من المفارقات اللافتة في الموقف الرسمي الإيراني بعد الاعتداء بالطائرات المسيّرة على مجمع الصناعات العسكرية بالقرب من مدينة أصفهان وسط إيران ليل السبت الماضي أنه لم يتضمن أي إشارة إلى احتفاظ طهران بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين، على رغم إجماع المواقف الرسمية وشبه الرسمية على مسؤولية الحكومة الإسرائيلية عن هذا الاستهداف الأمني.
وإذا ما كانت الأجواء الإسرائيلية الداخلية، وبحسب ما كشفت المواقف والتقديرات الإعلامية أن الحكومة الإسرائيلية ناقشت إمكانات رد طهران والأهداف المحتملة في الداخل والخارج، إلا أنها لم تتوصل إلى حسم موقفها حول التوقيت المحتمل لمثل هذا الرد، في وقت أن الجانب الإيراني وفي رد فعل أولي تحدث عن تمسكه بحق الرد وسيفعل ذلك.
لا شك في أن الهجوم “المسيّر” على منشأة أصفهان ومصانع “هسا” الجوية شكل صدمة للنظام الإيراني وأجهزته السياسية والأمنية والاستخبارية سياسياً لأن الضربة تأتي بعد يوم واحد من تصاعد حدة التوتر السياسي والدبلوماسي مع الحكومة الأذربيجانية على خلفية الاعتداء الذي تعرضت له سفارة باكو في طهران، ووصف الرئيس إلهام علييف العملية بالعمل الإرهابي واتخذ قرار بإخلاء السفارة وسحب الدبلوماسيين، وأيضاً لأن الضربة جاءت في وقت كانت القيادة الإيرانية تستعد لاتخاذ موقف واضح من استئناف المفاوضات النووية بناء على الرؤية الأميركية والأوروبية التي حملها وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني في الزيارة المفاجئة لطهران.
أما في الجانب الأمني والاستخباري، فعلى رغم الإجراءات الواسعة والتدابير المشددة التي اتخذتها الأجهزة الأمنية وجهاز استخبارات حرس الثورة لحماية المنشآت النووية والعسكرية والحساسة، في ظل تعرض أكثر من منشأة في كرج غرب طهران ونطنز لهجمات مماثلة بالطائرات المسيّرة، فإن العملية الأخيرة تشكل خرقاً خطراً لهذه المنظومة الأمنية لأنها تفضح عجزها عن القيام بإجراءات وخطوات استباقية لمنع حدوث مثل هذه الهجمات، وألا يكون دورها لاحقاً يقوم على متابعة مصادرها، خصوصاً أن كل التقديرات الأمنية تشير إلى أن المسيّرات المستخدمة في الاعتداء الأخير أرسلت من داخل الأراضي الإيرانية ومن مناطق لا تبعد كثيراً من المنشأة المستهدفة.
وفي وقت كانت هذه الأجهزة في الاعتداءات السابقة تلجأ إلى توزيع الاتهامات لبعض دول الجوار بالتعاون مع الحكومة الإسرائيلية وتقديم تسهيلات لها لتنفيذ هذه العمليات، كما فعلت مع إقليم كردستان العراقي ولم تتردد في استهداف بعض المواقع والأماكن في محيط مدينة أربيل تحت ذريعة أنها مقار يستخدمها جهاز “الموساد” لإدارة عملياته ضد إيران، أو في اتهام جمهورية أذربيجان بالتعاون مع إسرائيل بفتح حدودها وأجوائها للقيام بهذه العمليات وإرسال المسيّرات، إلا أن هذه المرة توجيه مثل هذه الاتهامات ليس بهذه السهولة بعدما رفعت من مستوى تهديدها للإقليم العراقي، وأيضاً في ظل الأوضاع المتوترة بينها والحكومة الأذربيجانية التي ربما تدفع الأمور إلى حافة انفجار لا تريده طهران في هذا التوقيت، وفي ظل عدد من الملفات المفتوحة مع دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية حول الملف النووي والمفاوضات واتهامها بالتورط في دعم روسيا بالمعدات والأسلحة والمسيّرات التي تستخدم في الحرب على أوكرانيا.
في ظل هذا التشتت والمروحة الواسعة من التعقيدات، يبدو أن طوق الخلاص جاء هذه المرة في التغريدة التي نشرها مستشار الرئيس الأوكراني ميخايلو بودولياك وقال فيها إن “منطق الحرب مميت ولا هوادة فيه، ويصدر فواتير قاسية لأمرائها والمتواطئين. ليلة انفجارات في إيران بمصانع المسيّرات والصواريخ ومصافي النفط. سبق وجاء تحذير من أوكرانيا”.
وهذه التغريدة للمسؤول الأوكراني يبدو أنها جاءت استكمالاً وفي سياق تغريدة سبق أن نشرها في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2022 واتهم فيها إيران بأنها “تخطط لإمداد روسيا بمزيد من الأسلحة”، ودعا إلى “تدمير مصانع الأسلحة الإيرانية” رداً على التعاون الإيراني مع روسيا، معتبراً أن “إيران تخطط لتعزيز إمدادات الصواريخ والطائرات المسيّرة لروسيا”. وأضاف أن “طهران تستهزئ بالعقوبات الدولية” وأنه “من المهم التخلي عن العقوبات التي ليست لها جدوى، ومفهوم قرارات الأمم المتحدة غير الصالحة”، مطالباً المجتمع الدولي بالانتقال إلى “أدوات أكثر تدميراً وتصفية المصانع والقبض على موردي تلك الأسلحة”.
