أنهى وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن زيارته للمنطقة، التي التقى خلالها مسؤولين مصريين وفلسطينيين وإسرائيليين، وغادر إلى واشنطن، مبقيا خلفه طاقما من مساعديه لمواصلة العمل لمنع التصعيد وللحفاظ على الاستقرار، ولفحص «أفكار جديدة» لاحتواء الأوضاع المشحونة. خلال تصريحاته الصحافية، كرر بلينكن المواقف الأمريكية المعهودة، بالتزام بلاده بالحفاظ على «أمن إسرائيل»، ورشحت من كلامه بعض الخلافات مع حكومة نتنياهو ومنها، قضايا الاستيطان والهدم والترحيل والضم وأفق حل الدولتين وإشكاليات التغييرات القانونية والقضائية. أمّا في رام الله فقد دعا بلينكن القيادة الفلسطينية إلى الحفاظ على الهدوء، في ظل الاحتلال وإلى الامتناع عما قد يزعج إسرائيل، وما قد يدفعها للانتقام من السلطة، ولم ينس الضغط عليها لإلغاء الإعلان عن وقف التنسيق الأمني.
تتلخّص مهمّة الطاقم الأمريكي، الذي أبقاه بلينكن خلفه، في التوسّط بين السلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال للتخفيف من التوتّر، ولنقل شكاوى طرف إلى الطرف الآخر، وكذلك لمواصلة العمل من أجل صنع سلّم مناسب للتراجع عن إيقاف التنسيق الأمني من جهة، ولإقناع إسرائيل بعدم القيام بخطوات استفزازية جديدة من شأنها أن تشعل الأوضاع المهيئة لذلك أصلا. الولايات المتحدة قلقة من «جنون» الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وتريد أن تحمي إسرائيل من طيشها، وهي غير راضية عن مخططات وسياسات حكومة اليمين المتطرّف لكنّها غير قادرة على لجمها من دون الدخول في صدام معها، وهي لا تريد مثل هذا الصدام وتوجّه ضغوطها على السلطة الفلسطينية، لتمنع أي رد فعل فلسطيني على الانفلات الاستيطاني العنيف وعلى إرهاب الدولة الصهيونية.
الولايات المتحدة قلقة من «جنون» الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وتريد أن تحمي إسرائيل من طيشها، لكنّها غير قادرة على لجمها
خلال أسبوعين كانت هناك زيارات متتالية لثلاثة مسؤولين أمريكيين كبار: مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان، ومدير وكالة المخابرات المركزية سي. آي. إيه، وليام بيرنز، ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن. وقد أبدوا جميعا تحفظا من بعض السياسات الإسرائيلية، وظهر وكأن هناك خلافا جديا بين الولايات المتحدة وإسرائيل. الحقيقة هناك خلاف لكنّه خلاف محدود داخل العائلة، فالعلاقة بين الطرفين أقوى وأعمق وأمتن من نقاشات عابرة. لقد تزامنت هذه الزيارات مع استعراض عضلات إسرائيلي مدعوم أمريكيا، تجلّى الأسبوع الماضي في المناورة الواسعة للجيشين الإسرائيلي والأمريكي، التي شارك فيها ما يربو على ثمانية آلاف جندي و142 طائرة متعددة الأنواع منها، قاذفات قادرة على حمل رؤوس نووية، وعشرات السفن الحربية من حاملات الطائرات والصواريخ والغواصات، وجرت المناورة في البحر وداخل إسرائيل. وتعد هذه المناورة المشتركة الأكبر والأضخم في تاريخ الجيشين، وأعلن الأمريكيون والإسرائيليون أنّها معدّة لرفع القدرات القتالية ولتوجيه رسالة تحذير لإيران، بأن الضربة العسكرية جاهزة وممكنة. وفي ظل مثل هذه المناورة تبدو انتقادات بلينكن المبطّنة والمباشرة لسياسات حكومة نتنياهو باهتة وهامشية، فالخلاف على السطح السياسي لا يمس العمق الأمني والاستراتيجي. وليس