في الفترة التي برزت خلالها حركتا «العثمانيون الجدد» و»تركيا الفتاة» داخل الأراضي العثمانية، انقسم عالم الفكر في الغرب إلى قسمين، الكلاسيكيين والرومانسيين. وكان تأثير الرومانسيين تحت قيادة الأدباء يتزايد يوما بعد يوم في البلدان الغربية. ظهر الفكر الروماني لأول مرة في ألمانيا، وتوسع نطاقه لاحقا لينتشر في فرنسا عبر كتاب ألفته الكاتبة السويسرية المقيمة في باريس مدام دي ستايل، بعنوان «عن ألمانيا». وقاد هذا التيار يوهان فولفغانغ فون غوته وفريدريك شيلر في ألمانيا، وفرانسوا رينيه دو شاتوبريان وفيكتور هوغو في فرنسا. وساهم التيار الرومانسي في إعادة ألمانيا وفرنسا إلى جذورهما التاريخية. فقد عاد شعراء ألمانيا، مثل غوته وشيلر، إلى روح وجوهر المسيحية من جديد، ودعوا للعودة إلى التاريخ والتقاليد البشرية واختيار الموضوعات من بين الأبطال الشعبيين البسطاء والتخلي عن حياة الأمراء والأميرات.
وفي فرنسا، كتب فيكتور هوغو مسرحية تتناول قصة بطل تاريخي يدعى «هرناني»، وتسبب عرضها في مسرح في العاصمة باريس، في نشوب معركة كبيرة بين الرومانسيين والكلاسيكيين، حيث اقتحم أنصار الأدب الكلاسيكي المسرح أثناء عرض «هرناني» وقاموا بتخريب المكان، ثم عرف هذا الحدث في التاريخ باسم «معركة هرناني». كان الإنسان وفق التصور الكلاسيكي، لا يملك نقاط ضعف، ولا يبكي، ولا يتكلم بطريقة غير منطقية، ولا يكون مضحكا. وجاء التيار الرومانسي ليهدم ويقلب هذا التصور رأسا على عقب.
أمّا رواية «البؤساء»، فكانت أكثر روايات هوغو تأثيرا في الغرب، وترجمت هذه الرواية إلى اللغة التركية باسم «حكاية المغدورين» في البداية وتغير لاحقا إلى «البؤساء». وهي تحكي قصة رجل يمارس السرقة ليؤمن معيشته. وفي الواقع، تجسد النسخة الذكورية لقصة امرأة مرت بالنبي عيسى (عليه السلام)، أي قصة مريم المجدلية، المسماة في الغرب ماريا المجدلية، مع عيسى. ويتحدث عنها نامق كمال، أحد قادة حركة «العثمانيون الجدد» (أو العثمانيون الشباب)، في روايته «مغامرة علي بك» التي تحمل أيضا اسم «انتباه» وتعنى النهضة. ويقول نامق كمال: «تمكنت من الصعود إلى سفح البؤساء عبر كتابة رواية انتباه».
كان هدف «تركيا الفتاة» منع تمزق وتفكك الإمبراطورية العثمانية، وكانوا يريدون تعيين سلطان مكان عبد الحميد والانتقال إلى النظام الدستوري في الحكم
دخل مفهوم «الوطن» و»الوطنية» أراضي الدولة العثمانية من خلال الفكر الرومانسي. ومثلما اكتشف الألمان والفرنسيون ثقافتهم الوطنية، من خلال التيار الرومانسي، اكتشف نامق كمال وأبناء جيله التاريخ القديم للدولة العثمانية والشعب التركي (ليس تاريخ ما قبل الإسلام) بتأثير الرومانسية أيضا. وفي هذه الفترة، ألف نامق كمال مسرحية بعنوان «مسرحية «الوطن أو سيليسترا»، إذ يتحول الوطن بالنسبة إليه إلى قطعة أرض تتطلب الحماية بدلا من فتح بلدان أخرى. وفي وقت لاحق، ألّف كتابين رائعين آخرين، أحدهما كان مسرحية «جلال الدين خوارزم شاه» والآخر رواية «جزمي». يروي في روايته الأولى قصة جلال الدين خوارزم شاه الذي دافع عن الوحدة الإسلامية وحارب المغول. ويشرح في مقدمتها بالتفصيل معنى فن المسرح وطبيعته وتأثيره وأسباب نشوئه. أمّا رواية جزمي، فإنها تسلط الضوء على تجارب الجندي الوطني جزمي، الذي شارك في الحرب ضد الإيرانيين إبان عهد السلطان سليم الثاني. ومقدمة رواية جزمي أشبه بإعلان لقيام الاتحاد الإسلامي. اكتشف نامق كمال شيئا آخر بجانب مفهوم الوطن؛ ما هي الروح التي انبثقت منها الدولة العثمانية؟ ثم ركّز على هذا الشيء وأنشأ مفهوم «العثمانية». وكتب أبياتا شعرية غير مسبوقة في هذا الصدد، من بينها على سبيل المثال: «نحن العثمانيون، نفدي أرواحا وننال شهرة»، و»أنشأنا دولة تحكم العالم من قبيلة صغيرة». وعكس هذه الأبيات نظرة نامق كمال الرومانسية تجاه التاريخ العثماني. وإلى جانب كل ذلك، تعتبر «الحرية» واحدة من أهم السمات التي اشتهر بها نامق كمال.
