لم يكن اللقاء العلني بين وزراء الدفاع ورؤساء المخابرات الذي انعقد في موسكو بتاريخ 28-12-2022 مفاجئاً؛ كما أنه لم يكن الأخير بين المسؤولين الأتراك وممثلي سلطة بشار الأسد؛ وعلى ما يبدو لن يكون الأخير، بل ستعقبه اجتماعات أخرى تتوج بلقاء متوقع بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وبشار الأسد، وذلك بعد التوافق على التفصيلات الخاصة بالكثير من المسائل الأمنية والعسكرية، واللاجئين السوريين في تركيا، ومستقبل التعاون المشترك سواء على المستوى الثنائي (تركيا وسوريا) أو الثلاثي (روسيا، تركيا، سوريا).
فقبل هذا الاجتماع كانت هناك تصريحات علنية من جانب الرئيس التركي نفسه، ووزير خارجيته، جسّدت الرغبة في لقاءات كهذه على اعتبار أنها ستكون لمصلحة البلدين. ومن الواضح أن الروس من ناحيتهم قد وجدوا في الحركة التركية فرصة للعودة إلى عالم الدبلوماسية، بعد الحملة غير المسبوقة عليها، وهي الحملة التي تمثّلت في العقوبات الدبلوماسية والاقتصادية القاسية؛ مقابل دعم هائل لأوكرانيا في الميادين الدبلوماسية والعسكرية والمادية والإعلامية، لتمكينها من مواجهة الغزو الروسي، وذلك ضمن إطار السياسة الغربية الواضحة الحازمة الرامية إلى وضع حدٍ لطموحات الرئيس الروسي الامبراطورية عبر استنزافه وانهاكه في أوكرانيا.
فروسيا تعرف تماماً أن القرار النهائي للحل في سوريا لن يكون من دون موافقة غربية، أمريكية تحديداً. وهي تعرف أن كل النقاط التي تجمعها سواء بنفسها أم مع تركيا لا بد أن تصرف في نهاية المطاف عند الجانب الأمريكي. لذلك يبدو أنها تتهيأ منذ الآن لمشروع حل سياسي قد يطرح في نهاية المطاف لمعالجة الوضع القائم بينها وبين أوكرانيا. وباعتبارها تدرك مدى حساسية الملف السوري بالنسبة للأوروبيين والأمريكان، لتداخله مع الملفين اللبناني والعراقي؛ وتأثيره على الأردن ودول الخليج. هذا ناهيك عن دور العاملين الإيراني والإسرائيلي في المشهد السوري. فسوريا بالنسبة إلى النظام الإيراني تمثل الحلقة المفصلية في مشروعه التوسعي الإقليمي، لذلك نلاحظ أن الدور الإيراني لا يقتصر على التواجد العسكري الاستخباراتي المباشر، أو عبر دعم الأذرع الميليشياوية المذهبية بأسمائها المختلفة فحسب، بل هناك حرص إيراني مستمر على التغلغل في الدولة والمجتمع السوريين عبر الجيش والأجهزة الأمنية، والمؤسسات التعليمية والثقافية، ومن خلال الهيمنة على مفاصل الاقتصاد، وإحداث تغييرات في طبيعة الخارطة السكانية للبلد، والسعي لشرعنة كل ذلك بقرارات ومراسيم رسمية تصدرها سلطة بشار الأسد، تماماً كما حصل في العراق حينما ألزم النظام الإيراني الدولة العراقية، في ظل حكومتي كل من المالكي والعبادي، باعتبار ميليشيات الحشد الشعبي التابعة له جزءا من المنظومة الدفاعية العراقية، لتتكفّل الدولة العراقية بمهام التسليح والتمويل، بينما تكون القيادة والتبعية للجانب الإيراني .
هذا الانعطاف الحاد في سياسة حكومة حزب العدالة والتنمية الذي يتمثل في مساعيها الانفتاحية على سلطة بشار الأسد بعد مرور أكثر من 11 عاماً على انطلاقة الثورة السورية قدمت فيها تركيا الكثير للسوريين خاصة على صعيد استقبال نحو 4 ملايين لاجئ، ربما نجد تفسيره في الحسابات الداخلية الانتخابية والمعادلات الإقليمية، وحتى في طبيعة الاصطفافات الدولية الراهنة والمحتملة مستقبلاً.
فالحرب الروسية على أوكرانيا قد عززت من أهمية الموقع الجيوسياسي لتركيا التي تحرص من جانبها على الاستفادة من هذا الموقع، فتفردت باستمرارية العلاقات الاقتصادية مع روسيا، بل استمرت في التنسيق معها ومع إيران في الشأن السوري عبر مسار أستانا الذي مهّد أصلاً للكثير من التحولات التي نشاهدها اليوم في الموقف التركي من سلطة بشار الأسد.
ولن يكون مجدياً التعامل مع الموقف التركي من موقع عاطفي أو وجداني باستخدام لغة العتاب والانفعال. فالحكومة التركية الحالية قد أعادت النظر في حساباتها، والتزمت سياسة جديدة مع الملف السوري، واتخذت قرارها بالانفتاح على سلطة بشار الأسد. ولن تتراجع في هذا الاتجاه إلا إذا حصل طارئ نوعي من شأنه أن يؤثر بصورة مباشرة على واقع الاصطفافات الدولية، والمعادلات الإقليمية الراهنة، والحسابات الداخلية التركية.
