حينما تواجه الولايات المتحدة أزمة في السياسة الخارجية، يزعم منتقدوها أن الحكومة الأميركية تبذل جهوداً كبيرة أو أنها لا تبذل جهوداً كافية. وينطبق ذلك على أوكرانيا. في الواقع، يلوم كثير من الناس إدارة بايدن على فشلها في تزويد القوات الأوكرانية بالأسلحة الثقيلة، على غرار الدبابات والصواريخ البعيدة المدى والطائرات المقاتلة التي يرون أنها ضرورية من أجل طرد القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية. في المقابل، يشعر آخرون بالقلق في شأن قوة الغرب الراسخة والكلف البشرية والاقتصادية المتزايدة المترتبة على الحرب، فيحثون الإدارة الأميركية على الضغط على كييف من أجل التفاوض على صفقة مع روسيا، حتى لو كان ذلك يعني التخلي عن بعض أراضيها.
والجدير بالذكر أن الفكرة القائلة إن الحروب تنتهي دائماً إما بالنصر أو بتسوية تفاوضية هي فكرة يكذبها التاريخ، وبالتأكيد ينفيها وجود عدد من الصراعات المجمدة على طول الحدود الروسية. في الواقع، تعتبر أوكرانيا بحد ذاتها مثلاً بارزاً على ذلك. وعلى رغم أعوام من جهود السلام المتقطعة، ظلت الحرب في إقليم دونباس مجمدة إلى حد كبير خلال السنوات الثماني التي سبقت الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022. وربما لا تكون الحرب الحالية مختلفة. فبعد أكثر من 10 أشهر من القتال الوحشي وأشهر من الهجمات القاسية على السكان المدنيين، لن تقبل الحكومة الأوكرانية بالسيطرة الروسية على أي من أراضيها، خصوصاً بعد مشاهدة عمليات النهب والاغتصاب والاغتيالات في المناطق التي تسيطر عليها روسيا. في المقابل، من غير المرجح أيضاً أن تتخلى روسيا طواعية عن الأراضي الأوكرانية التي تعتقد خطأ بأنها ملك لموسكو.
حتى الآن، ركزت واشنطن وحلفاؤها بشكل مناسب على المهمة العاجلة التي تقتضي مساعدة أوكرانيا وتجنب التصعيد. وفي المقابل، ثمة حاجة ملحة لتبني رؤية أطول أمداً، ووضع سياسات تجاه كل من روسيا وأوكرانيا بناء على الواقع الناشئ المتمثل في أن هذه الحرب من المرجح أن تستمر لبعض الوقت. وبدلاً من افتراض إمكانية إنهاء الحرب من خلال الانتصار أو المحادثات، يحتاج الغرب إلى التفكير في عالم يستمر فيه الصراع من دون أن يلوح أي نصر أو سلام في الأفق. في عالم مماثل، ستحتاج الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى مواصلة تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا من أجل الدفاع عن نفسها في وجه عدوان روسي متزايد. وسوف يحتاجون إلى احتواء الطموحات الروسية الأكبر من خلال الحفاظ على العقوبات الاقتصادية وعزل موسكو دبلوماسياً. وسيتعين عليهم ضمان عدم تصعيد الصراع. وفي الوقت نفسه، سوف يحتاجون إلى إرساء أساس طويل الأمد للأمن والاستقرار في أوروبا. وسيتطلب ذلك دمج أوكرانيا بالكامل في الغرب مع صياغة سياسة احتواء تشدد على ردع العدوان الروسي وتؤكد الجهود المبذولة للتعاون مع موسكو من أجل تجنب تفاقم الحرب إلى مواجهة عسكرية أوسع لا يرغب أحد فيها. سيكون من الصعب على المدى الطويل تحقيق التوازن بين سياسة أوكرانيا من جهة وسياسة روسيا من جهة أخرى، بيد أن الجهود المبذولة من البلدين ستكون ضرورية من أجل مستقبل الأمن الأوروبي.
لا انتصار ولا سلام
امتلأت الحرب في أوكرانيا بالمفاجآت. على رغم كشف إدارة بايدن علناً عن معلومات استخباراتية تظهر استعدادات موسكو لشن غزو، أصيب كثيرون بالذهول من أن روسيا استخدمت أكثر من 175 ألف جندي من أجل مهاجمة دولة مجاورة لم تؤذها ولا تشكل بأي شكل من الأشكال تهديداً لأمنها.