أقل أهمية من لقاء بلينكن نتنياهو، كان اجتماع رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال هرتسي هليفي وقائد المنطقة الوسطى الأمريكية الجنرال مايكل كورلا، على متن حاملة طائرات أمريكية لتلخيص المناورة العسكرية، التي ماثلت ضربة عسكرية لإيران. تنسجم المناورة العسكرية مع توجهات وزير الخارجية الأمريكية، بلينكن، الذي دعا في الماضي إلى المزيد من التدخل العسكري الأمريكي في سوريا، بمستوى اقل مما كان عليه في العراق، ولكن ليس بما يقارب الصفر، على حد تعبيره. وهو يرى أن العمل الدبلوماسي يجب أن يكون مصحوبا بقوّة عسكرية جاهزة للعمل عند الحاجة. وإسرائيل تعي جيّدا أن مكانتها في أعين أمريكية تتعلّق بقدراتها وبأدائها العسكري، وعليه جاء توقيت بعض العمليات العسكرية الإسرائيلية لنيل تقدير وإعجاب النخب العسكرية والسياسية الأمريكية، الزائرة والباقية في واشنطن. وفي مقال له بعنوان «من السكّين حتى النووي»، استعرض المحلل العسكري الإسرائيلي نير دفوري، النشاط العسكري الإسرائيلي خلال أسبوع، معدّدا التفجيرات في المنشأة العسكرية في إيران والمداهمة الإجرامية الدامية لمخيم جنين والعمليات العسكرية الجوية في غزّة والقصف الجوي على الحدود العراقية السورية والمشاركة في المناورة العسكرية الكبرى مع الجيش الأمريكي، وأضاف: «الأجهزة الأمنية تكرّس موارد كثيرة لشد الانتباه إلى كل هذه الجبهات معا، مع القدرة على تنفيذ عمليات نوعية. يجب التوضيح: الحديث عن قدرات لا تملكها أي دولة في العالم ولا حتى الولايات المتحدة. وأحد أسباب قدوم الأمريكيين إلى إسرائيل هو للتعاون في مثل هذه المسائل. هذا التعاون ليس مجرد رفع مستوى التنسيق، وليس فقط مناورات مشتركة، وما تقوم به إسرائيل مع الولايات المتحدة هو عمليات عسكرية مشتركة، مع تبادل معلومات مخابراتية حساسّة. التعاون أصبح عملياتيا بالكامل». وحتى لو كانت هناك بعض المبالغة في ما ذهب إليه هذا المحلل، فإنّه من الواضح أن التعاون العسكري الإسرائيلي الأمريكي يشهد تحوّلا دراماتيكيا بعد نقل مجال إسرائيل من نطاق القيادة العسكرية الأمريكية في أوروبا «اليوروكوم» إلى قيادة المنطقة الوسطى «سنتكوم»، التي تشمل الدول العربية. وتحت غطاء السنتكوم تحديدا تجري المناورات العسكرية الإسرائيلية الأمريكية وتتم عملية «دمج» إسرائيل في فضاء التعاون الأمني في المنطقة، الخاضع للرعاية الأمريكية. وقد لعب التطبيع العربي دورا أساسيا في تحويل إسرائيل إلى لاعب إقليمي شرعي في المجال العسكري أيضا. كان أحد أهداف الاقتحام الإجرامي لمخيّم جنين، هو تدريب قوّات الاحتلال على الحرب داخل المدن، واستعراض القدرات الإسرائيلية أمام أعين أمريكية، حيث تساهم إسرائيل في تدريبات الجيش الأمريكي على القتال في المناطق المأهولة، عبر دمج وسائل الاستطلاع والتنصت الإلكترونية والأسلحة الفتّاكة والمعلومات المخابراتية. كما تبجّحت إسرائيل بنجاح غاراتها على غزّة في النيل من قدرات حماس الصاروخية، ومن المؤكّد أنّها أرسلت للأمريكيين تقريرا عسكريا وافيا عن اقتحام مخيم جنين وعن قصف غزّة. إلى جانب الرضى العسكري عن أفعال إسرائيل، تظل الإدارة الأمريكية، ديمقراطية أو جمهورية، سياسيا داعمة للعنف الإسرائيلي بعد إدخاله إلى مغسلة الكلام التي تسمّى «حق الدفاع عن النفس»، بمفهومه المشوّه طبعا.
