لا يمكن لأي متتبع لطبيعة العلاقات العراقية الأمريكية سوى أن يدرك، في النهاية، أنه أمام أحجية حقيقية، وكأي أحجية يكون اللعب باللغة، في كثير من الأحيان، أداة أساسية لضمان مزيدٍ من الغموض واللبس!
لم تبدأ هذه العلاقة الملتبسة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، بل كانت سابقة لذلك؛ ففي سنوات ما قبل الاحتلال، تحديدا بعد إصدار الرئيس بيل كلينتون قانون تحرير العراق عام 1998، كان المجلس الأعلى للثورة الإسلامية واحدا من ست مجموعات معارضة عراقية تلقت أموالا أمريكية مباشرة في سياق قانون تحرير العراق، بموجب الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس بيل كلينتون عام 1999، الذي كان مدركا تماما، أن هذا التنظيم قد تشكل بأمرٍ من آية الله الخميني الذي كان يصف أمريكا بـ«الشيطان الأكبر»، وكان شعار ثورته عام 1979 «الموت لأمريكا»، وكانوا يعلمون يقينا أن هذا التنظيم يتبنى «ولاية الفقيه»، التي تعني إمامة الخميني، وبالتالي وجوب طاعته عقائديا، وانه يمتلك جناحا عسكريا هو «فيلق بدر» ويعمل ضمن منظومة الحرس الثوري الإيراني!
وفي عام 2002، استقبلت واشنطن عبد العزيز الحكيم ممثلا عن المجلس الأعلى، بعد أن كان الرئيس جورج بوش قد أطلق تعبير «محور الشر» على إيران والعراق وكوريا الشمالية في السنة نفسها!
أما سنيا، فقد لعب الحزب الإسلامي اللعبة نفسها؛ فقد حضر ثلاثة من أعضاء الحزب إلى الفندق الذي شهد أعمال مؤتمر لندن للمعارضة العراقية والذي انعقد في كانون الأول/ ديسمبر 2022 للتمهيد للاحتلال، لكنهم لم يدخلوا إلى قاعة المؤتمر! وعندما وضعت أسماؤهم ضمن أسماء «لجنة المتابعة والتنسيق» التي أقرها المؤتمر لم يعترضوا، لكن الحزب أصدر بيانا يعترض فيه على المؤتمر! وبعد الاحتلال كان خطاب الحزب الرسمي ضد الاحتلال، لكنّ ممثل الحزب صوّت في مجلس الحكم على جعل يوم 9 نيسان/ أبريل 2003، وهو يوم احتلال بغداد، عيدا وطنيا للعراق!
أما حزب الدعوة الإسلامية فقد رفض في البداية المشاركة في مؤتمر لندن، بسبب من موقف مرجع الحزب الشيخ محمد حسن فضل الله الذي كان قد أصدر قبل الاحتلال فتوى تقول «من غير الجائز على الإطلاق دعم الاحتلال الأمريكي»، وقد أكد ذلك في لقاء متلفز بعد أسبوعين فقط من الاحتلال بالنص: « لم يصدر مني تعليمات أو فتوى للأخوة في حزب الدعوة في هذا المجال، ولكنهم وحسب ما أعرف استراتيجيتهم، يرفضون أن يكون هناك أية حكومة عراقية تتحرك من خلال المحتل، سواء كان ذلك بشكل بارز أو بشكلٍ مموّه بأكثر من غطاء وغطاء.. ولهذا فالقضية تُمثّلُ في الحسابات الإسلامية الاستراتيجية مسألةً أساسية».
تزداد الأحجية التي حكمت علاقة المجلس الأعلى/ فيلق بدر بـ «الشيطان الأكبر» غرابةً، من خلال طبيعة العلاقة بين وكلاء إيران من الميليشيات المسلحة مع أمريكا (العدو) بعد عام 2014؛ فقد قام الأمريكيون أنفسهم بتسليح هذه الميليشيات بالأسلحة الأمريكية، وتوفير الدعم الجوي الحاسم، والتغاضي عن الجرائم ضد الإنسانية
لكن الحسابات السياسية دفعت الحزب إلى تغيير «مرجع تقليدهم» بقرار من مجلس شورى الحزب، من الشيخ فضل الله إلى آية الله السيستاني، لإتاحة المجال للحزب للمشاركة في حكومة «تتحرك من خلال المحتل»، وهو ما سمح لهم بأن يكونوا حاضرين في مجلس الحكم، واتضح، في النهاية، أن هذه القضية لا تمثل في الحسابات الإسلامية الاستراتيجية مسألة أساسية! هذا الخطاب المزدوج الذي استخدمته، وتستخدمه، القوى السياسية الشيعية والسنية تكرر أيضا بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي عام 2004، الذي أنهى الاحتلال من الناحية القانونية، وتحولت بموجبه هذه القوات إلى «قوة متعددة الجنسية» باقية في العراق بطلب من الحكومة العراقية نفسها! فقد استخدمت هذه القِوى خطابا دعائيا ضد الاحتلال الأمريكي، لكنها كانت مشاركة فاعلة في حكومات ترسل خطابا رسميا في كل سنة إلى مجلس الامن الدولي تطالبه فيه ببقاء «القوة متعددة الجنسية» في العراق!