وحتى بالنسبة إلى أولئك الذين توقعوا غزواً واسع النطاق، لم تسر الأحداث وفق ما كان متوقعاً. في الواقع، فوجئ كثيرون بأن روسيا فشلت في السيطرة السريعة على أوكرانيا وإطاحة حكومتها. وخلافاً للتوقعات، عانى الجيش الروسي نقصاً ومجموعة من العيوب الشديدة في التخطيط والاتصالات والخدمات اللوجستية، مما أتاح للقوات الأوكرانية صد التقدم الروسي نحو كييف على رغم تفوق روسيا الكبير بالعدد والعتاد. وبعد ذلك، بمساعدة عسكرية واستخباراتية غربية على نطاق لم يكن ممكناً تصوره قبل فبراير 2022، استمرت أوكرانيا في مفاجأة العالم من خلال تغيير مسار الحرب في الصيف واستعادة حوالى نصف الأراضي التي فقدتها في الهجوم الروسي الأولي. في غضون ذلك، أظهر الغرب قدرة على توجيه ضربة اقتصادية قاسية لروسيا، بعزم مفاجئ وهدف موحد. وكذلك برز بشكل ملحوظ مدى رغبة أوروبا في إنهاء اعتمادها على الوقود الأحفوري الروسي بكلفة اعتقدت قلة قليلة بأن الحكومات الأوروبية ستكون مستعدة لتحملها.
على رغم أن القوات الأوكرانية تمكنت من تحقيق مكاسب دراماتيكية في أوائل خريف عام 2022 ولم تظهر أي علامة على التوقف عن القتال، إلا أن ديناميكية الحرب تغيرت مرة أخرى في الأشهر الأخيرة من السنة، إذ بدأت أوكرانيا عام 2023 مع معاناة ضربات وجروح عميقة، لأسباب ليس أقلها الهجمات الصاروخية الروسية المستمرة على شبكة الكهرباء والبنى التحتية المدنية الأخرى. إلى جانب أكثر من مئة ألف جندي روسي، وفق ما تورد التقارير، قتل عدد كبير من العسكريين والمدنيين الأوكرانيين في الحرب. وعلاوة على ذلك، خلافاً للأشهر الـ10 الأولى من القتال، ربما لن تشهد الأشهر المقبلة تغييرات كبيرة في خطوط المواجهة الحالية. يتمثل أحد الأسباب في أن روسيا تفتقر إلى القوة البشرية والمواد اللازمة للهجوم في أي وقت قريب. ويضاف إلى ذلك أن هجماتها بالصواريخ والطائرات من دون طيار على البنية التحتية المدنية في أوكرانيا، لم تؤد إلا إلى تعزيز تصميم الأوكرانيين على المقاومة. في الوقت نفسه، ستجد أوكرانيا صعوبة متزايدة في اختراق الدفاعات الروسية بكلفة مقبولة. ربما تستمر القوات الأوكرانية في شن هجمات ناجحة عبر خطوط روسية محددة، كأن تكون مثلاً في الجنوب باتجاه بلدة ميليتوبول وبحر آزوف. ولكن ما لم تنهَر الدفاعات الروسية تماماً، فإن أوكرانيا تفتقر إلى القوة البشرية اللازمة للاحتفاظ بمثل هذه المكاسب لفترة طويلة من دون تعريض نفسها للهجمات المضادة الروسية في أماكن أخرى.
منذ الخريف، سعى الاستراتيجيون الغربيون إلى استباق المواجهة العسكرية بطريقتين، إذ دعا بعض منهم كقادة عدد من دول البلطيق، إلى تسليح كييف بمزيد من الأسلحة الثقيلة التي ستحتاج إليها في طرد القوات الروسية من جميع الأراضي الأوكرانية. في المقابل، اقترح آخرون، بما في ذلك مارك ميلي، رئيس “هيئة الأركان الأميركية المشتركة”، أن الزعماء السياسيين في أوكرانيا يجب أن يفكروا في حل تفاوضي لا يرقى إلى تحقيق النصر الكامل ولكنه في الأقل سينهي القتال. بالنتيجة، لا توجد فرصة كبيرة لنجاح أي من النهجين.
