في بدايات القرن الـ20 كان جون ريث، وهو ابن قس اسكتلندي، يبحث عن أخبار لا تسيطر عليها الحكومات ولا الشركات، فغامر بتأسيس إذاعة ممولة من الناس صارت “بي بي سي” وكان هو أول مدير لها. مغامرة ريث قدمت إلى الناس تجربة بث أخبار حول الأحداث في العالم كما تقع من دون حذف ولا إضافة ولا تزوير ولا حجب. وصار من لا يعرف حقيقة ما يحدث في بلده من خلال الاستماع إلى إذاعته وقراءة صحفه يستمع إلى “بي بي سي” ليعرف ما حدث وكيف ولماذا؟ ويتعمق في المعرفة عبر تحليلات يقدمها متخصصون وخبراء.
بعد 84 عاماً على “بي بي سي عربية” كفرع من “بي بي سي” جاء قرار التوقف والتخلي عن إذاعة الأخبار على موجات الأثير والاكتفاء بالبث الرقمي. وهذا ما أثار كثيراً من الحزن والحنين والذكريات، على رغم أن المستوى الرفيع الذي تميزت به “بي بي سي” تبدل في الأعوام الأخيرة، والشخصيات اللامعة التي وقفت خلف الميكروفون ذهبت لتحل مكانها نماذج لم تتدرب على طريقة “بي بي سي” الصارمة في اللغة واللهجة التي لا تشبه لهجة أي بلد عربي بشكل خاص.
ومتى؟ حين ساءت الأمور أكثر مما هي سيئة وسط سيطرة الأيديولوجيات والصراعات والمصالح السلطوية على الأخبار، إذ أضيفت إليها شبكات مثل “فيسبوك” و”تويتر” وسواهما “تقدم الأخبار كعملية تجارية، مما أدى إلى نظرة ضيقة ومخيفة للعالم”، كما قال كريستيان هاريس. حتى الرئيس الأميركي جو بايدن خاض معركة مع “فيسبوك” أيام جائحة كورونا على خلفية “أخبار زائفة عن اللقاحات لعبت دور القاتل مع تزايد الإصابات وتخويف الناس منها”.
المشكلة الأكبر هي ما أصاب “التواصل الاجتماعي” على الشبكات الرقمية وصار نوعاً من “التشاتم الاجتماعي”. تشاتم بين ما سمي “الذباب الإلكتروني” الذي يهاجم جهة ما ونظيره الذي يدافع عنها ويرد على الهجوم. وكله غب الطلب، ذلك أن الدور الإيجابي الذي قدمته شبكات التواصل طغى عليه نظيره السلبي الخطر، الأول هو الحصول على المعلومات بسرعة من “غوغل” وسواها، إضافة إلى التعارف بين الناس في كل مكان بحيث بدا العالم “قرية كونية” بالفعل. أيضاً وضعت الحكام تحت رقابة الناس بلا خوف. شيء جعل السلطة في أي بلد تواجه مثل ما كان أيام “الدولة – المدينة” حيث يجتمع مواطنو أثينا مثلاً في”الأغورا”، أي الساحة، ويناقشون كل الأمور ويصوتون بالأكثرية على كل موضوع مهم.
والأخير هو نشر التفاهة والسخف والأكاذيب، فحين صار كل مواطن صحافياً يرسل ما يريد عبر الشبكات من آراء وأخبار طغى التزوير والكذب والتسخيف من دون رقابة مثل التي في الصحف الورقية أو الرقمية حيث يتم التأكد من الخبر قبل نشره. وعندما صار الكبار والصغار يقضون ساعات في “العالم الافتراضي” باتوا في غربة عن “العالم الواقعي” وأحداثه الحقيقية. وهذا ما يزرع الوهم في عقول جيل جديد بكامله.
هناك بالطبع من يرى في شبكات التواصل “هدية من السماء”، بحيث يستطيع أي ناشط الدعوة إلى تجمع أو تظاهرة في مكان محدد من دون أن يتعرض للمساءلة، بل إن التواصل يؤدي إلى تهميش الدور الذي يلعبه نواب الشعب في البرلمان ويدفعهم أحياناً إلى اتخاذ مواقف لا يريدونها وإلى شيء من النشاط بدل الكسل، لكن الشبكات ليست حرة تماماً. فقد خلقت نوعاً من كبار الأثرياء الجدد الذين يملكون سلطة الرقابة وحذف ما يرون أنه تحريض على العنف والكراهية. حتى رئيس مثل دونالد ترمب، حذفت “تويتر” و”فيسبوك” حسابه قبل أن تسمحا له بالعودة أخيراً، فضلاً عن أن السلطات في أي بلد تستطيع حجب شبكات التواصل خلال الأزمات. أليست “الحرب السيبرانية” اليوم هي أحدث أنواع الحروب؟ ألم تدخل أميركا الصراع على الجيل الخامس من التكنولوجيا في إطار الصراع الاستراتيجي والجيوسياسي مع الصين؟
مهما يكن، ففي أي شيء له وجه إيجابي وآخر سلبي، النار تفيد وتحرق. البرنامج النووي مصدر للطاقة وللتدمير. والعالم لن يعود للوراء.
اندبندت عربي