ظلت إدارة بايدن، طوال القسم الأعظم من الأشهر الماضية، تعاني لأجل إيجاد السبل الآيلة إلى تخفيف أسعار النفط، في خضم صدمة الحرب الروسية في أوكرانيا. وحين قررت “أوبك بلس”، وهي مجموعة من الدول المصدرة للنفط، خفض إنتاج النفط مقدار مليوني برميل يومياً في أوائل أكتوبر (تشرين الأول)، كان رد فعل واشنطن قاسياً. فأكدت سكرتيرة البيت الأبيض الصحافية كارين جان بيار، “إن أوبك بلس تنحاز بوضوح إلى روسيا”.
وتتماشى النظرة الثنائية للإدارة الأميركية مع منظورها الأوسع نطاقاً في ما يتصل بالشركاء. فمنذ وصول إدارة بايدن إلى السلطة، كثيراً ما تتخذ الإدارة نظرة ثنائية إلى النظام العالمي – “منافسة بين الأنظمة الديمقراطية والأنظمة الاستبدادية”، وفق استراتيجية الأمن القومي لعام 2022 التي صاغتها الإدارة. وهي تميل إلى تصوير القرارات التي يتخذها شركاؤها باعتبارها اختباراً للولاء للولايات المتحدة.
وهذه رؤية لا يشترك فيها كثر من شركاء أميركا. وليس واضحاً لمعظمهم أن الانحياز القاطع إلى روسيا أو الصين، أو إلى الولايات المتحدة، هو ثمرة خيار. فموسكو وبكين لا حلفاء لهما، بل شركاء [زبائن في قطاع الأعمال] . وفي هذه الأثناء تمر أميركا بمرحلة تتقلب فيها أولوياتها الدولية، مما يجعل شركاءها أقل يقيناً من دوام اهتمام واشنطن غداً بما يشغلها اليوم، أو من أن دعمهم الولايات المتحدة في مسألة معينة يضمن لهم معاملة بالمثل من قبل الولايات المتحدة في مسائل أخرى. وعليه، يسعى عدد متزايد من شركاء الولايات المتحدة إلى تجنب الانحياز التام، والحفاظ على علاقات بالقوى العظمى كلها في وقت واحد. ويعني هذا أن الحاجة تدعو الولايات المتحدة إلى انتهاج استراتيجية أكثر وضوحاً. وفي مواجهة شركاء من غير المرجح أن يلبوا رغبات واشنطن كلها، يتعين عليها أن تتبنى نهجاً أكثر ذكاء، وأكثر صرامة في التعامل مع النظام الدولي، وذلك على نحو يعزز نفوذها إلى أقصى حد في عالم متعدد الأقطاب.
ما سبق كله، وليس كل شيء أو لا شيء
ويعتبر معظم البلدان المنافسة بين القوى العظمى، التحدي الأعظم الذي يواجه مصالحها، وليس تهديد قوة عظمى واحدة القوى الأخرى. فالصين شريك السعودية الاقتصادي الأول، ويستهلك نحو 20 في المئة من صادراتهم. وفي الوقت نفسه، يعتبر السعوديون الولايات المتحدة شريكهم الأمني الأول. والاضطرار إلى تقديم علاقة على الأخرى – أو إلى تقليص إحداهما تقليصاً كبيراً – مكلف. وعلى هذا فهي، شأن كثير من البلدان الأخرى، تسعى، بدلاً من ذلك، إلى الحفاظ على كلتا العلاقتين.
وفي الشرق الأوسط وحده، تعد بعض الدول شركاء حوار، حاليين أو مستقبليين مع منظمة شنغهاي للتعاون. وهي مجموعة سياسية واقتصادية وأمنية محورها الصين، وتوصف أحياناً، على قدر كبير من المبالغة، بالبديل من منظمة حلف شمال الأطلسي. ويقال إن دولتين عربيتين أعربتا عن اهتمامهما بالانضمام إلى منظمة “بريكس”، وهي مجموعة من بلدان الأسواق الناشئة، الهند والصين عضوان فيها على رغم المنافسة المتعاظمة بينهما (تجمع “بريكس” الأحرف الأولى للبرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا). كذلك أبدت تركيا، الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط المتحالفة رسمياً مع الولايات المتحدة، اهتماماً بأن تكون عضواً في المنظمتين.
