تطور مالي لافت شهده العراق في نهاية عام 2022 بقرار البنك الفيدرالي الأمريكي، وقف التحويلات المالية المشبوهة والوهمية من العراق إلى الخارج، والذي تسبب في رفع سعر صرف الدولار وارتفاع أسعار السلع، كما حرمت العديد من البلدان المحيطة بالبلد من مليارات الدولارات العراقية.
وفي مفارقة غريبة خيمت أزمة مالية حادة على العراق هذه الأيام، جراء تبعات انخفاض سعر صرف الدولار مقابل الدينار، لتصل مستويات قياسية غير مسبوقة، بالرغم من الفائض المالي الكبير المتوفر لديه جراء ارتفاع أسعار النفط العراقي المصدر وعدم وجود ميزانية لعام 2022.
وقد جاء ارتفاع سعر صرف الدولار من 1450 دينارا لكل دولار ليصل إلى نحو 1600 في السوق الموازي، لقلة المعروض من العملة الصعبة، وليتبعه ارتفاع كبير في أسعار كافة السلع والخدمات في الأسواق العراقية، ما شكل ضغطا جديدا إضافيا على القدرة الشرائية للمواطنين وجمود حركة السوق، وسط عجز الحكومة عن التعامل مع الموقف وتعرضها للحرج، لكونها وعدت بتخفيض سعر صرف الدولار ضمن برنامج حكومة محمد السوداني التي مضى على عمرها نحو شهرين.
أسباب الأزمة
ولا شك ان السبب المباشر للأزمة المالية الجديدة يعود إلى قيام البنك الفيدرالي الأمريكي بمنع التحويلات المالية الوهمية والمشبوهة من العراق إلى الخارج، وخاصة إلى إيران وحلفائها في سوريا ولبنان واليمن، حيث تعد هذه التحويلات المالية العراقية، شريان دعم لاقتصاد تلك البلدان التي ترزح تحت ضغوط عقوبات دولية وحصار مالي خانق.
وكان البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي قد فرض تعديلات على إجراءات الحوالات العراقية التي تمر بنظام «سويفت» لتضم تدقيقا في مصدر الأموال وحتى المستقبِل النهائي، في إجراء يعكس دوافع سياسية، وذلك بعد تحذيرات أمريكية متكررة للعراق بعدم خرق العقوبات على إيران. وفي المقابل قامت جهات متعددة بشراء الدولار من السوق للتعويض عن وقف تعاملاتها مع البنك المركزي العراقي وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع.
حراك نيابي
وأزاء التذمر الشعبي الواسع وجمود النشاطات في الأسواق جراء الارتفاع الكبير في الأسعار، تحرك العديد من النواب لعقد جلسة لمجلس النواب ومعالجة المشكلة. وكان في مقدمة المبادرين، ممثلو حراك تشرين الإصلاحي.
فقد بادرت «حركة حقوق» بجمع تواقيع نيابية لعقد جلسة للبرلمان، لبحث التداعيات الخطيرة لارتفاع سعر صرف الدولار ومعرفة إجراءات الحكومة ازاءها. فيما انتقد رئيس المكتب السياسي لـ«حركة امتداد» رائد الصالح، ما وصفه «الصمت المطبق» من قبل الحكومة بشأن سعر صرف الدولار، مشيرا إلى «مساع لاستجواب رئيس الوزراء محمد السوداني على الفشل في ضبط سعر صرف الدولار وقضايا أخرى».
ودعا نائب رئيس مجلس النواب، شاخوان عبدالله، في بيان الحكومة ووزارة المالية والبنك المركزي إلى «إعادة النظر في السياسة المالية، واتخاذ إجراءات وزيادة فتح منافذ بيع العملة الأجنبية في المصارف وبالسعر الحكومي، من أجل منع ارتفاع سعر صرف الدولار». ودعا إلى «عدم تمكين الذين يتحكمون في الأسواق السوداء للاستفادة من اضطرابات سعر الصرف، وتطويق الممارسات النقدية الخاطئة التي تضر بالاقتصاد والحركة التجارية في عموم البلاد».
إلا ان السياسي والنائب السابق مشعان الجبوري، كان أكثر صراحة عندما أوضح «ان الخزانة الأمريكية كشفت عمليات تهريب العملة إلى خارج البلاد وطالبت الحكومة العراقية بأن تكون عمليات البيع فقط للاعتمادات الحقيقية وعبر وثائق».
وقال الجبوري خلال لقاء متلفز، إن «وزارة الخزانة الأمريكية تابعت موضوع تهريب العملة إلى الخارج وقامت بتنشيط مكتبها في بغداد، وعلمت بأن الدولار يهرب إلى إيران رغم العقوبات التي تفرضها عليها، ولكي تسيطر على هذه الحالة طالبت الحكومة العراقية بأن تكون عمليات البيع فقط للاعتمادات الحقيقية وعبر وثائق».
ولفت إلى ان «الفيدرالي الأمريكي وضع الكثير من البنوك والشركات العراقية التي وجد لديها تعامل بهذا الجانب في القائمة السوداء ومنعها من شراء العملة». لافتا إلى ان «الكثير من الأموال التي يقوم ببيعها البنك المركزي تذهب إلى إيران عبر شركات وهمية وبنوك، ومن ثم تأتي وثائق مزورة مقابل هذه الأموال المهربة».
الإجراءات الحكومية
وفي إطار التحرك الحكومي لمواجهة الأزمة دعا رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، إلى «تفعيل خطوات بيع العملة الأجنبية بالأسعار الرسمية للمواطنين» مؤكدا على ضرورة اتخاذ الإجراءات اللأزمة لمنع المضاربات غير القانونية، وكل ما يضر بالسوق المحلية ويؤدي إلى ارتفاع الأسعار.
