بعد أربعة أشهر فقط من وصف الرئيس بايدن لأسلوب تعامل دونالد ترمب الرديء مع وثائق سرية بأنه «مفتقر إلى الشعور بالمسؤولية»، تحول موقفه ذلك إلى نموذج صارخ للنفاق، مع اكتشاف وجود وثائق سرية داخل صناديق في منزله بديلاوير.
منذ أسبوعين فقط، كان الديمقراطيون يسخرون من حالة الفوضى التي تعتمل داخل أرجاء الحزب الجمهوري، وكانت لديهم قناعة بأن سيطرة الجناح اليميني التابع للحزب الجمهوري على مجلس النواب، ستعود عليهم بالنفع عام 2024. بعد ذلك، سقط الديمقراطيون في محنة مؤلمة مع الكشف ببطء عن معلومات أصابتهم بدمار سياسي غير هين، تتعلَّق بالعثور على وثائق سرية في مكاتب كانت تخص بايدن وكذلك منزله في ويلمنغتون.
اليوم، يجد بايدن نفسه في مأزق عسير، خاصة وأنه يتعرض لاستهداف من قبل لجان قوية داخل الكونغرس، وصحافيين يبحثون عن سبق صحافي ومستشار خاص جديد، روبرت هير، ليكافئ بذلك جاك سميث، المستشار الخاص المعني بالتحقيق مع ترمب.
في المقابل، لا يبدو ثمة تكافؤ بصري بين ترمب وبايدن. يبدو ترمب أنه شخص تعمد الاستيلاء على مئات المستندات السرية، وتفاخر باحتفاظه بمجلدات تحمل علامة «سرية»، باعتبارها مجرد «تذكارات لطيفة». وتبعاً لما ذكره العديد من المستشارين، فإن ترمب قال إن هذه الوثائق «ليست ملكهم، وإنما هي ملكي». ويبدو أنه تحدى أمر محكمة لإعادة المستندات، الأمر الذي جعله عرضة للملاحقة القضائية المحتملة بسبب عرقلة سير العدالة.
على النقيض من ذلك، بدا أن البحث بخصوص بايدن بطيء، وكذلك الكشف عن قرابة 20 وثيقة سرية، لكنه (بايدن) يتعاون بشكل كامل مع السلطات.
لسوء حظ بايدن، فإن هذا الاختلاف لا يمكّنه من النجاة بسهولة من سيل مذكرات الاستدعاء من جانب الكونغرس، والأسئلة التي تنهمر دونما هوادة من المراسلين وظهور مزاعم جديدة بالتورط في سلوك غير لائق، بما يوحي بأن ثمة حلقة جديدة من حلقات الدراما السياسية على وشك الحدوث. وربما يخلص كثير من الناخبين الذين لديهم أمور أكثر أهمية ليشغلوا بها أوقاتهم عن متابعة تفاصيل السجلات الرئاسية والاختلافات الدقيقة بينها، إلى أن كلا الرئيسين، الحالي والسابق، مهمل وكاذب.
من ناحية أخرى، فإن أزمة الوثائق السرية تعتبر مجرد الفترة السابقة الممهدة لحملة انتخابات 2024، وبمرور الوقت يكاد يكون في حكم المؤكد أننا سنعاين ظهور قصص واختفاءها، ثم معاودتها الظهور من جديد.
ومع ذلك، فإن مشكلات بايدن الجديدة أشد عمقاً من ذلك، وتنطوي على تحد للصورة السياسية السائدة عنه، بجانب أنها تمثل بداية فترة تفحص دقيق ومكثف لرئيس يتهيأ للترشح في الانتخابات الرئاسية الجديدة.
ولذلك، يبدو من المحتمل أن نتطلع في المستقبل إلى الوراء ـ تحديداً يناير (كانون الثاني) 2023 باعتباره نهاية حقبة قصيرة في الحياة السياسية الأميركية. وهي حقبة، رغم كل ما حملته من الفوضى، فقد نجا خلالها رئيسان من الحزب الديمقراطي من الوقوع في شرك آلة الفضيحة التي اتسمت بها واشنطن على مدار نصف قرن.
تكشف الأرقام عن أن جميع الرئاسات الأميركية الـ10 منذ عام 1973 واجهت تحقيقاً من جانب مستشار خاص أو محقق مستقل، فيما عدا رئاسة واحدة، هي تلك الخاصة بباراك أوباما. على مدار ثماني سنوات، جرى النظر إلى أوباما ونائبه وكبار المسؤولين باعتبارهم يتحلون بقدر استثنائي من الاستقامة. وعاد هذا الشعور مع بايدن عندما دخل البيت الأبيض من جديد.