ويقترح بعض الباحثين، مثل بول بوست من جامعة شيكاغو، أن توسيع عضوية “بريكس” ومنظمة شنغهاي للتعاون مقدمة لنشوء “نظام دولي بديل”. ولكن الدول التي تسعى إلى تعميق مشاركتها في منظمة شنغهاي للتعاون، وفي “بريكس”، لا تنأى بنفسها عن مجموعة الدول السبع، أو منظمة حلف شمال الأطلسي، أو الأمم المتحدة. وبدلاً من بناء نظام تنافسي، يرفض عدد متزايد من الدول النظام العالمي الثنائي – أو هو يسعى إلى الإفلات من القيود والعواقب المترتبة عليه – من خلال إبقاء قدم في المعسكر الذي تقوده الولايات المتحدة، والأخرى في المؤسسات المتعددة الأطراف التي تقودها روسيا والصين. وكثير من هذه الدول كانت غير منحازة في أثناء الحرب الباردة، وتنحاز اليوم إلى جميع الأطراف معاً بدلاً من ذلك.
ومن طريق تبني نهج كهذا، يسعى بعض الدول في تقليص أكلاف تنافس القوى العظمى إلى حدها الأقصى، وتعزيز منافع المنافسة. ومع تصاعد المنافسة بين القوى الكبرى، أصبحت الدول الصغيرة والمتوسطة الحجم عرضة، في شكل متزايد، إلى مطالب متنازعة – مثل اشتراط الصين دعم سياساتها تجاه هونغ كونغ وتايوان، أو طلب الولايات المتحدة تجنب الاستثمار في البنية التحتية وتكنولوجيا الجيل الخامس للاتصالات في الصين. ويرجح اعتبار كلا الجانبين دولة معينة شريكاً معقولاً استهداف دولة بالإقناع، وليس بالعقوبات، وتهدئة القوة العظمى المهتمة لقاء أكلاف منخفضة نسبياً وعدم استفزاز القوة الأخرى.
وتحتسب دول كثيرة منافع من هذه الاستراتيجية. فالانحياز إلى الجميع عوض عدم الانحياز يعني – نظرياً إن لم يكن فعلاً – التأثير في عملية اتخاذ القوى العظمى القرار، إلى الاستمتاع بمزايا هذا الانحياز. وتتعاظم هذه المزايا في حال خشية إحدى القوى العظمى خسارة شريك لمصلحة قوة أخرى. ويتولى الانحياز إلى الجميع مهمة التحوط من استحالة توقع سلوك القوى العظمى. وهذا التحوط أوضح ما يكون في الشرق الأوسط، إذ مستقبل المشاركة الأميركية والصينية مبهم، وحيث يجد حتى أقرب شركاء الولايات المتحدة علاقاتهم بواشنطن غير مستقرة على نحو متعاظم بسبب السياسات المحلية الأميركية.
ولا شك في أن مثل هذا التحوط تترتب عليه أكلاف. وشراء تركيا عام 2017 نظام الدفاع الجوي الروسي “إس-400″، في مخالفة لعضوية تركيا في منظمة حلف شمال الأطلسي، أدى إلى طردها من برنامج المقاتلات “إف-35”. وقد يعزز رفض هنغاريا المشاركة في العقوبات الأوروبية على روسيا عزم بروكسل على حجب أموال الاتحاد الأوروبي عن بودابست بسبب مخاوف تتعلق بسيادة القانون. وإسرائيل نفسها، وهي من أقرب حلفاء الولايات المتحدة، شاهد على حلول مشكلة علاقاتها بروسيا والصين، بوصفها موضوع الخلاف الرئيس مع واشنطن، محل الخلاف على إيران أو المسألة الفلسطينية.
وقد تستسلم الولايات المتحدة لإغراء توجيه إنذار نهائي إلى شركائها المستسلمين للتحوط – وينبه الإنذار الشركاء إلى أن المنافسة مع روسيا أو الصين تقتضي منهم اختيار أحد الطرفين. وإذا واصل الشركاء التعامل مع هؤلاء المنافسين فقد تضطر واشنطن إلى تقليص علاقاتها التفضيلية بهذه الدول. ولكن مثل هذا النهج ليس عملياً. فمن ناحية، لا يمثل كثير من أشكال التعاون بين شركاء الولايات المتحدة وبين روسيا أو الصين – الشطر الغالب من التجارة عبارة عن سلع – تهديداً كبيراً لمصالح الولايات المتحدة، ولا يستحق معارضة شديدة. وإلى هذا، وفي ما يتصل بالصين، قد يكون قطاف ثمرة الإنذار النهائي مستحيلاً. وذلك لأن اقتصاد شركاء الولايات المتحدة متشابك مع اقتصاد بكين – وهذا فارق رئيس بين المرحلة الحالية من المنافسة بين القوى العظمى وبين المرحلة السابقة. وعلاوة على ذلك، من المحتمل أن يؤدي طلب كهذا إلى طلبات من شركاء الولايات المتحدة للحصول على ضمانات اقتصادية وأمنية أكثر صرامة، قد تتردد واشنطن في تقديمها أو قد تعجز عن ذلك.