وحث في بيان على أهمية «تفعيل خطوات بيع العملة الأجنبية بالأسعار الرسمية للمواطنين عبر الشراء بالبطاقات الإلكترونية، وفتح منافذ البيع للمسافرين، أو المتعالجين خارج العراق، أو تمويل التجارة الخارجية، على وفق السياقات الأصولية والمعايير الدولية لفتح الاعتمادات المستندية والحوالات».
كما أقر السوداني أن «تقلبات سعر الصرف وأثرها في الاقتصاد العراقي، جعلتنا نتمسك بحتمية الإصلاح الاقتصادي، ودعم الزراعة والصناعة والسياحة والتجارة، بدلاً من أن يكون العراق سوقاً للسلع المستوردة وممرا لتهريب العملة الصعبة وغسيل الأموال».
أما إجراءات البنك المركزي العراقي فقد اعتبرها المراقبون دون مستوى الأزمة، حيث قرر البنك المركزي عدم استيفاء الرسوم الكمركية ومبالغ الضرائب مسبقا على الاستيراد، وقام ببيع الدولار للمرضى المسافرين للعلاج والطلبة في الخارج، كما ضخ الدولار إلى بعض المصارف لبيعها إلى المواطنين.
المستشار الاقتصادي لرئيس مجلس الوزراء، مظهر محمد صالح، عد إن ما يحصل من ارتفاع في سعر الصرف لمصلحة الدولار ليس ناجماً عن مشكلة في كفاية الاحتياطيات الأجنبية، مشيرا إلى أن «احتياطي العراق من العملة الأجنبية تجاوز الـ 100 مليار دولار ونسبة فائض الحساب الجاري بلغت نحو 15 في المئة».
وأضاف، أن «ما حصل من ارتفاعات هي ظاهرة وقتية أملتها ظروف تنظيمية في إجراءات تسيير طلبات التحويل الخارجي (التي تتقدم بها المصارف المحلية) على العملة الأجنبية» مبينا انه «تم العمل قبل مدة بمنصة إلكترونية متقدمة تربط طلب التحويلات من جانب المصارف المحلية مع المراسلين من المصارف الدولية وهيئات الامتثال العالمية ذات العلاقة في آن واحد».
وأقر المستشار الاقتصادي: «أثناء البدء بالتجريب قبل أسابيع قليلة اتضح ان ثمة قصورا ونواقص معلوماتية لا تتفق وحوكمة تدفق التحويلات عبر النظام المصرفي العالمي الأمر الذي أعاد بعضها من جديد أو رفضت لاستكمال متطلبات التقديم القياسية واتباع الأسس المعيارية في الإفصاح عن جهة المستفيد النهائي وغيرها من شروط الإفصاح والامتثال المصرفي».
هجوم على أمريكا
وفي محاولة للتغطية على الأسباب الحقيقية للأزمة، شنت الأحزاب والفصائل الشيعية هجوما عنيفا على الولايات المتحدة محملة اياها مسؤولية رفع سعر الدولار ومتهمة اياها بالتدخل في الشأن العراقي.
وقال القيادي في دولة القانون، حيدر اللامي في تصريح، إن «أمريكا عاقبت المصارف العراقية الأهلية الأربعة وحذرت 30 مصرفاً آخر بناء على شبهة تشير إلى أن هذه المصارف تقوم بتهريب الأموال خارج البلد وعمليات غسيل أموال». مدعيا أن «واشنطن ليس لديها أي دليل حول هذه المصارف.
فيما اتهم القيادي عن ائتلاف دولة القانون إبراهيم السكيني، أمريكا بخلق التوترات لحكومة السوداني من خلال التدخل في سياسة البنك المركزي ورفع بعض المصارف من مزاد بيع العملة، متهما أمريكا بانها ترى نفسها وصية على الشعوب في فرض مصالحها الخاصة.
ولا شك ان الأزمة المالية الجديدة وسعت الخلافات بين حكومة السوداني التي أعلنت وضع مكافحة الفساد وتهريب العملة ضمن أولوياتها، وبين أحزاب وفصائل تمتلك مصارف ومحلات صرافة تقوم سنويا بتحويل مليارات الدولارات إلى دول حليفة لها، عبر نافذة بيع الدولار في البنك المركزي العراقي، مستغلة تعمد حكومات العراق غض النظر وتجاهل النصائح من الداخل والخارج بضرورة ضبط هذه النافذة لمنع التهريب.
ويذكر ان جميع الأموال العراقية الواردة من مبيعاته النفطية تودع في البنك الفيدرالي الأمريكي الذي يطلق بدوره التحويلات المالية لوزارة المالية العراقية، وذلك لكون العراق ما زال خاضعا للوصاية الأمريكية على الأموال العراقية. ولذا يتخوف المختصون، من احتمال إعادة العراق إلى بنود الفصل السابع، وسط تسريبات عن توجه لقيام مستشارين أمريكيين بالإشراف ومراقبة أداء البنك المركزي لمنع التهريب الواسع للعملة.
والحقيقة ان التحرك الأمريكي الأخير كان متوقعا، إذ لم يكن سرا بالنسبة للولايات المتحدة قيام القوى السياسية العراقية الحاكمة بتقديم أموال طائلة إلى إيران وحلفائها لمساعدتها في مواجهة العقوبات الأمريكية. وان تلك القوى مستعدة لخدمة حلفائها ولو على حساب تعرض الاقتصاد والشعب العراقي للمخاطر والأزمات والمعاناة. فيما يتفق المراقبون على ان القرار الأمريكي شكل صفعة مؤثرة جدا لإيران بقطع أهم مورد مالي لها ولحلفائها في هذه الظروف البالغة الصعوبة بالنسبة لها.
القدس العربي