المأزق الأمريكي في شمال سوريا يتأتى من أنه يعمل في منطقة باتت «مقتولة استراتيجيا»، فواشنطن تدعم قوى محلية كردية، تحظى بعداء معظم الأطراف المحيطة بها، ومن بينها تركيا حليفة واشنطن، التي ذهبت مؤخرا مع موسكو وانضمت لخندقها في سوريا، وهو تطور جديد يظهر مدى إشكالية الوجود الأمريكي في سوريا.
قيادة «قسد» وبقدر استنادها للحماية الأمريكية، إلا أنها تدرك أن هذه الحماية لن تدوم ولن تجدي طويلا في هذه المنطقة «المقتولة استراتيجيا» لصالح حلفاء النظام السوري
تقف القوى الكردية شمال وشرق الفرات على أرض زلقة محاطة من كل جانب بخصوم لا قدرة لها على مواجهتهم، من دون دعم أمريكي، وهو دعم لن يستمر للأبد، فجنوبا على الضفة المقابلة للفرات يتربص النظام السوري مدعوما بحلف مركب من طهران لبيروت مدعوم هو الآخر من موسكو، وشمالا تتربص تركيا بالمشروع الكردي على حدودها، وهي في الحقيقة تتربص بأي قوة كردية ترفع رأسها لحزازات قومية ملازمة منذ نشوء الدولة التركية، لذلك تجري» قسد» مباحثات مع دمشق منذ سنوات لتخفيض مكتسبات مشروعها القومي للكرد، مقابل مكتسبات ذاتية محدودة للأكراد ضمن «الدولة السورية»، لأنه من الواضح أن محصلة الضغط الذي تبديه هذه الأطراف شمالا وجنوبا على مشروع الأكراد تتعدى الاهتمام الأمريكي بالشمال السوري، وبسوريا كلها، كدولة على هامش الأمن القومي الأمريكي، أو دعنا نقول في الدائرة الثالثة أو الرابعة من الاهتمام، بينما الأمر يختلف بالنسبة لتركيا ودمشق وطهران، وحتى حكومة بغداد التي تحيط بـ»قسد» شرقا أيضا، فبالنسبة لهذه الدول المسألة الكردية هي شأن داخلي في صميم أولوياتها، فبالنسبة لدمشق هو مشروع انفصالي ذو أبعاد إثنية طالما قمعته حكومة الأسد، وبالنسبة للعراق الأمر نفسه، وبالنسبة لإيران أيضا الحالة الكردية في نظر طهران عنصر زعزعة داخلي، وطبعا تركيا تخوض حربا منذ عقود ضد تنظيم «بي كي كي»، فلا يمكن تجاهل محصلة هذه القوى التي تجمع على تحجيم الحالة الكردية ووأد اي مشروع انفصالي لها بمجرد التحالف مع دولة أمريكية، وإن كانت عظمى، لكن حلفاءها المحليين محاصرين بهذا الواقع «المقتول استراتيجيا» ، ونتذكر أنها خرجت من العراق بتسوية مع ألد اعدائها حلفاء طهران، بعد أن واجهت الواقع المأزوم، وبات من المتعذر عليها حتى حماية حلفائها من الاعتقال، أو الطرد على يد المالكي وحلفاء طهران، عدا عن دعمهم للوصول للحكم! ومنذ إعلان الرئيس الأمريكي ترامب نيته الانسحاب من سوريا، وقضية الوجود العسكري لواشنطن في شمال البلاد، يثير نقاشات عديدة حول الجدوى الاستراتيجية، ومدى واقعية الأهداف، وهذا النقاش ليس بين المراقبين فقط، بل بين مؤسسات الإدارة الأمريكية نفسها ومسؤوليها، مثل الدبلوماسي الأمريكي السابق مارتن أنديك، وهو مبعوث أمريكي سابق للشرق الأوسط، ونائب رئيس مركز بروكينغ، عندما كتب مقالا مهما قبل عامين، عن أن الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط لم يعد ذا قيمة، ولا يستحق ثمنه، وأرفقه برسم لنسر أمريكي يحلق مبتعدا عن حروب المنطقة. ومؤخرا نشر موقع «ناشيونال إنترست» مقالا للكاتب جيف لامير، اعتبر فيه أن الوجود العسكري الأمريكي استنفد أهدافه شمال سوريا، وأن قتل الزعيم الثالث لتنظيم الدولة الإسلامية في الأسابيع الماضية، إنجاز يجب أن تكتفي فيه الإدارة الأمريكية وتنسحب. ويرى لامير أن سوريا ليست مصلحة مركزية لواشنطن ويصفها بدولة تقع على هامش المنطقة، ولم تعد ذات أهمية للولايات المتحدة في استراتيجيتها الدفاعية، وفي المقابل هي ذات أهمية كبرى لإيران، لأنها جزء من الدعائم المرتبطة بالمؤسسة الإيرانية الحاكمة، ويرى الكاتب أن إيران مستعدة للمخاطرة بكل شيء لكي تحافظ على وجودها الاستراتيجي في سوريا، وهذا قد يؤدي لاحتمال تعرض القوات الأمريكية لهجمات للضغط عليها لسحب قواتها حسب الكاتب.
عموما، اعتقد أن قيادة «قسد» وبقدر استنادها للحماية الأمريكية، إلا أنها تدرك أن هذه الحماية لن تدوم ولن تجدي طويلا في هذه المنطقة «المقتولة استراتيجيا» لصالح حلفاء النظام السوري، الذي جذب إليه أشد خصوم الأكراد، وخصمه السابق للمفارقة، تركيا، لذلك يجري قادة الأكراد محادثات ومفاوضات جدية مع حكومة دمشق لتسوية الأوضاع والحصول على ما تيسر من حقوق ذاتية، مقابل عودة قوات النظام السوري في دمشق للسيطرة خصوصا على المراكز الحدودية شمالا، وهذه المرة وللمفارقة بدعم من عدوه السابق، حليفه الجديد الذي جمعه معه عداء المشروع الكردي؛ تركيا.
القدس العربي