ومع التمسك الإيراني بتوجيه الاتهام دائماً لإسرائيل ومعها أميركا، واعتقادها باستبعاد إمكانية انزلاق التصعيد إلى مواجهة عسكرية، وأن أي حرب إسرائيلية ضدها لا بد من أن تكون بعلم وموافقة أميركيين، وهذا ما لا ترغب فيه طهران، وحتى لا تؤدي مواقفها التصعيدية إلى مزيد من التشدد الإسرائيلي بعد أن كشفت حكومة نتنياهو عن معادلة الردع التي ستعتمدها في مواجهة طهران على قاعدة، “ما نقوم به في سوريا سنعد مثله في إيران”، وجدت طهران في مواقف مستشار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي المخرج المناسب لها والذي يفتح الطريق أمامها على خيارات عدة.
فهذه المواقف المتكررة للمستشار بودولياك، تعطيها الذريعة لإيجاد عدو شريك لتل أبيب، يمكن أن تحمله جزءاً من المسؤولية عن الهجمات التي تعرضت لها، بالتالي تحتفظ بالمستوى القائم من التصعيد مع الحكومة الإسرائيلية ولا تعطيها الذريعة للقيام بمزيد من الضربات أو العمل على تحشيد المجتمع الدولي إلى جانبها وتغيير الموقف الأميركي المعلن في الأقل حتى الآن الذي لا يحبذ ولا يرغب في تطوير المواجهة مع النظام الإيراني إلى حرب محدودة أو مفتوحة، خصوصاً أنها تفضل إبقاء الأمور مع إيران في دائرة “العمليات التأديبية”.
وفي وقت تحاول طهران توظيف هذه المواقف الأوكرانية لإبعاد التهمة عنها بالتورط في الحرب إلى جانب روسيا نتيجة تزويدها بالطائرات المسيّرة وإمكانية أن تتطور الأمور لتزويدها بالصواريخ الباليستية، فإن رفع السقف واستدعاء القائم بالأعمال الأوكراني وتسليمه مذكرة احتجاج رسمية وطلب توضيحات لهذه المواقف، ترافق مع التلويح بإمكانية اللجوء إلى خيارات جديدة في التعامل مع أوكرانيا خلال المرحلة المقبلة، وهي مواقف صدرت عن مسؤول في المجلس الأعلى للأمن القومي نقلتها وكالة “نور نيوز” ولم تكشف عن اسمه، عندما أشار إلى أنه “إذا لم يصحح المسؤولون الأوكرانيون هذه المواقف، فإنهم سيواجهون رد فعل مختلفاً من طهران”، معتبراً أن إشارة مستشار زيلينسكي غير المباشرة إلى مشاركة بلاده في الهجوم على أصفهان “هو بمثابة اعتراف رسمي وله تبعات ويحمله مسؤولية، وتأكيد أوكرانيا على تهديد الأمن القومي الإيراني قد يدفع طهران إلى بحث موضوع تغيير مواقفها من الحرب الأوكرانية واتباع سلوك جديد يتناسب مع سلوك كييف”.
ما لم يقله هذا المسؤول وما يعبر عنه من الجدل الدائر خلف الكواليس في أعلى موقع معني بالأمن القومي الإيراني، قاله المستشار الإعلامي للفريق الإيراني المفاوض في الملف النووي محمد مرندي الذي تساءل “هل زيلينسكي يريد حقيقة أن يجرب القدرات التدميرية للمسيّرات والصواريخ ومختلف الأسلحة الإيرانية؟ هو حتماً سيندم على مثل هذه الحماقة”.
هذان الموقفان ربما يعبران عما يدور في الغرف المغلقة والمعنية بالقرار الاستراتيجي في النظام الإيراني وإمكانية توظيف كلام المستشار الأوكراني المتكرر في أقل من شهرين، وفي ظل ما تتعرض له أيضاً من ضغوط أوروبية ترجمها برلمان الاتحاد الأوروبي بإدراج حرس الثورة على لائحة المنظمات الإرهابية على خلفية دوره في القمع والحرب الروسية، كذريعة وغطاء لاتخاذ خطوة حاسمة تستخدم هذه الاتهامات والاعتراف الضمني بالمشاركة في الاعتداء على منشأة أصفهان وغيرها، للدخول الصريح في عملية دعم واضحة وعلنية لموسكو في حربها وتزويدها بالأسلحة والصواريخ بشكل علني ومكشوف من دون مواربة أو استخدام قفازات موقف الإدانة للحرب ورفضها والسعي إلى التوسط للحل والحوار الذي تعلنه الدبلوماسية الإيرانية.
لا شك في أن طهران تراقب وترصد بدقة ما تقوم به إسرائيل من إجراءات ومناورات عسكرية مشتركة مع القوات الأميركية، بخاصة المناورة الجوية الأخيرة التي جاءت كمحاكاة لهجوم على إيران، وترصد أيضاً المواقف السياسية للدبلوماسية الأميركية التي عبر عنها وزير الخارجية أنتوني بلينكن في زيارته لتل أبيب، الأمر الذي يدفعها إلى كثير من التروي في أي رد أو قرار الذهاب إلى المواجهة، إلا أن خيارها في استبدال تل أبيب بكييف وتفجير موافقها التصعيدية ضدها، ربما يكونان غير مضموني النتائج وقد لا يؤديان دورهما في تفريغ شحنة الإحباط من استباحة أمنها ومنشآتها الاستراتيجية، بخاصة إذا ما تورطت في خطوة تزويد روسيا بالصواريخ الباليستية. وهنا يأتي سؤال، هل سينجح زيلينسكي وفريقه في إخراج قيادة النظام الإيراني عن التزامها “الصبر الاستراتيجي” أمام الضغوط وجرها إلى حفرة التورط في الحرب ضد أوروبا؟ قد لا تكون الإجابة عن هذا السؤال سهلة ويسيرة، إلا أن الأيام ستكشف ذلك.
اندبندت عربي