استعراض العضلات العسكرية الأكبر الذي قامت به إسرائيل على شرف زيارة المسؤولين الأمريكيين، وبالتزامن مع المناورة العسكرية المشتركة، كان قصف مصنع المسيّرات الانتحارية في قلب إيران، ونشرت وسائل الإعلام أنها تُنتج للاستعمال الروسي في الحرب ضد أوكرانيا. ومع أن إسرائيل حذرة جدا بكل ما يتعلّق بروسيا، إلا أنها تعمّدت نشر معلومات من دون أن تتحمل المسؤولية مباشرة. وقد تجلى ذلك في تلميحات نتنياهو الصريحة في مقابلته في سي. أن. أن، وفي تسريب معلومات حول إبداع تكنولوجي جرى تطويره خصّيصا لقصف مرفق إيراني بطائرات مسيّرة انطلقت من داخل إيران نفسها.
من مراجعة التصريحات والتسريبات والتحليلات كافة، التي نشرت بهذا الخصوص يمكن الاستنتاج بأن ما جرى هو ضربة عسكرية إسرائيلية إضافية ضد إيران جرى ويجري استثمارها كمساهمة في دعم أوكرانيا ضد روسيا، كما تريد الولايات المتحدة، أي أن إسرائيل لا تستطيع التدخل مباشرة في الحرب في أوكرانيا لكنها تعمل على تعطيل تسلّح الجيش الروسي بمسيّرات إيرانية. وعليه ليس صدفة إن أثنت أوكرانيا على العملية العسكرية الإسرائيلية، وليس صدفة أن يركّز بلينكن، خلال المؤتمر الصحافي مع نتنياهو، على التسلّح المتبادل بين إيران وروسيا. أما إسرائيل فهي تريد أن تربح كل العوالم تضرب إيران، وتتظاهر بالحياد أمام روسيا، وتحظى برضى الولايات المتحدة لاستهدافها التسلّح الروسي، وتعبّر عن استعدادها للوساطة كما صرح نتنياهو. لقد ركّزت إسرائيل في السنوات الأخيرة على مبدأ «الذُخرية»، أي أنّها ذخر لحلفائها، واقترح رئيس الأركان السابق وعضو الكنيست الحالي، جادي أيزنكوت، إدراجه ضمن المفاهيم الأساسية للأمن القومي الإسرائيلي. وهي تسعى اليوم لإثبات قدراتها العسكرية والمخابراتية والسايبرية، وطاقاتها الاقتصادية والتكنولوجية وحتى السياسية، وتوجّه رسالة إلى حلفائها في العلن وفي السر أنهم يفيدونها ويستفيدون منها في الوقت ذاته.
لقد انبهر بعض العرب بإسرائيل، وهم أكثر إعجابا بها كلّما أصبحت أكثر قوّة وعنفا وأكثر التصاقا بالولايات المتحدة، لكن عليهم أن ينظروا حولهم جيّدا، فإسرائيل ليست حالة ذخرية، بل حالة توريط في عداءات إسرائيل، ومن يتحالف معها يعرّض نفسه للخطر، وهي لن تدافع عنه عند الحاجة، إذ لا يمكن أن تعرّض جنديا إسرائيليا واحدا للخطر لأجل عيون أحد أمراء الخليج. أمّا الولايات المتحدة فهي على مفترق طرق، فإمّا أن تقع في فخ الذخرية الإسرائيلية، وتنجر نحو مواجهة مع إيران، وإما أن تفرمل هرولتها نحو تل أبيب وتبقي القرار الأمريكي في واشنطن وفق مصالحها. إسرائيل من جهتها تدعي بأن الولايات المتحد أصبحت معها ضد النووي الإيراني عسكريا أيضا.
القدس العربي