واستطراداً، هناك حدود لما يمكن أن تقدمه واشنطن وحلفاؤها من أسلحة ومساعدات عسكرية. والجدير بالذكر أن ما يفرض جزءاً من هذه الحدود يتأتى من حقيقة أنه حتى الولايات المتحدة لم تعد تملك فائضاً من القدرات يتيح لها دعم أوكرانيا. فلنأخذ مثلاً قذائف المدفعية. العام الماضي، خلال أسبوع واحد أطلقت أوكرانيا عدداً كبيراً منها يوازي ما يمكن للولايات المتحدة إنتاجه في شهر واحد. وهناك أوجه قصور مماثلة في الأسلحة الأكثر تقدماً. في ذلك الإطار، أرسلت ألمانيا نظام الدفاع الجوي الحديث “إيريس تي” IRIS-T، إلى أوكرانيا في أكتوبر (تشرين الأول). في المقابل، واجهت برلين صعوبات في تزويد كمية من صواريخ أرض- جو اللازمة لأوكرانيا كي تحافظ على دفاع فاعل. ونظراً إلى المساعدات العسكرية المكثفة التي قدمت بالفعل وتناقص الإمدادات المتاحة، فمن المرجح أن يشحن الغرب خلال الأشهر الستة المقبلة كمية أقل بكثير من الأسلحة إلى أوكرانيا بالمقارنة مع ما كان يرسله خلال الأشهر الستة الماضية.
خلال أسبوع واحد أطلقت أوكرانيا عدداً من قذائف المدفعية يوازي ما يمكن للولايات المتحدة إنتاجه في شهر واحد
إضافة إلى القيود على الإمداد، أحجمت واشنطن وحلفاؤها أيضاً عن تزويد أوكرانيا ببعض الأسلحة المتطورة بسبب التدريب المكثف الذي ربما يكون مطلوباً، وخطر وقوع مثل هذه الأسلحة في أيدي الروس في حال استخدامها في ساحة القتال. في ذلك السياق، تندرج الطائرات المقاتلة، من طراز “أف- 16″ F-16 إلى الجيل الأحدث من المقاتلات الجوية، ضمن الفئة الأولى [أي الحاجة إلى التدريب المكثف]. وتندرج في الفئة الثانية، الطائرات من دون طيار المتطورة كـ”غراي إيغل” Grey Eagle التي إذا استولت عليها القوات الروسية، فستعطي روسيا معلومات أساسية حول القدرات والتكنولوجيا العسكرية الأميركية.
واستطراداً، هناك خطر التصعيد، إذ حذرت موسكو واشنطن مراراً وتكراراً من إرسال صواريخ بعيدة المدى إلى أوكرانيا، بما في ذلك “نظام الصواريخ التكتيكية العسكري إم جي إم 140″ MGM-140 Army Tactical Missile System، أو ما يعرف بـ”أتاكمس” ATACMS الذي يبلغ مداه 300 كيلومتر (186 ميلاً) ويمكن أن يصيب عمق الأراضي الروسية. وبطريقة موازية، رفض الرئيس الأميركي جو بايدن باستمرار الدعوات لإرسال هذه الصواريخ ذات الكفاءة العالية إلى أوكرانيا، بحجة أن ذلك من شأنه أن يقسم حلف “الناتو” ويخاطر بإطلاق مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، أو حتى حرب عالمية ثالثة. من السهل تجاهل هذه المخاوف، على غرار ما يفعله عدد من المراقبين المخضرمين. لكن من المهم للغاية أن تأخذ الولايات المتحدة أخطار التصعيد على محمل الجد، وتقيم باستمرار أخطار عدم بذل جهود كافية لمساعدة أوكرانيا من جهة، مقابل العواقب المترتبة على بذل جهود كثيرة بما في ذلك احتمال استخدام روسيا لأسلحة نووية تكتيكية، من الجهة الأخرى. وتتمثل الحقيقة التي لا يمكن إنكارها في وجود حدود جوهرية تقيد مدى تلاقي المصالح الأوكرانية والأميركية في الرد على العدوان الروسي.
