إرهاب قوات سوريا الديمقراطية التى تصنفها تركيا تنظيماً إرهابياً على خلفية علاقتها بحزب العمال الكردستانى التركى المعارض، وأن الوجود التركى يتوقف مستقبله على مدى قدرة النظام السورى على توفير الأمن والاستقرار لمنطقة الحدود الشمالية، وأن تركيا تتفق مع النظام السورى فى عودة اللاجئين السوريين شريطة أن يوفر النظام عودة آمنة عبر آليات يتم التنسيق بشأنها بين الجانبين.
ويلاحظ هنا أن عودة اللاجئين السوريين تعد من الأسباب الضاغطة بقوة على الرئيس التركى وحزبه من قبل أحزاب المعارضة التركية من ناحية، وفى ظل وطأة الأزمة الاقتصادية التى تتعرض لها تركيا من ناحية ثانية، وفى ضوء الانتخابات المزمع إجراؤها خلال يونيو 2023 الجارى من ناحية ثالثة.
وانعكست الرغبة التركية بشأن عودة اللاجئين السوريين فى المطلب الذى طرحه وزير الدفاع خلوصى آكار خلال اجتماع موسكو الثلاثى، ودعا إلى البدء فى إجراءات عودة اللاجئين السوريين، وفقاً لخارطة طريق تنفذ فى مناطق محددة على طول الحدود الشمالية لسوريا مطلع شهر فبراير المقبل. لكن النظام السورى طلب التريث وإتاحة مزيد من الوقت للإعداد الجيد لهذه الخطوة.
فى هذا الإطار، ثمة “شبه توافق” تم بين وزيرى الدفاع التركى والسورى بشأن عدة نقاط تتعلق باحتمالية “تطوير موقف مشترك” ضد حزب العمال الكردستانى التركى المعارض الذى يتخذ من بعض أماكن حكم الإدارة الذاتية الكردية فى الشمال السورى ملجأ لعناصره، بل ثمة من يقول بأن الطرفين السورى والتركى اعتبرا – خلال الاجتماع – الحزب عميلاً للولايات المتحدة وإسرائيل.
وجدير بالذكر هنا أن التوافق السورى-التركى برعاية روسية على “تطويق أو إنهاء أو استهداف “قوات سوريا الديمقراطية” سيحقق رغبة مشتركة للأطراف الثلاثة؛ حيث ستقضى تركيا على خصمها الأكبر ومهدد أمنها الأول، وستضمن دمشق فرض سيطرتها وسيادتها على مناطق الشمال التى منعت من دخولها على مدار 11 عاماً بما يعيد إليها ثروات نفطية وزراعية جمة هى فى أشد الحاجة إليها نتيجة أزمتها الاقتصادية الطاحنة، أما روسيا والتى لا يضيرها الأكراد فعلياً، ولا يؤثرون على نفوذها الفعلى فى سوريا فهدفها الرئيسى هو تصفية حليف الولايات المتحدة فى سوريا، بما يقضى على سبب الوجود العسكرى الأمريكى من ناحية، ويعزز من هيمنة النظام السورى على مجمل أراضيه من ناحية ثانية.
المعطيات السابقة توضح أن “قوات سوريا الديمقراطية” ومناطق الإدارة الذاتية الكردية باتت أمام خيارات صعبة للغاية فرضها “تقارب المصالح” السورى-التركى من ناحية، والرغبة الروسية فى تقليص نفوذ الولايات المتحدة فى سوريا من ناحية ثانية، وهى خيارات تُبقِى الأكراد – حال رفضهم الامتثال للشروط التركية وأبرزها الانسحاب لمسافة 30 كيلومتر عن حدودها الجنوبية – فى مواجهة عملية عسكرية تركية محتملة وشاملة وواسعة سيوافق عليها كل من النظام السورى وروسيا معاً. فوفقا لنمط تطور مستوى العلاقات التركية-السورية مؤخراً أصبح الأكراد “عدواً وهدفاً مشتركاً” لأنقزة ودمشق على حد سواء.