ومع ذلك، نجد اليوم أن هذا التباين الأخلاقي الشديد بين بايدن وترمب تضاءل وأصبح مشوشاً. والمؤكد أن هذا الوضع يزيد تعقيد حملة الرئيس المتوقعة للفوز بإعادة انتخابه.
من جهتهم، ما يزال معظم الديمقراطيين يعتقدون أن بايدن صادق، ويعتبرون أن إنجازاته على أصعدة الاقتصاد والمناخ والبنية التحتية والدفاع عن الديمقراطية أكثر أهمية من هذه السقطة. ومع ذلك، فإن ثمة شعورا قويا بالسأم من بايدن في صفوف الديمقراطيين لإهداره ميزة سياسية هائلة على قصة «مارالاغو»، وإفساده ما كان يمكن أن يشكل الفرصة المثلى لإدانة ترمب باتهامات فيدرالية.
أما مشكلة بايدن الأخطر، فربما تكون المستقلين، والذين ربما يخسر أصواتهم جراء أخطائه التي تنطوي على خطورة محتملة، ورغم ادعاء حلفائه بأن قصة الوثائق السرية ستتلاشى نهاية الأمر ولن تعدو كونها واحدة من حلقات الضجيج المعتاد في واشنطن العاصمة، لكن هذه لم تكن الحال مع هيلاري كلينتون وتجربتها مع رسائل البريد الإلكتروني والحاسب الآلي الخادم.
ومثلما جهزت سلسلة جلسات الاستماع القاسية بخصوص ما حدث في بنغازي، من 2014 حتى 2016، هيلاري لهجمات تالية، فإن وثائق بايدن ربما تبث حياة جديدة لمزاعم وجود صلات تجارية بين مسؤولين تنفيذيين صينيين وأفراد من أسرته.
هل اطلع أجانب على الوثائق السرية التي أسيء التعامل معها؟ يبدو ذلك من غير المحتمل بدرجة كبيرة. ومع ذلك، فإن المشرعين الجمهوريين سيستغلون اتهامات الديمقراطيين المرتبطة بالتجاوزات في «مارالاغو» لفتح خطوط غريبة للتحقيق.
ونظراً لامتلاكهم سلطة الاستدعاء، فإن أعضاء الحزب الجمهوري ربما يتحولون بأنظارهم نحو أهداف حساسة، مثل محتويات الحاسب الشخصي لهانتر بايدن، وأي اتصالات يحويها تكون ذات صلة بالرئيس الحالي.
ويكاد يكون في حكم المؤكد أن جيمس كومر، الرئيس الجديد للجنة الرقابة داخل مجلس النواب، سيجر هانتر بايدن وعمه، جيمس بايدن، شقيق الرئيس، للمثول أمام اللجنة للإدلاء بشهادتيهما بخصوص صفقات مربحة عقداها مع شركات أجنبية، وأسلوب تقاطع هذه الأعمال على نحو كارثي مع حياة هانتر بايدن.
ومن أجل الخروج سالماً من العاصفة القادمة، يتعين على جو بايدن تعزيز لعبته السياسية – مهمة ليست بالهينة لرجل في مثل سنه – وتجنب التحول إلى ألد أعدائه. وبجانب تحسين الوضع الاقتصادي وإقرار نهاية ناجحة للحرب في أوكرانيا، يتمثل الدواء الأمثل لآلام بايدن السياسية في إحراز نصر تشريعي مفاجئ.
داخل الكونغرس الجديد، يمثل 18 من الأعضاء الجمهوريين بمجلس النواب ضواحي فاز بايدن بأصوات ناخبيها عام 2020. وإذا نجح بايدن في إقناع حفنة منهم فحسب، بالتصويت ضد التخلف عن سداد الديون الوطنية وإسقاط الاقتصاد العالمي في حالة من الكساد – مهمة أصعب مما تبدو عليه – فإنه سينال الإشادات حينها باعتباره أنقذ البلاد من أزمة اقتصادية كبرى. ورغم ذلك، فإنه حتى إذا خرج بايدن في النهاية منتصراً، ونجح في النجاة من المشرعين الجمهوريين، وحتى لو لم ينل سوى لوم خفيف في تقرير المستشار الخاص، فستظل الحقيقة أن قصة الوثائق السرية جردت بايدن من أهم أصل سياسي كان يملكه لدى بعض المستقلين والديمقراطيين: تفسير الشك في صالح المتهم. ويعني ذلك أن الشعور العام بأن بايدن نظيف سياسياً تماماً وبعيد عن أي فضائح، تلاشى اليوم ليحل محله الافتراض الشائع في واشنطن، بأن ثمة درجة ما من الذنب خلف كل سياسي.
الشرق الأوسط