بطبيعة الحال، يعيد البنتاغون والبيت الأبيض باستمرار تقييم حاجات أوكرانيا وما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة لدعمها. واستناداً إلى ذلك، أرسلت إلى أوكرانيا منظومات عسكرية جرى استبعادها في البداية، بما في ذلك المدفعية الطويلة المدى والدفاعات الجوية المتقدمة كبطاريات صواريخ “باتريوت” Patriot. كذلك يلاحظ أن أحدث تغيير من هذا القبيل يتعلق بالمركبات المدرعة، إذ وافقت الولايات المتحدة وفرنسا على تزويد كييف بمركبات قتالية مدرعة ودبابات خفيفة. ولكن، في حين أن هذه الأسلحة والمعدات ستساعد أوكرانيا، فمن غير المرجح أن تغير ميزان القوى في ساحة المعركة بما يكفي لإنهاء الحرب.
وإذا كان من المستبعد تحقيق نصر عسكري أوكراني كامل في أي وقت قريب، فإن احتمالات التوصل إلى سلام تفاوضي تبدو أبعد من ذلك. على رغم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صرح مراراً وتكراراً عن استعداده “للتفاوض مع جميع المشاركين في هذه العملية حول بعض النتائج المقبولة”، فمن الواضح أنه غير صادق. لطالما فضل مناقشة أهدافه الإقليمية مباشرة مع الولايات المتحدة عوضاً عن التعاون بجدية مع القيادة الأوكرانية. وعلاوة على ذلك، لقد أصر أيضاً على أن المقاطعات أو الأقاليم الأوكرانية الأربعة التي طالبت روسيا بشكل غير قانوني بضمها في سبتمبر (أيلول)، إلى جانب شبه جزيرة القرم التي استولت عليها عام 2014، تشكل جزءاً من روسيا على نحو غير قابل للتغيير. في المقلب الآخر، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن كييف لن تقبل على الإطلاق أي مطالبات روسية بأراضي أوكرانيا معتبراً أن كل سلام نهائي يجب أن يعترف بحدود أوكرانيا المرسمة عام 1991. بالتالي، لن يتمكن أي تملق غربي مهما بلغت درجته من تبديل موقف زيلينسكي الذي يحظى بدعم هائل من الجمهور الأوكراني، على رغم المعاناة غير العادية التي ألحقتها الحرب بهم، أو ربما بسبب هذه المعاناة نفسها.
استراتيجية أفضل طويلة الأمد
في غياب احتمال حدوث فوز مطلق أو سلام متفاوض عليه في وقت قريب، فستستمر الحرب في المستقبل المنظور. في الواقع، يجري تعزيز الدفاعات الروسيةفي الشرق والجنوب على طول خط المواجهة البالغ 600 ميل [9657 كيلومتراً] الذي يفصل الآن بين القوات الروسية والأوكرانية. وسيبحث الجانبان عن نقاط الضعف في دفاعات الآخر. ولكن، ما لم يحصل انهيار أوسع لهذا الطرف أو ذاك، فمن المرجح أن يظل خط المواجهة إلى حد ما في المكان الذي هو فيه الآن. وربما يتسبب الإرهاق ونقص القوة البشرية والعتاد في فترات توقف طويلة في القتال، مما قد يؤدي إلى اتفاق تفاوضي يقتضي فض الاشتباك أو وقف إطلاق النار، حتى لو جاء موقتاً أو مشروطاً. ليس مصير الحروب كلها أن تصل إلى نهاية، أو أن تنتهي بتسويات سلمية دائمة. لقد انتهت الحرب الكورية بهدنة، فيما أسفرت حرب يوم الغفران [حرب أكتوبر] عام 1973 عن “اتفاقات فض اشتباك” لا تزال سارية في حالة إسرائيل وسوريا. وليست روسيا غريبة عن التعايش مع النزاعات المجمدة، بما في ذلك في جورجيا ومولدوفا.
استطراداً، إذا كان مثل هذا المستقبل القاتم ينتظر الأوكرانيين، بمعنى الوصول إلى وضع تظل فيه حال الحرب مستمرة مع أو من دون قتال عنيف، فسيحتاج الغرب إلى استراتيجية متعددة الجوانب وطويلة الأجل لا تتخلى عن مستقبل أوكرانيا وفي الوقت نفسه لا تتجنب التعامل مع روسيا في القضايا ذات الاهتمام المشترك. وفي حين أنه من الصعب للغاية تخيل التعاون مع بوتين ونظامه، قد لا يملك الغرب خيارات كثيرة على المدى الطويل. لقد أدت الإخفاقات المتراكمة لهذه الحرب إلى إضعاف بوتين، لكنه أمضى 22 عاماً في تعزيز سلطته من أجل ضمان عدم تمكن أي شخص من تحديه بنجاح. كذلك من غير المحتمل حدوث ثورة من الأسفل [ثورة شعبية ضد النخبة الحاكمة]، بالنظر إلى قدرة موسكو المستمرة على قمع الشعب الروسي. وحتى لو أطيح بوتين من السلطة، فقد يكون خليفته شخصاً يشاركه رؤيته لروسيا العظمى، وربما يعتقد بأن بوتين لم يكن قاسياً بما فيه الكفاية.