المعارضة السورية وخيارات صعبة
تحظى المعارضة السورية منذ اندلاع الأزمة السورية برعاية تركيا التى استضافت هيئتها السياسية – الائتلاف الوطنى لقوى الثورة فضلاً عن الحكومة السورية المؤقتة- على أراضيها من ناحية، ووفرت دعماً عسكرياً ومادياً ضخماً للمعارضة المسلحة من ناحية ثانية. لكن يبدو أن مستقبل هذا الدعم بات مهدداً بفعل حالة التقارب السريعة التى تشهدها علاقات تركيا بالنظام السورى مؤخراً، وهو ما يضع المعارضة فى الترتيب الثانى بعد الأكراد ضمن قائمة الخاسرين الفعليين جراء هذا التقارب، بما يعنى تقلص حجم ونوع ومستوى الدعم الذى تقدمه تركيا للمعارضة السورية مستقبلاً، بل وفى حالة وصول التقارب إلى مرحلة التطبيع الشامل بين البلدين فإن ذلك سيؤدى إلى وقف شامل للدعم التركى للمعارضة السورية، الأمر الذى يقلص من خيارات المعارضة التى ستفقد الداعم الرئيسى لها.
وحينها لن يكون بمقدور المعارضة السورية البحث عن غطاء إقليمى جديد لاسيما فى ضوء مسارات التقارب التى أبدتها بعض الدول تجاه النظام السورى، والتى كانت تقف ضده سابقاً وهى تحديداً؛ السعودية وباقى دول الخليج والأردن. وحتى الدول الأوروبية والولايات المتحدة – باتت ومنذ سنوات – لا تجد غضاضة فى بقاء نظام الأسد حاكماً لدمشق، حيث تم إعادة تسويقه كطرف مهم فى محاربة الإرهاب فى منطقة المشرق العربى. هذا بخلاف أن استمرار الدعم الأوروبى والأمريكى للمعارضة السورية مستقبلاً يحتاج إلى قيام المعارضة بجهد أكبر على مستوى إعادة هيكلة نظامها وأهدافها التى تجاوزتها الأحداث وسقطت أمام توازنات مصالح القوى الإقليمية والدولية المعنية بالأزمة.
فضلاً عما سبق، فإن المعارضة السورية تعد طرفاً أصيلاً فى مسارات أستانا بشأن خفض التصعيد، وبالتالى لن يكون فى مقدورها الاعتراض على أية صيغة جديدة يضمنها طرفان من أطراف صيغة استانا الثلاثية. وتعكس المظاهرات التى شهدتها مناطق تسيطر عليها المعارضة السورية بدعم تركى فى مدن الباب وأعزاز وجرابلس شمال سوريا، وكذلك إدلب فى الشمال الغربى، رفض المعارضة لخطوات التقارب الفعلية التى تبديها تركيا تجاه النظام السورى، وما قد ينتج عنها من إجبارها على التصالح مع نظام الأسد، حيث اعتبرته – ووفقاً للشعارات التى رفعتها تلك المظاهرات – “طعنة فى ظهر المعارضة”، و”بيعاً لدماء الشهداء من جانب أنقرة”.
ثمة رأى آخر يقول بأن تركيا لن تتخلى بصورة كاملة عن دعم المعارضة، لكن التغيير سيكون فى مستوى هذا الدعم؛ وأنصار هذا الرأى يرون أن تركيا البراجماتية أعتادت أن لا تتخلى عن كافة أوراق ضغطها مرة واحدة. ومن ثم فإنها قد “تقلل” من مستوى الدعم لكنها لن تقطعه نهائياً. بمعنى أنها ستسعى إلى تقييد مصادر تمويل المعارضة، وتقلل من الدعم الإعلامى لها، تحسباً لأى متغيرات قد تنتج عن أى عملية للتسوية السياسية للأزمة مستقبلاً، وهو ما انعكس -ووفقاً لهذا التصور- فى تطمينات للمعارضة السورية صادرة من وزارة الخارجية التركية مؤداها أن تركيا لا تربط مسارات التسوية الشاملة للأزمة السورية بمسار التطبيع مع النظام السورى، وأن أنقرة ستعيد العلاقات مع النظام السورى تدريجياً بناءً على تعاطي النظام مع التصورات التركية بشأن نقاط التوافق والاختلاف معه.
وفى الأخير، يبدو أن مسار التقارب التركى-السورى أوشك على الوصول إلى محطة التطبيع الشامل، وهو ما يجعل مناطق الإدارة الذاتية الكردية فى الشمال السورى فى مرمى استهدافات تركية-سورية مزدوجة، بما يفرض قيوداً كبيرة على وجود “قوات سوريا الديمقراطية” فى تلك المناطق. وبالمثل يقيد هذا التقارب من تحركات المعارضة السورية، ويقلل من حجم الدعم التركى السياسى والعسكرى لها؛ أى أن تطبيع العلاقات بين تركيا والنظام السورى سيقلص مستقبلاً من خيارات الأكراد والمعارضة على حد سواء.
مركز الأهرام للدراسات