بعد عمل استمر لنحو عام، أعلنت «الطاولة السداسية» عن «نص توافقي» بصدد السياسات التي تنوي اتباعها في حال فوزها بالسلطة. اشتمل النص المؤلف من 240 صفحة على 2300 مادة تناولت مختلف جوانب السياسة في تركيا، وعبرت عن رؤية توافقية بين ستة أحزاب بأيديولوجيات مختلفة، وغابت عنها جوانب من المحتمل أن سبب غيابها هو عدم التوافق بشأنها، في حين ظهرت موضوعات أخرى بشكل سطحي للسبب ذاته.
يمكن القول إن أبرز وعود النص هو استعادة النظام البرلماني «المعزز» بعد خمس سنوات من النظام الرئاسي الذي أدى، في رأي هذه الأحزاب، إلى مشكلات كبيرة سببها تفرد رجل واحد برسم مصير البلد، هو فوق ذلك زعيم حزب ولا يعبر، في رأيها، عن الوحدة الوطنية، بل يعمق الاستقطابات الحادة في السياسة والمجتمع.
وقد ذهب بعض المعلقين المحليين إلى أن هذا الوعد يعبر عن حنين لنظام ما قبل حكم حزب العدالة والتنمية، حين كانت للجيش الكلمة الأولى في السياسة، والخلافات الحادة بين الأحزاب السياسية تؤدي إلى قيام حكومات ائتلافية هشة لا تصمد لعهد حكومي كامل. في حين أن تكوين الطاولة السداسية بأحزابها المختلفة يمنع هذه العودة المفترضة إلى الماضي، بل يبني على إنجازات العشرية الأولى من حكم العدالة والتنمية التي تم التراجع عنها في العشرية الثانية وفقاً للمعارضة. من تلك الإنجازات التي لا رجعة عنها: انتهاء دور العسكر في الحياة السياسية، والمضي قدماً نحو تطبيق معايير الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والتمسك بعضوية حلف شمال الأطلسي ودورها الرادع بالنسبة للأمن القومي التركي، وتنشيط الدبلوماسية التركية لحل المشكلات مع الدول الأخرى، ولعب دور منتج الحلول بدلاً من المشاركة في الصراعات الإقليمية كطرف منحاز.
من المحتمل أن وجود كل من أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان في تحالف المعارضة هو الذي طبع النص التوافقي بهذه «العودة إلى العشرية الأولى» فهما صاحبا هذه النظرية. ولا يمكن القول إن حزب الشعب الجمهوري بقيادة كمال كلجدار أوغلو يريد العودة إلى ما قبل حكم العدالة والتنمية، فقد أمضى الرجل السنوات السابقة في مراجعة السياسة التقليدية للحزب نحو اتجاه أكثر انفتاحاً على البيئات المحافظة والكرد اللذين عانيا من تهميش عمره بعمر الجمهورية التركية. في حين أن الحزب الخيّر بقيادة مرال آكشنر هو الأكثر غموضاً لناحية رؤاه المستقبلية، بالنظر إلى تحدره من التقليد القومي المتشدد. صحيح ان آكشنر تسعى لاحتلال الموقع السياسي الشاغر لتيار «يمين الوسط» التقليدي، لكن قواعد الحزب تشدها نحو اليمين القومي. ولطالما كان هذا الحزب هو الحلقة الأضعف لتحالف المعارضة، وكثيراً ما سرت شائعات عن احتمال التحاقها بتحالف السلطة، وقبل بضعة أشهر دعاها دولت بهجلي للعودة إلى «الحزب الأم» الذي انشقت عنه قبل سنوات، كذلك فعل أردوغان الذي دعا الحزب الخير للانضمام إلى تحالف السلطة.