علاوة على ذلك، على رغم وحشية بوتين، ظلت كييف وواشنطن على اتصال مباشر مع موسكو منذ بدء الحرب. وتفاوضت أوكرانيا وروسيا في شأن تبادل الأسرى. وبمساعدة تركيا والأمم المتحدة، توصلت روسيا وأوكرانيا إلى اتفاق صمد إلى حد كبير في شأن صادرات الحبوب. وعقدت الولايات المتحدة وروسيا صفقة لمقايضة نجمة كرة السلة الأميركية بريتني غرينر بتاجر الأسلحة الروسي فيكتور بوت. وفي استراتيجية حرب طويلة، سيحتاج الغرب إلى تعزيز ذلك النوع من الاتصالات، حتى لو كانت هناك نقاط قليلة جداً يتفق عليها مع روسيا.
ومن أجل تطوير نهج فاعل في التعامل مع حرب طويلة الأمد، يجب على الغرب أيضاً أن يواصل تقديم الدعم الكافي لأوكرانيا كي تدافع عن الأراضي التي تسيطر عليها الآن، وتحرر أراض إضافية حيثما أمكن ذلك. وبينما تسعى أوكرانيا بمرور الوقت إلى تأمين مستقبلها الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي، تحتاج الولايات المتحدة ودول “الناتو” إلى تقديم التزام أمني يضمن امتلاك أوكرانيا للأسلحة التي تحتاج إليها من أجل الدفاع عن نفسها ضد روسيا على المدى الطويل، تماماً على غرار ما فعلت أميركا حيال إسرائيل طوال عقود. كذلك، يجب على واشنطن أن تبحث مع حلفائها في إمكانية ترقية عضوية أوكرانيا الموعودة في الاتحاد الأوروبي إلى عضوية نهائية في حلف “الناتو” نفسه.
من المرجح أن يظل خط المواجهة الممتد 600 ميل في مكانه في المستقبل المنظور
في غضون ذلك، يحتاج القادة الغربيون إلى استعادة مهمة احتواء التهديد الروسي. وسيتطلب ذلك الإبقاء على جميع العقوبات المالية والتجارية والاقتصادية التي فرضوها منذ أن غزت روسيا أوكرانيا للمرة الأولى عام 2014. ويعني ذلك أيضاً مواصلة جهودهم الرامية إلى إنهاء الاعتماد على صادرات الطاقة الروسية. وكذلك يتوجب أن يبذل الغرب قصارى جهدهم من أجل منع وصول روسيا إلى التقنيات اللازمة لاستدامة اقتصادها، بما في ذلك في قطاع الدفاع.
سوف تتطلب سياسة الاحتواء الطويلة الأمد والفاعلة استمرار عزل روسيا سياسياً. وفي الحقيقة، يسهم استبعاد موسكو من المناسبات الرياضية والثقافية في ضمان ذلك العزل. وينطبق ذلك أيضاً على التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يظهر عدم وجود دعم لحربها غير القانونية ضد أوكرانيا. في المقابل، من الضروري بذل جهد غربي أكثر تناسقاً بهدف الإثبات لبلدان الجنوب أن الانحياز لموسكو، أو عدم الانحياز بحد ذاته، يؤدي في النهاية إلى انهيار أسس السلام والأمن التي يستند إليها النظام الدولي. واستطراداً، فإن ذلك لا يعني أن كل الدول بحاجة إلى تبني الاستراتيجية الاقتصادية التي ينتهجها الغرب. لكنه يعني إقناعها بأن روسيا مخطئة، وأن سلوكها هو السبب الأساس لمحنتها الاقتصادية. وكجزء من هذا الجهد، يمكن لواشنطن وشركائها الغربيين بذل جهود أكبر من أجل معالجة أزمات الغذاء والطاقة والاقتصاد التي ظهرت في أعقاب الإجراءات والممارسات الروسية غير المبررة، بدءاً من تخفيف الديون وتقديم المعونة الغذائية إلى البلدان الأكثر احتياجاً.