حكمت هذه الانتهازية العلاقة بين القوى السياسية العراقية، بالولايات المتحدة الأمريكية قبل وبعد الاحتلال، فيما عدا القوى الكردية، وظلت حاكمة في مرحلة العودة الثانية للولايات المتحدة إلى العراق بعد عام 2014. فبعد سيطرة تنظيم الدولة على ما يقرب من ثلث مساحة العراق، توسل الجميع بالأمريكيين من أجل هذه العودة! والمفارقة أنه على مدى سنوات 2014 ـ 2019 كانت الولايات المتحدة تقوم بمهام قتالية في العراق تحت عنوان «التحالف الدولي ضد الإرهاب» دون أن يكون لعمل هذه القوات أي إطار قانوني يحكمه، ولم يعترض أحد، تحديدا وكلاء إيران في العراق!
وتزداد الأحجية التي حكمت علاقة المجلس الأعلى/ فيلق بدر بـ «الشيطان الأكبر» غرابةً، من خلال طبيعة العلاقة بين وكلاء إيران من الميليشيات المسلحة مع أمريكا (العدو) بعد عام 2014؛ فقد قام الأمريكيون أنفسهم بتسليح هذه الميليشيات بالأسلحة الأمريكية، وتوفير الدعم الجوي الحاسم، والتغاضي عن الجرائم ضد الإنسانية!
تغير الأمر بعد عام 2019، حين بدأنا نسمع مرة أخرى مفردة «الاحتلال»! ففي سياق التنابز بين رئيسي مجلس الوزراء الأسبقين نوري المالكي وحيدر العبادي حمّل الأول الثاني مسؤولية استقدام هذه القوات، ومنحِها قواعد ثابتة على الأراضي العراقية دون الرجوع إلى السلطات العراقية! ورد الثاني بأن تلك القوات كانت موجودة قبل رئاسته مجلس الوزراء بشهرين!
كما شهدنا، في العام نفسه، أول رسالة سياسية، عبر الكاتيوشا، ترسلها الميليشيات الموالية لإيران، إلى السفارة الأمريكية في بغداد، كما شهدنا عقوبات أمريكية ضد عصائب أهل الحق والنجباء، ثم ضد كتائب حزب الله في العام التالي. ولا يمكن فهم هذا «التحول» إلا في سياق تحولات العلاقات الأمريكية الإيرانية التي شهدت في العام 2018 تغييرا كبيرا، بدأت بالانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، لتنتهي بحزمة العقوبات التي أعلنتها الولايات المتحدة على إيران.
هذا التاريخ من المناورات واللعب المزدوج في العلاقة بين العراق والولايات المتحدة، يقول لنا ببساطة إن الموقف من الولايات المتحدة، عراقيا، لا تحدده رؤية استراتيجية عراقية تتعلق بسياسة الدولة العراقية، بل هي مقاربات انتهازية للفاعلين السياسيين في المقام الأول، تحكمها المصالح الآنية من جهة، والعلاقات الأمريكية الإيرانية من جهة ثانية. هكذا وجدنا الفاعلين السياسيين الشيعة، يهرولون لإصدار قرار غير دستوري، يقضي بإنهاء وجود قوات التحالف الدولي وأي قوات أجنبية في العراق في كانون الثاني/ يناير 2020، لكنهم «يتغافلون» عن تحقيق هذا المطلب حين يتمكنون من تشكيل حكومة يحتكرون قرارها وحدهم، الى الحد الذي نسمع معه رئيس مجلس الوزراء الذي سمته هذه القوى نفسها، يصفهم، في لقاء مع صحيفة وول ستريت جورنال قبل أيام، بأنهم «قوات صديقة» وأن العراق «بحاجة إلى وجود قوات أمريكية»!
القدس العربي