نرجسية أقل، وتعاون أكثر
وبدلاً من السعي في تقسيم العالم تقسيماً قاطعاً على غرار الحرب الباردة، يتعين على صناع السياسات الأميركيين القبول بألا يؤدي تكرار المنافسة بين القوى العظمى، على الأرجح، إلى توزيع الدول توزيعاً ثنائياً للدول في كل مسألة. وبدلاً من ذلك ينبغي على المسؤولين الأميركيين أن يسعوا في زيادة فرص الانحياز إلى الولايات المتحدة، وأن يعظموا قيمة هذه التحالفات للشركاء، حتى لو كان هؤلاء الشركاء يشاركون في الوقت نفسه، قوى عظمى أخرى مجالات مختلفة.
وبدلاً من التركيز على المنتديات الواسعة والمتعددة الموضوعات، مثل مجموعة الدول الـ20 أو قمة الديمقراطيات، على الولايات المتحدة أن تبني شراكات ضيقة بين الدول وذات أجندات أكثر تركيزاً وتعزيزاً، مثل الحوار الأمني الرباعي، والاتفاقات الإبراهيمية، وما يسمى بتجمع “آي 2 يو 2” الذي يضم الهند وإسرائيل ودولة الإمارات العربية المتحدة، والولايات المتحدة. ذلك أن تحالفات كهذه تعزز المصالح المتبادلة العالية الأولوية، بما في ذلك الاستثمار في الأمن والبنية التحتية، وتنحي جانباً المسائل الخارجية التي يرى الأعضاء أنها أكثر إثارة للجدال وقد تضعف التماسك. وفي مستطاع مثل هذه المجموعات أن توازن النفوذ الصيني من دون الاضطرار إلى استهداف بكين مباشرة، بالتالي خفض الأكلاف المحتملة التي قد يتحملها الشركاء. مثلاً، تبعث مبادرة “آي 2 يو 2” التي لا تزال فتية احتمال زيادة الاستثمارات الهندية في الشرق الأوسط، وتقدم خياراً ثالثاً إلى الدول الإقليمية التي لا ترغب في الاختيار بين الولايات المتحدة والصين. وزادت الاتفاقات الإبراهيمية بالفعل التدفقات الاستثمارية بين دول المنطقة على نحو قد يقلل من الحاجة إلى دعم خارجي من قوة عظمى.
وعلى الولايات المتحدة، من ناحية أخرى، أن ترسخ مع الحلفاء الحاليين القواعد والتنظيمات المشتركة، مثل حماية خصوصية البيانات وصادرات التكنولوجيا، وتزيد الحوافز التي تدعو الشركاء غير الحلفاء إلى الاستجابة لأولويات واشنطن. والأرجح أن ينتبه الشركاء إلى الشروط الأميركية والتخلي عن الفرص الاقتصادية التي تتيحها روسيا والصين، إذا وفرت هذه الشروط قاعدة معاملات ثابتة، ولم تكن مجرد مبادرات سياسية أميركية، وضمنت منافع ملموسة مثل تيسير الوصول إلى الأسواق الأميركية والأوروبية أو إلى تكنولوجيا هذه الأسواق.
وإلى هذا، ينبغي أن تختار الولايات المتحدة معاركها حين تتقدم إلى الشركاء بمطالبها. وكثيراً ما يفشل تخطيط السياسات بواشنطن في احتساب فهم الشركاء مصالحهم الخاصة. ويفترض صناع السياسات الأميركيون، في الأغلب، أن الشركاء يرون المسائل مثلما تراها الولايات المتحدة، أو أنهم يفهمون تلقائياً مترتبات التضامن مع المصالح الأميركية – وهذه مغالطة مؤسفة يسميها مستشار الأمن القومي السابق إتش آر ماكماستر وغيره “نرجسية استراتيجية”.