أخيراً، فإن احتواء روسيا سيتطلب من الغرب الحفاظ على موقف رادع قوي ليس في وجه التهديدات العسكرية فحسب، بل أيضاً التهديدات المحدقة بمؤسساته ومجتمعاته. ويعني ذلك الأمر أنه سيتعين على أوروبا زيادة إنفاقها الدفاعي بأكثر مما فعلت رداً على العدوان الروسي منذ عام 2014. وستحتاج الولايات المتحدة إلى الاستمرار في التعاون مع أوروبا حتى في وقت تكرس مزيداً من الجهود الرامية إلى مواجهة التحدي الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. إضافة إلى ذلك، تحتاج دول “الناتو” والاتحاد الأوروبي إلى تعزيز جهودها الفردية والمشتركة لإحباط التدخل الروسي في انتخاباتها والرد بقوة على التخويف الاقتصادي والتدخل السياسي وأشكال الحرب الهجينة الأخرى. وعلى رغم إنهاك أجزاء من الجيش الروسي، لا تزال موسكو تشكل تهديداً كبيراً للغرب.
وإضافة إلى ردع روسيا وعزلها سياسياً واقتصادياً، سيحتاج الغرب أيضاً إلى الحفاظ على قنوات الاتصال مع الكرملين تجنباً لاندلاع حرب مباشرة بين “الناتو” وروسيا وحفاظاً على الاستقرار الاستراتيجي. لا يمكن أن تكون هناك مفاوضات أوسع بين الغرب وروسيا طالما أن القتال العنيف مستمر. وفي المقابل، فعلى غرار ما حصل في “الحرب الباردة”، ربما يحظى الجانبان كلاهما بفرص في متابعة تدابير بناء الثقة التي يمكن أن تساعد في تجنب مواجهة لا يريدها أي منهما. وتتمثل إحدى الخطوات المهمة في بدء المحادثات حول تمديد معاهدة “ستارت الجديدة” New START التي تنتهي عام 2026، وتنص على عمليات تفتيش تدخلية وتبادل معلومات حول الأسلحة النووية في روسيا والولايات المتحدة.
احتواء روسيا وتعزيز قوة أوروبا
بالنسبة إلى الولايات المتحدة وشركائها، لا تعتبر استراتيجية الاحتواء الطويل الأمد لروسيا فكرة جديدة. بعد كل شيء، ظل الغرب يتّبع مثل هذه السياسة تجاه الاتحاد السوفياتي طوال أربعة عقود قبل أن تؤدي إلى “إضعاف” القوة السوفياتية، وهي النتيجة التي عقد الدبلوماسي جورج كينان الأمل على تحقيقها حينما جرت صياغة تلك السياسة. لكن خلال “الحرب الباردة”، لا سيما بعد أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، اتبعت الولايات المتحدة أيضاً الدبلوماسية من أجل تجنب أسوأ النتائج، بشكل خاص اندلاع حرب نووية شاملة. وحتى الرئيس رونالد ريغان الذي انتقد سياسة الوفاق في العلاقات باعتباره تنازلاً عن أمور كثيرة للاتحاد السوفياتي، سعى إلى إرساء علاقات دبلوماسية في أحلك اللحظات التي سبقت وصول ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة، على غرار ما حدث في أعقاب إسقاط السوفيات طائرة مدنية تابعة لكوريا الجنوبية عام 1983.
وعلى غرار الحال مع أسلافه السوفيات، لا بد من حرمان بوتين من القدرة على توسيع إمبراطوريته الشريرة، بيد أن روسيا لن تختفي. لذا، يحتاج الغرب إلى تبني سياسة تجاه كل من كييف وموسكو، إذ لا يستطيع المخاطرة في تبني واحدة من دون الأخرى. إن أوكرانيا الحرة مهمة للغرب، وفي المقابل لا تزال روسيا الإمبريالية تشكل تهديداً لأوروبا. واستكمالاً، لا احتواء روسيا ولا التعاون معها يعتبران كافيين من أجل الدفاع عن الغرب وتجنب صراع أكبر في الوقت نفسه.