ولكن في جميع الأحوال، سيكون لهذا الموقف التركي تأثيره الكبير على واقع المعارضة الرسمية، وعلى مواقف السوريين المناهضين لسلطة بشار الأسد بصورة عامة، إذا ما استمرت الحالة الخمولية الانتظارية التي تتمثل في استعداد للتكيف مع التوافقات التي ستتم أطراف مسار أستانا.
فبالنسبة إلى المعارضة الرسمية لن يتمكن الائتلاف في صيغته الحالية من الاعتراض على المستجدات في الموقف التركي، وكذلك لن تتمكن الهيئات التابعة له، على الأقل شكلياً، مثل الحكومة المؤقتة والفصائل المسلحة. والأمر كذلك بالنسبة إلى المنصات والهيئات الأخرى التي باتت عملياً مجرد امتدادات لسياسات الدول التي تتواجد فيها.
لذلك ينبغي التركيز على السوريين المناهضين لسلطة الاستبداد والفساد والإفساد في الداخل السوري في جميع المناطق السورية، فهؤلاء هم الذين تعرضوا للقتل والتنكيل والتهجير والتشرّد، ويتعرضون اليوم للجوع والقمع والإذلال والتنمر من قبل السلطة والمسيطرين على مناطق النفوذ غير الخاضعة للسلطة. فهؤلاء يدركون أن تعويم سلطة بشار الأسد برافعة روسية إيرانية، وعبر توافقات مع تركيا، وربما مع غيرها من الدول، مؤداه المزيد من الانتقام التي ستمارسه هذه السلطة ضدهم، وهي السلطة التي ما زالت في جميع المناسبات تكشف عن حقدها عليهم، وتعبر عن رغبتها في إذلالهم والانتقام منهم.
إذا كانت للدول أولياتها، فإن للسوريين أيضا أولوياتهم، وأولويات السوريين وجودية مصيرية، تؤثر بصورة مباشرة في مستقبلهم ومستقبل أجيالهم المقبلة.
فهذه السلطة التي أوصلت السوريين إلى الجدار المسدود، الأمر الذي دفع بشباب مختلف المكونات المجتمعية السورية، وفي معظم المناطق السورية إلى الخروج احتجاجاً على الاستبداد والفساد، ورغبة في الحرية والعدالة الاجتماعية؛ لن تستطيع بعد كل ما فعلته بهم، وما أقدمت عليه من فتح البلاد أمام الجيوش والميليشيات أن تجمع بينهم، وتعيد وحدة لحمتهم، وتعمل معهم على تجاوز الآثار السلبية لما كان. فمن يوجهه الحقد، وتهيمن على عقله نزعات الثأر والانتقام، لن يتمكن أبداً من القيام بمهام المصالحة الوطنية المطلوبة.
واليوم، وفي ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية التي يعيشها السوريون بفعل تراكمات ما يزيد على 11 عاماً من الحرب المتعددة الأشكال التي شنتها ضدهم سلطة بشار الأسد، بدعم روسي إيراني، نلاحظ أن التبرم من هذه السلطة لا يقتصر على المناطق الخارجة عن دائرة هيمنتها، بل تشمل المناطق الخاضعة لها أيضاً؛ وهذا ما يؤكد أن السوريين يتشاركون في المعاناة المصيرية؛ وأنه لا حل أمامهم سوى العمل المشترك بعيداً عن المشاريع العابرة للحدود التي تستغل المذهب، أو القومية أو الحاجة في سبيل عمليات التجييش وتمزيق صفوف السوريين. فأصحاب هذه المشاريع يستغلون موارد السوريين، ويزجون بأبنائهم كمقاتلين في ميليشيات محلية متصارعة حسب توزيع الأدوار في الداخل، أو كمرتزقة في عمليات خارجية.
لن تتمكن الصفقة الروسية التركية من انتشال السوريين من الأزمات البنيوية الاقتصادية والمجتمعية والتعليمية والصحية وغيرها الكثير من تلك التي تسببت فيها سلطة بشار الأسد، بل ستؤدي إلى تكريسها بصورة أعمق وأشمل.
ولن يتمكن السوريون من مواجهة تحديات المستقبل التي لا تبشر بأي حال من الأحوال بأي خير، ما لم يتجاوزوا الأحكام المسبقة بحق بعضهم، والحساسيات غير المسوغة الناجمة عن عدم القدرة على احترام الآخر المختلف. فما سيجمع بين السوريين، ويمنحهم القوة والثقة بالنفس هو التوافق على برنامج وطني عام، على قاعدة احترام الخصوصيات والاعتراف بالحقوق في إطار وحدة الشعب والوطن.
هل يستطيع السوريون أن يعيشوا مع بعضهم رغم توزعهم بين المناطق الخاضعة لهيمنة السلطة الأسدية وتلك الخارجة عن نطاق سيطرتها؟
هذا هو السؤال المحوري الذي لا بد أن نبني على جوابه.
وما نعتقده في هذا المجال هو أن امكانية العيش المشترك ما زالت واردة، خاصة بعد الإخفاق المريع للايديولوجيات العابرة للحدود.
وحده المشروع الوطني السوري الذي يكون بكل السوريين ولكل السوريين، ويطمئن سائر السوريين من دون أي تمييز، هو الحل.
ومثل هذا المشروع لن يجد النور ما لم يصرّ العربي والكردي والتركماني والسرياني والجاجاني والشركسي والأرمني والآشوري، والمسلم والمسيحي، والسني والعلوي والدرزي والشيعي والإسماعيلي والإيزيدي على إعطاء الأولوية لولائهم السوري قبل أي ولاء آخر، فالأرض السورية المقدسة هي أمّ سائر أبنائها وبناتها.
عبدالباسط سيدا
القدس العربي