بلدان في أوروبا كلما تغيرت معهما أحوال القارة العجوز، ألمانيا وفرنسا. اليوم، تتجاذب المجتمع الألماني تقلبات سياسية واقتصادية واجتماعية عنيفة تنتظم جميعها حول الحرب الروسية على أوكرانيا وتداعياتها.
قبل أيام قليلة وبعد أسابيع من النقاش العلني في البرلمان وفي وسائل الإعلام، وافقت الحكومة الألمانية على إرسال 14 دبابة ليوبارد 2 إلى أوكرانيا ليستخدمها الجيش الأوكراني في معاركه المنتظرة في ربيع 2023. وارتبطت موافقة حكومة المستشار أولاف شولتز على إرسال الدبابات الألمانية المتطورة بإعلان إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إرسال 31 من دبابات إبرامز الحديثة أيضا إلى الجيش الأوكراني. على عكس الولايات المتحدة التي اعتادت إداراتها المتعاقبة تصدير السلاح لمناطق الحروب والنزاعات، يمثل إرسال ألمانيا المباشر لأسلحة هجومية إلى ساحة حرب نقلة خطيرة في سياسة جمهورية بون ـ برلين التي امتنعت منذ تأسيسها في 1949 عن فعل ذلك.
بل إن حكومة أولاف شولتز بقرار إرسال ليوبارد 2 تعيد دباباتها إلى الحدود الروسية للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945 وانتهاء العداونية الألمانية التي دمرت أوروبا مرتين في النصف الأول من القرن العشرين وأزهقت أرواح الملايين. لذا لم يكن بغريب أن تتفاعل الأحزاب السياسية الألمانية مع الأمر على نحو مكثف لم تغب عنه المفاجآت. فحزب شولتز الاشتراكي الديمقراطي صاحب التاريخ الطويل في الانفتاح على روسيا (سياسة الشرق) وفي دعم حركات السلام العالمية وفي رفض التورط في الحروب (رفض الغزو الأمريكي للعراق 2003) تبنى إرسال الدبابات الألمانية إلى أوكرانيا واستجاب للضغوط الأمريكية ولتوجهات واشنطن التي تريد كسر حالة الجمود العسكري في الساحة الروسية-الأوكرانية بتقديم سلاح هجومي متطور لكييف. وحزب الخضر الذي أنتجته في سبعينيات القرن العشرين حركات السلام والبيئة واليسار الجديد وعارض منذ بدايته الحروب وتصدير السلاح أيد إرسال ليوبارد 2 ووافق أعضاء الحزب وبأغلبية ساحقة على الأمر. وإذا كان هذا هو حال اليسار التقليدي ممثلا في الاشتراكيين الديمقراطيين وحال اليسار الجديد ممثلا في الخضر، فإن تأييد اليمين التقليدي ممثلا في الشريك الصغير في الائتلاف الحكومي الحزب الديمقراطي الحر وممثلا في حزبي المعارضة الكبيرين المسيحي الديمقراطي والاجتماعي الديمقراطي لتوريط الأسلحة الهجومية الألمانية في ساحة الحرب الروسية ـ الأوكرانية لم يكن ليتأخر عن اليسار.
ولم يخرج عن استعداد الأحزاب الحاكمة والمعارضة في ألمانيا عسكرة سياسة بلادهم في أوروبا وإعادة الدبابات إلى الحدود الروسية سوى حزب اليسار صاحب المواقف الرافضة التورط في الحرب منذ بدأت قبل عام تقريبا وحزب البديل لألمانيا القابع في خانات اليمين المتطرف والعنصري والرافض أيضا للتورط في الحرب. الحزبان، حزب أقصى اليسار وحزب أقصى اليمين، صارا هما المدافعان الوحيدان في الحياة السياسية الألمانية عن التفاهم والتفاوض مع روسيا وعن حركة السلام العالمية وعن وجوب عدم تبعية ألمانيا لضغوط وتوجهات واشنطن الراغبة في إنهاء الحرب بهزيمة عسكرية مدوية لموسكو لكي تتخلص من التهديدات الروسية للهيمنة الأمريكية على النظام العالمي. وفي ذلك شهادة إفلاس لأحزاب يسار ويمين الوسط الألمانية التي تخلت عن جذورها الفكرية والسياسية التي ميزتها منذ النصف الثاني من القرن العشرين وعن قناعتها الاستراتيجية طويلة المدى باستحالة ضمان الأمن والحفاظ على السلام وتحقيق الرخاء في أوروبا دون تفاهمات دائمة مع روسيا.