بالتالي، فحتى روسيا غير الإمبريالية التي تهتم بشؤونها الخاصة ستكون لها مصالح أمنية، لأن تلك هي حال الدول كلها، واعتراف الغرب بذلك لا يعتبر نقطة ضعف. والجدير بالذكر أن روسيا ليست بحاجة إلى “ضمانات أمنية” وفق ما اقترحه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في ديسمبر (كانون الأول)، لكن من المنطقي احترام مصالحها المشروعة كالدفاع عن حدود روسيا المعترف بها دولياً. وصحيح أن بإمكانها أن تصون نفسها من خلال الردع النووي، لكن من مصلحتها تقليل التعزيزات العسكرية، وبالتالي احتمال حدوث تصعيد غير مرغوب فيه، على طول الحدود بين “الناتو” وروسيا، على غرار ما يفعل الغرب.
في نهاية المطاف، سيحتاج الغرب وروسيا إلى تبني نسخة من الاتفاقات التي أبرمتها الولايات المتحدة وحلفاؤها مع الاتحاد السوفياتي بين عامي 1975 و1990 بهدف الحد من أسوأ النتائج [أي تحول الحرب في أوكرانيا إلى حرب عالمية و/أو نووية] وخلق مزيد من الاستقرار في أوروبا. وفي سياق متصل، لقد ألزم “قانون هلسنكي النهائي” لعام 1975 جميع الأطراف الدولية آنذاك بالاعتراف بالحدود الحالية والسعي إلى التغيير من خلال الوسائل السلمية وحدها. كذلك جاءت “وثيقة فيينا” الموقعة عام 1990 والمجددة بشكل دوري في السنوات اللاحقة، على هيئة مجموعة من تدابير بناء الثقة التي حدت من الأنشطة العسكرية وجعلت تبادل المعلومات حول المقتنيات العسكرية أمراً إلزامياً وتطلبت إخطاراً مسبقاً بأي تحركات كبيرة ستقوم بها القوات. وقد وضعت أحكام التحقق والتفتيش الخاصة بتلك الوثيقة من أجل منع إمكانية دخول أي دولة في استخدام قوة عسكرية على نطاق واسع، من دون إشعار مسبق. لا تبدو مثل تلك التفاهمات ممكنة في الوقت الحاضر. وربما تظل غير ممكنة طالما أن بوتين في السلطة، على رغم أن الغرب يجب أن يجربها. في المقابل، يبقى أن صوغ تفاهمات من النوع الموصوف آنفاً يشكل الوسيلة الوحيدة القابلة للتطبيق من أجل التعاون مع روسيا على المدى الطويل. ويصح ذلك حتى في وقت تدافع واشنطن عن نفسها وتساعد أوكرانيا في الدفاع عن نفسها في ما يرجح أن يكون حرباً طويلة وصعبة.
اندبندت عربي
بيد أن هاتين الحجتين غير مقنعتين. لقد فاجأ الجيش الأوكراني الجميع بقدرته على الدفاع عن البلاد وحتى استعادة جزء كبير من الأراضي التي فقدها في بداية الحرب. لكن إخراج القوات الروسية من جميع أراضي أوكرانيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، سيكون صعباً للغاية، حتى مع تعزيز المساعدات العسكرية الغربية، إذ إن تحقيق مثل تلك النتيجة سيتطلب انهيار الدفاعات الروسية المتوغلة والمدعمة وسيخاطر ببدء حرب مباشرة بين حلف “الناتو” وروسيا، وهو سيناريو كارثي لا يرغب أحد في وقوعه. بالنسبة إلى المفاوضات، لم يبد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أي مؤشر إلى استعداده للتخلي عن حلمه الإمبريالي بالسيطرة على أوكرانيا. وسيكون من الصعب إقناع الحكومة الأوكرانية بالتنازل عن أراضيها لقوة احتلال وحشية مقابل سلام غير مؤكد. وبالنظر إلى الحوافز القوية التي تدفع الجانبين كليهما إلى مواصلة القتال، فهناك نتيجة ثالثة هي الأكثر ترجيحاً، وتتمثل في حرب طويلة وطاحنة تتجمد تدريجاً على طول خط الترسيم الفاصل الذي لا يقبله أي من الطرفين.