من تلك الإنجازات التي لا رجعة عنها: انتهاء دور العسكر في الحياة السياسية، والمضي قدماً نحو تطبيق معايير الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والتمسك بعضوية حلف شمال الأطلسي ودورها الرادع بالنسبة للأمن القومي التركي، وتنشيط الدبلوماسية التركية
لكن تلك الرهانات والشائعات فشلت جميعاً، وسيخوض الحزب الانتخابات في إطار التحالف المعارض. لكن خلافاً بينه وبين حزب المستقبل بقيادة داوود أوغلو أدى إلى تأجيل إصدار «خريطة طريق للفترة الانتقالية» كان من المفترض أن تصدر مع «النص التوافقي». فقد اقترح داوود أوغلو نظاماً للفترة الانتقالية يكون بموجبه زعماء الأحزاب الستة نواباً للرئيس يتقاسمون معه السلطة إلى حين إقرار النظام البرلماني المعزز.
وترفض آكشنر هذا الاقتراح لأنه برأيها لا سند دستوريا له، وسيكون بمثابة حكومة ظل لها سلطة تعلو سلطة مجلس الوزراء. اقتراحها البديل هو «مجلس استشاري» من زعماء الأحزاب بدلاً من صيغة «نواب الرئيس» الذين يتقاسمون قسماً من صلاحياته.
وغاب عن النص أي ذكر للقضية الكردية، وهي الجرح النازف لتركيا طوال القرن الماضي، ولا يمكن تصور مستقبل مشرق للبلاد قبل إيجاد حل سياسي مقبول لها. في هذه النقطة يمكن القول إن هذا الغياب سببه هو الحزب الخيّر، فالأحزاب الأخرى تملك مقاربات أكثر انفتاحاً بهذا الشأن، بما في ذلك «الشعب الجمهوري» ذو السجل التاريخي الأسود في اضطهاد وتهميش الكرد وقمع تمرداتهم.
موضوع اللاجئين السوريين ظهر بشكل عائم، بخلاف مواقف سابقة لكل من «الشعب الجمهوري» و«الخيّر» اللذين كانا يتسابقان في إعلان الرغبة في إعادتهم إلى بلدهم. من المحتمل أن انعطافة السياسة الرسمية التركية، في الأشهر السابقة باتجاه التطبيع مع نظام بشار بهدف إعادة ملايين اللاجئين السوريين، قد انتزع من أيدي الحزبين هذه الورقة، إضافة إلى دور كل من حزبي داوود أوغلو وباباجان وحزب السعادة الإسلامي في لجم الاندفاعة السابقة للحزبين المذكورين في استثمار موضوع اللاجئين. وكانت لافتة هامشية التطرق إلى الصراع السوري بآثاره الكبيرة على تركيا. فقد أكد النص على «ضرورة إحلال السلام في سوريا على أساس القرارات الأممية» وعلى وجوب التواصل مع جميع الأطراف المتصارعة ومع الحكومة السورية لتسهيل الوصول إلى السلام في هذا البلد.
ولاحظ بعض المعلقين على النص التوافقي ضآلة حجم السياسة الخارجية عموماً فيه لمصلحة الشؤون الداخلية. قد يعود ذلك إلى التباينات الإيديولوجية بين الأحزاب الستة التي تحول دون بلورة نموذج متكامل للسياسة الخارجية التي تعد المعارضة باتباعها. هناك تأكيد قوي على التمسك بعضوية حلف الناتو، والسعي إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، مع عدم إغفال وجوب إقامة «التوازن» في العلاقات مع كل من الولايات المتحدة وروسيا، ورفض لمتطلبات «التيار الأوراسي» أي التقارب مع روسيا و«منظمة شنغهاي للتعاون» على حساب العلاقة مع الغرب الأوروبي والأطلسي.
تبقى العقدة الأهم أمام الطاولة السداسية هي التوافق على مرشح موحد لمنصب الرئاسة، وهو ما وعدت بإعلانه في 13 شباط الجاري. أما «التحالف الديمقراطي» بقيادة حزب الشعوب الديمقراطي فقال إنه سيعلن مرشحه للرئاسة قبل هذا التاريخ، بما يعني فشل الجهود لتأمين دعم هذا التحالف لمرشح «السداسية» المرتقب.
القدس العربي