العالم ينتقل من الانبهار بالعولمة إلى الشكوى منها. والبديل الذي يراه الخبراء الاقتصاديون هو “الأقلمة”، هذا ما تدعو إليه شانون أونيل من جامعة ييل في كتاب “أسطورة العولمة: لماذا المناطق مهمة؟”. وما تركز عليه المحررة في “فايننشال تايمز” رانا قورهار في كتاب “الطريق إلى الازدهار في ما بعد عالم كوني”. أما المستشار الألماني أولاف شولتز فإنه يرى في مقال نشرته “فورين أفيرز”، “نهاية فصل استثنائي من العولمة في تحول تاريخي متسارع”. وأما ما حاول بعض المتنورين من قادة الدول التوصل إليه وفشلوا، فإنه البحث عن “وجه إنساني” للعولمة، لكن الخروج الكامل من العولمة صعب وغير ممكن عملياً، لأن هناك قضايا تحتاج إلى سياسات واتفاقات كونية مثل مكافحة الاحتباس الحراري. والاعتماد الكامل على التجارة بين المناطق والأقاليم يقود إلى سياسات حمائية تخلق أزمات مختلفة.
على مدى سنوات كان الاعتراض على العولمة يأتي من قوى اليسار التي ترد على “المنتدى الاقتصادي العالمي” في دافوس السويسرية بعقد “المنتدى الاجتماعي العالمي” في البرازيل. ومنطقها هو أن العولمة تضع العالم تحت رحمة الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات، وتدفع الاقتصادات في دول “الجنوب” إلى الإفلاس، والطبقة العاملة في بلدان “الشمال” إلى مزيد من الفقر والبطالة. وفي المقابل كان اليمين يرى في العولمة نقلة “ثورية” في حياة الناس والدول. توماس فريدمان صور العالم بأنه “مسطح”. واعتبر في كتاب “ليكسوس وشجرة الزيتون” أن المستقبل لعالم التكنولوجيا المتطورة، لا لعالم الجذور الثابتة مثل شجرة الزيتون. لا، بل إن “الفانتازيا” أوصلته إلى حد القول إن “البلد الذي يفتح مطاعم (ماكدونالد) يتوقف عن خوض الحروب”، لكن مطاعم “ماكدونالد” اضطرت إلى مغادرة روسيا التي غزت أوكرانيا. وعلى العكس، فإن البروفيسور إدوارد ويلسون في جامعة هارفرد والملقب بـ”أبي السوسيوبيوجي” سئل إن كانت الكائنات البشرية قادرة على حل الأزمات التي تواجهها، فأجاب، “نعم، إذا كنا نزهاء وأذكياء، لكن المشكلة الحقيقية للإنسانية أن لدينا انفعالات العصر الحجري ومؤسسات القرون الوسطى وتكنولوجيا شبه إلهية”.
لا فقط في البلدان الفقيرة، بل أيضاً في البلدان الغنية. فالشركات الكبيرة التي تحقق أرباحاً فلكية وتنقل معاملها إلى حيث الأيدي العاملة الرخيصة ضربت الطبقة الوسطى في أميركا ووضعت الطبقة العاملة البيضاء في فقر وبطالة. وهذه ظاهرة قادت ترمب إلى البيت الأبيض. والفارق بين دخل الموظف الذي لا يحمل شهادة جامعية والموظف الجامعي المتمتع بمؤهلات عالية يصل إلى عشرات الأضعاف. والصين التي أفادت من العولمة عادت اليوم إلى انتقادها. وفي رأي فوروهار، فإن “أولويات الاقتصاد الأميركي يجب أن تكون محلية لا كونية، الشارع الرئيس لا وول ستريت”. وتعتقد أونيل أن “العالم لم يكن ولا مرة سوقاً مندمجة”. ففي جائحة كورونا ظهرت عيوب العولمة والعصبيات القومية، حيث استأثرت الدول الغنية بالقسم الأكبر من اللقاحات، كما حدث اختلال في سلاسل الإمداد.
وليس أمراً عادياً أن تدعو وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين إلى “تركيز التجارة والاستثمارات الأميركية على البلدان التي تشاركنا قيمنا”. فهذا توجه خطر، فضلاً عن أن إغلاق حدود البلدان الغنية للتركيز على التجارة والاستثمارات المحلية والإقليمية سيؤدي إلى نوع من “عولمة اللجوء”. كيف؟ يتدفق اللاجئون من البلدان الفقيرة التي جرى ضرب اقتصادها إلى البلدان الغنية. و”نحن في حاجة إلى لاجئين كما هم في حاجة إلينا”، يقول أولاف شولتز. وأميركا تعلن أنها مستعدة لقبول طلبات 30 ألف لاجئ في الشهر، ورد 30 أيضاً يأتون بصورة غير شرعية. ومن حيث تصور كثيرون أن العولمة التي تفتح الحدود تشجع على الديمقراطية، تقول فوروهار إن “العولمة هي جوهرياً ضد الديمقراطية”. ولا مهرب من شيء من العولمة وكثير من الأقلمة.
اندبندت عربي