بينما يشارك ممثلو الخضر في الحكومة في تمرير قوانين تعدل جداول الخروج من الطاقة النووية والطاقة الأحفورية (الفحم) وتطيل عمر المفاعلات والمحطات، تتمرد القاعدة الشعبية للحزب على القرارات وتبحث عن مواجهة القوانين الحكومية باحتجاجات واسعة وتعلن «خيانة» سياسيي الحزب لمبادئه
وبتكالب السياسة الألمانية على التورط العسكري في الحرب الروسية على أوكرانيا عوضا عن التهدئة والوساطة والتفاوض من أجل إنهاء الحرب بحل سلمي تفقد جمهورية بون-برلين هويتها التي ساعدتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية على العودة إلى النظام الدولي كدولة تخلصت من عدوانيتها وقدمت إسهامات عدة للحفاظ على السلام وغيرت مع فرنسا وجه القارة الأوروبية بمشروع الاندماج القاري الذي صار اليوم الاتحاد الأوروبي. وباستخفاف السياسة الألمانية بتداعيات التورط العسكري وسباق التسلح العالمي الجديد الذي تريد حكومة المستشار شولتز تمويله ألمانيا بمبلغ يتجاوز 100 مليار يورو تبتعد جمهورية بون-برلين عن إرث سياسة الشرق والتسوية مع روسيا التي صنعها الحزب الاشتراكي الديمقراطي بزعامته التاريخية في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين والمكونة آنذاك من فيلي برانت وايجون بار وهيلموت شميت ثم طورت حين سقط جدار برلين في 1989 إلى تسوية شاملة مع روسيا سمحت بتوحيد الألمانيتين بقيادة مستشار الوحدة الألمانية المسيحي الديمقراطي هيلموت كول ومعه الحزب الحزب الديمقراطي الحر برئاسة وزير الخارجية المحنك هانس ديتريش جينشر.
هي شهادة إفلاس للأحزاب التقليدية، أحزاب يسار ويمين الوسط، حين يخرج سياسيون من حزب اليسار وحزب البديل لألمانيا ليترحموا على إرث برانت وشميت مع الاتحاد السوفييتي السابق وتسويات كول مع غورباتشوف ويلتسين وتفاوض المستشارين غيرهارد شرودر وأنجيلا ميركل مع بوتين وحفاظهم جميعا على السلام داخل أوروبا.
وإلى جانب إرسال السلاح الألماني إلى ساحة الحرب الروسية ـ الأوكرانية وتوريط دافعي الضرائب في سباق تسلح مجنون لم تعرفه جمهورية بون-برلين منذ تأسيسها، ثمة تقلبات عنيفة أخرى في المجالات الاقتصادية والاجتماعية ترتبط بأزمة الطاقة الحالية وتداعياتها.
فقد رتبت العقوبات الأوروبية على صادرات النفط والغاز الطبيعي الروسية ارتفاعا كبيرا في أسعار الطاقة في القارة العجوز ودفعت كافة دولها باستثناء تلك المنتجة والمصدرة للنفط والغاز إلى إعادة النظر في خطط التوقف عن إنتاج الطاقة من المفاعلات النووية ومن الموارد الملوثة للبيئة كالفحم. ألمانيا، يعني ذلك بحث الحكومة الحالية وبعد أن كانت قد أقرت إغلاق المفاعلات النووية بحلول 2030 والامتناع عن استخدام القمح لتوليد الطاقة وإغلاق المحطات الكهربائية العاملة به بحلول 2025 عن توافقات وجداول زمنية جديدة لكيلا تتعرض البلاد لهزات إضافية بسبب العقوبات المفروضة على الطاقة الروسية. في هذا السياق، وجد حزب الخضر، الشريك الراهن في الائتلاف الحاكم والذي جعل من «التحول الأخضر» في مجال الطاقة هدفا رئيسيا له، نفسه في وضع مأساوي.
فبينما يشارك ممثلو الخضر في الحكومة في تمرير قوانين تعدل جداول الخروج من الطاقة النووية والطاقة الأحفورية (الفحم) وتطيل عمر المفاعلات والمحطات، تتمرد القاعدة الشعبية للحزب على القرارات وتبحث عن مواجهة القوانين الحكومية باحتجاجات واسعة وتعلن «خيانة» سياسيي الحزب لمبادئه.
وقد جسدت كل ذلك قرية صغيرة في غرب ألمانيا في ولغير شمال الراين-ويستفاليا، قرية «ليتسرات» التي شهدت احتجاجات للمدافعين عن البيئة والرافضين لتلويثها بطاقة الفحم الذين احتلوا منجم للفحم معطل عن العمل والبنية الصناعية المرتبطة به للحيلولة دون تشغيله وحدثت مواجهات بينهم وبين الشرطة الألمانية التي أخلت القرية خلال الأيام الماضية. جسدت ليتسرات الابتعاد الخطير بين أنصار البيئة وبين الحزب الذي يعيش سياسيا عليهم ويفترض أن يمثلهم حكوميا وبرلمانيا وتحولت بذلك إلى أزمة وجودية للخضر الذين باتت هويتهم مهددة ومحل مزايدات من أقصى اليسار الذي يسعى للسيطرة على الأجندة التقدمية للبيئة مثلما يزايد أقصى اليمين على الخضر وكافة الأحزاب التقليدية في يسار ويمين الوسط فيما خص رفض الحروب ورفض توريط السلاح الألماني في الصراعات والنزاعات العسكرية. والنتيجة هي ارتفاع مؤشرات شعبية أقصى اليسار واليمين وفقا لاستطلاعات الرأي الأخيرة.
صارت ألمانيا مجتمعا قلقا وسياسة ذات تقلبات عنيفة وهوية ضائعة. وحتما لن تتأخر التداعيات الأوروبية للتحولات الألمانية. هذه فترة ذات أخطار جمة وتحديات وجودية ونظام عالمي مأزوم، وليست التقلبات الألمانية سوى سكب الزيت على النار المشتعلة بالفعل.
القدس العربي