وقد يؤدي تنصيب النفس في مركز الأمور إلى نوعين من الإخفاقات السياسية. أولاً، لم تقدر الولايات المتحدة التقدير الوافي التزام شركائها نهجاً من دون آخر. فمثلاً لم تدرك واشنطن أن الرياض قاومت، تاريخياً، طلبات أميركية تستتبع تأثيراً في القرارات النفطية، فكان أن تفاجأت إدارة بايدن بقرار “أوبك بلس” في أكتوبر (تشرين الأول) 2022. وأما النوع الثاني من الأخطاء الناتجة من النرجسية الاستراتيجية، فهو المغالاة في تقدير التزام الولايات المتحدة أولوية معينة على صعيد السياسات، وقد تبين أن واشنطن قد لا تبادر، حين يرفض شريك طلباً، إلى معاقبته. ففي عام 2015، طلبت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما من شركائها جميعاً، في مختلف أنحاء العالم، عدم التعامل مع البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية الذي تقوده الصين، فكان أن رفض أقرب حلفائها، بمن فيهم المملكة المتحدة وأستراليا الطلب. وفي نهاية المطاف لم تفعل إدارة أوباما غير أقل القليل رداً على الرفض. فعلى صناع السياسات الأميركية مناشدة الشركاء في حال توقع احتمال واقعي بأن ينضم هؤلاء إليها، واستعداد واشنطن لفرض أثمان عليهم إذا لم يفعلوا. ويسهم الطلب الذي لا يحترم هذين الشرطين في الشعور بأن نفوذ الولايات المتحدة يتضاءل.
سياسة الولايات المتحدة
وعلى الولايات المتحدة، أخيراً، أن تسعى في عقد شراكات مستقرة ومستدامة وإن مع شركاء يصعب التعامل معهم وغير ديمقراطيين. وإذذاك، ينبغي لها أن تولي الأولوية لمخاوف أساسية، مثل مواجهة النفوذ الروسي والصيني، وأن ترضى ببطء التقدم في مسائل أخرى، وفي سياق علاقة عمل بناءة. هذا وقد اتهم مسؤولون أميركيون، بمن فيهم كولين كال، نائب وزير الدفاع لشؤون السياسات، الصين أخيراً بالسعي في “نسج علاقات تستند إلى مصالحها الضيقة والتفاعلية والتجارية والجيوسياسية وحدها”. والحق أنه في الشرق الأوسط، وفي مناطق أخرى، يغلب على معظم شركاء الولايات المتحدة، رأي خلاصته أن واشنطن كذلك لا تولي اهتمامها إلا إلى مصلحتها الذاتية المتبادلة، لا سيما حين يتحول اهتمامها وتتحول مواردها إلى آسيا.
ويتوقع، في علاقة متبادلة، أن تتزامن المنافع والأكلاف. وفي علاقة تحالف، من ناحية أخرى، قد يطلب من دولة حليفة، في شكل عقلاني، أن تتحمل اليوم بعض الأكلاف في مقابل منافع في المستقبل. وإذا رغبت الولايات المتحدة في رعاية علاقات بعيدة الأجل كهذه، فعليها البرهان على حقيقة المزايا الموعودة ورجحان حظوظها. وتسود عواصم الشرق الأوسط ثقة ضعيفة في احتمال أن تؤدي الاستجابة للطلبات الأميركية إلى تجنب أزمة في العلاقات الثنائية حين يطرأ خلاف تال، أو في احتمال سماع رأيها في واشنطن. وهذه معضلة تتحدى الولايات المتحدة في مناطق تحظى باهتمام أميركي متضائل، شأن الشرق الأوسط. وعندما تنقل الولايات المتحدة أولوياتها بعيداً من منطقة ما، يقلل صناع السياسات في الولايات المتحدة اهتمامهم بها، ويصرفونه إلى الشراكات الرئيسة. وهذا بالضبط الوقت الذي تتعاظم فيه أهمية مثل هذه العلاقات – أي عندما على الولايات المتحدة حماية مصالح تقتضي حمايتها أساليب ملتوية.
وعلى رغم رؤية إدارة بايدن إلى عالم منقسم انقساماً دقيقاً وحاداً، فمن الجلي، على نحو مضطرد، أن المرحلة الأخيرة من تنافس القوى العظمى ليست سمتها انقساماً قاطعاً يقوم على كل شيء أو على لا شيء. فالدول الصغيرة والمتوسطة الحجم تتحاشى الانحياز إلى قوة واحدة على قدر تحاشيها عدم الانحياز. وهي تختار بديلاً من ذلك الانحياز إلى الجميع: المشاركة في المؤسسات المتعددة الأطراف التي تقودها الولايات المتحدة وفي تلك التي يقودها منافسوها. ويجدر بالولايات المتحدة، عوض فرض قسمتها المفضلة والبسيطة على الواقع العالمي المعقد، أن تتكيف، وتوفر فرصاً أكثر عدداً وتخصيصاً أمام التعاون الثري مع واشنطن. ولا يجوز أن يسأل الشركاء عما إذا هم مع الولايات المتحدة أو ضدها، بل ينبغي سؤالهم عن الطرف الذي سيكونون في صفه – والطرف الذي سيكون في صفهم – حين تطرح مسألة على جانب أكبر من الخطورة.
اندبندت عربي