مؤسسو حركتي «العثمانيون الشباب» و»تركيا الفتاة»، استكشفوا الأندلس من جديد أثناء دراستهم للدولة العثمانية المهددة بالانهيار. ويلفت «مجلس العلوم» في الدولة العثمانية الذي كان يشبه البرلمان في العصر الأندلسي، انتباه شريحة المثقفين بشكل كبير. ثم يؤلف ضياء باشا كتابه «تاريخ الأندلس» بذوق أدبي رائع عبر تجميع مقتطفات من المؤلفات الفرنسية والعربية. ويقول ضياء باشا في مقدمة الكتاب: «لو لم تشع الأندلس نورا، فمن كان سيوقظ أوروبا من سبات جهلها؟».
وبعد ترجمة كتاب «روح القوانين» للكاتب الفرنسي مونتسكيو، دخلت فكرة القانون هذه المرة الأجندة المطروحة في الشارع العثماني. ويقول شناسي في هذا الصدد: «قانونك هو بمثابة وثيقة حرية للإنسان. قانونك يجعل حتى السلطان يعرف حدوده». وفي الفترات اللاحقة، يحتدم النقاش حول «صحيفة المدينة» التي كانت في عهد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، وكتاب «المدينة الفاضلة» للفارابي. ثم يبدأ أعضاء «تركيا الفتاة» باستخدام عبارة «يا رئيس الجمهور الفاضل»، في رسالاتهم إلى الصدر الأعظم آنذاك رشيد باشا، وبذلك ينتقل النقاش إلى مصطلحات الجمهور والشورى والديمقراطية. وتم في الفترة نفسها اعتماد مفهوم الدستورية التي تتعارض مع الشريعة ضمن المصطلحات المستخدمة في البلاد. كما اكتشف هؤلاء التاريخ الإسلامي من جديد، وبدأوا بطرح تحليلات جديدة للتاريخ. وتظهر آثار هذه النقاشات بشكل واضح في البلدان العربية. وفي الفترة ذاتها، برزت قراءات وتحليلات جرجي زيدان، للتاريخ. وكانت شخصيات من حركتي «العثمانيون الشباب» و»تركيا الفتاة»، مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، تتمتع بفكر سلفي حديث. وتصاعدت أيضا حينها نقاشات حول مفهوم «أهل الذمة» في الفقه الإسلامي. ويقول الأمير صباح الدين عن أهل الذمة، «إنهم إخوتنا في الشؤون الدنيوية. هم يذهبون إلى الكنيسة ونحن إلى المسجد». وكذلك ألف أحمد رضا، أحد قادة الجناح الغربي في «تركيا الفتاة»، كتابا باللغة الفرنسية تحت عنوان «الإفلاس الأخلاقي للسياسة الأوروبية في الشرق». كما برزت في تلك الفترة مجموعة من الأشخاص عرفوا بـ»المقتبسين»، مثل منيف باشا، الذي كان من أهم رجال السياسة في الدولة العثمانية. ودعا هؤلاء إلى قبول المؤسسات والمفاهيم الغربية (الحضارة الغربية) كما هي من دون أي تدخل، باستثناء الدين. ومثلما هو الحال بالنسبة إلى العثمانيين الجدد، كانت أنصار تركيا الفتاة، تنظر إلى جميع النماذج التنموية في الحضارة الغربية على أنها انعكاس للحضارة الشرقية. وكانوا يؤمنون بأن أخذ أي شيء من الحضارة الغربية يعد في الواقع استعادة لما هو مسروق من حضارتهم.
خلاصة الكلام؛ كان أعضاء «تركيا الفتاة» يقلدون أفكار العثمانيين الجدد، وتمثل هدفهم الأكبر في منع تمزق وتفكك الإمبراطورية العثمانية. وكانوا يوجهون انتقاداتهم للسلطان عبد الحميد بشكل مباشر لأنهم أرادوا تعيين سلطان آخر مكانه والانتقال إلى النظام الدستوري في الحكم. والغالبية العظمى من أعضاء «تركيا الفتاة» البعيدين عن الشعب، كانت تريد تشكيل طبقة من «النخبة». وكان لدى الحركة تأثير داخل الجيش العثماني أيضا، وكانت مقسمة إلى جناحين؛ مدني وعسكري.
القدس العربي