وسط الغياب الكبير للتقارير الموثوقة في وسائل الإعلام الرئيسة عن الحرب في أوكرانيا، يقدم مايكل برينر إحاطة حول خلفية الحرب التي استلهمت المحافظين الجدد في أوكرانيا، ويعرض وجهة نظره حول الوضع الإستراتيجي الحالي.
* * *
لم يحدث أبدًا في الذاكرة القريبة أن كانت معرفة ما يحدث خلال أزمة دولية كبرى مسعى بالغ الصعوبة كما هو الحال مع قضية أوكرانيا.
وتدين هذه الحقيقة المحزنة بالكثير إلى الغياب التام للتقارير الصحفية الصادقة والتحليل التفسيري الموثوق من قبل وسائل الإعلام السائدة.
ويتم تزويدنا بمقادير كثيفة من الزيف، والخيال، والخلائط المشوشة، الممزوجة بشكل خام في سرد لا تكاد تربطه صلة بالواقع.
وقد أصبح الابتلاع شبه العالمي لهذه الحلوى ممكنًا من خلال التخلي عن المسؤولية -الفكرية والسياسية- من قبل الطبقة السياسية الأميركية، من أعلى وأقوى فئة في واشنطن نزولًا عبر مجرة من مراكز الفكر التي لا تفكر، والأوساط الأكاديمية المنغمسة في الذات.
والآن، يعمل فيلق كُتاب هذه القصة الخيالية بطاقة متجددة لدمج بعض العناصر الجديدة في السرد: قرار الرئيس جو بايدن/ حلف شمال الأطلسي حول إرسال مجموعة منتقاة من المدرعات لدعم القوات الأوكرانية المتعثرة؛ والأدلة المتزايدة على التفكيك التدريجي لجيش أوكرانيا وإصابته بالشلل على يد الجيش الروسي المتفوق.
كما هو الحال دائمًا، يتبين أن هذا النوع من رد الفعل هو تمرين في سلوك التجنّب والإنكار: سوف تكون ما يقرب من 100 دبابة التي من المقرر أن تصل أوكرانيا بالتدريج خلال العام المقبل “مغيرًا للعبة”؛ جيش بوتن هو “نمر من ورق” مثبت؛ “الديمقراطية” مقدر لها أن تسود وتنتصر على الهمجية الاستبدادية.
أو هكذا قيل لنا في جرعات تقلب الأمعاء من زيت الثعابين. أعتقد أن لدينا جميعا طرقًا لتسلية أنفسنا.
سوف يكون التفنيد المنهجي لهذا البناء الأسطوري عبثيًا وفائضًا عن الحاجة على حد سواء.
فقد اضطلع بهذه المهمة خلال العام الماضي محللون قادرون وذوو خبرة ودراية، يعرفون بالفعل ما يتحدثون عنه: العقيد دوغلاس ماكغريغور، والبروفيسور جيفري ساكس، والعقيد سكوت ريتر وحفنة من المحللين الآخرين الذين تقوم وسائل الإعلام السائدة بعزل تحليلاتهم في مواقع غامضة على الشبكة وتعاملها بازدراء.
على سبيل التمهيد، سوف أضيف تقييمي الخاص للصورة الاستراتيجية الحالية وإلى أين نحن متجهون.
وهو تقييم يعتمد على الاستدلال -إلى حد ما- بالإضافة إلى قراءتي لعلاقات الصراع. وسيتم تقديم الأفكار الرئيسة في عبارات تقريرية صريحة. ويبدو لي هذا ضروريًا لاختراق ضباب الافتراءات والتشويهات المحسوبة التي تحجب ما ينبغي أن يكون واضحًا.
نقاط البداية
كانت نقطة انطلاق الأزمة في شباط (فبراير) 2014، عندما ألهمت إدارة أوباما ودبرت انقلابًا في كييف، أدى إلى اغتصاب سلطة الرئيس المنتخب ديمقراطيًا، فيكتور يانوكوفيتش.
وكانت فيكتوريا نولاند، مساعدة وزير الخارجية الأميركي، هناك في ساحة “الميدان”، تقود جوقة التشجيع وتتواطأ مع شقيقها في الثورة الملونة، السفير جيفري بيات.
وقد تعاونا مع الجماعات القومية المتطرفة العنيفة التي كانت واشنطن تعمل بنشاط على تنمية العلاقات معها لعدد من السنوات.
ويهيمن هؤلاء المتطرفون الآن على جهاز الأمن الأوكراني، وهيئة السياسة الرئيسة للحكومة؛ مجلس الأمن، حتى يومنا هذا.
كان انقلاب “الميدان” تتويجًا للجهود من أجل تحقيق الهدف الأميركي المتجذر عميقًا، المتمثل في دمج أوكرانيا معادية لروسيا في المدار المنظماتي الغربي: حلف الناتو قبل كل شيء -كما سعى الرئيس جورج دبليو بوش إلى أن يفعل في وقت مبكر هو العام 2008.
كان إنشاء سياج حول روسيا يتم إبقاؤها على هوامش قارة أوروبية تتلقى التوجيه من أميركا هدفًا للولايات المتحدة منذ العام 1991.
وأدى ظهور زعيم روسي قوي وفعال للغاية، متمثلًا في شخص فلاديمير بوتين، إلى تسريع الحاجة المتصورة إلى جعل روسيا ضعيفة ومحاصرة.
في أوكرانيا، أدت انتفاضة/ انفصال دونباس، التي أثارها انقلاب “الميدان” إلى وصول عناصر مسعورة إلى السلطة في كييف، عاكفة على إخضاع 10 ملايين روسي أو نحو ذلك، إلى استقلال إقليمي دونيتسك ولوهانسك، بالإضافة إلى دمج شبه جزيرة القرم (التي تشكل، تاريخيًا وديموغرافيًا، جزءًا من روسيا) في الاتحاد الروسي.
ومنذ تلك اللحظة فصاعدًا، وضعت الولايات المتحدة، ونفذت، استراتيجية لتقويض كلا التحولين، وإعادة روسيا إلى مكانها ورسم خط فاصل واضح بينها وبين كل أوروبا الواقعة إلى الغرب منها.
وهكذا، أصبحت أوكرانيا محمية أميركية بحكم الأمر الواقع.
كانت الوزارات الرئيسة تغص بالمستشارين الأميركيين، بما في ذلك وزارة المالية التي يرأسها مواطن أميركي تم إرساله من واشنطن.
وتم تنفيذ برنامج ضخم لتسليح الجيش الأوكراني وتدريبه وإعادة تشكيله بشكل عام. (في سنوات الرئيس باراك أوباما، كان المشرف على المشروع هو نائب الرئيس في ذلك الحين، جو بايدن).
كما استخدمت واشنطن نفوذها لتقويض “اتفاقيات مينسك 2″، التي وقعت فيها أوكرانيا وروسيا على صيغة للحل السلمي لقضية دونباس، يفترض أنها تتمتع بضمانات وكفالة من ألمانيا وفرنسا، والتي أقرها مجلس الأمن الدولي.
ونحن نعلم الآن من الشهادات العلنية الصريحة أنها لم تكن لدى كييف وبرلين وباريس أي نية لتنفيذها منذ البداية.
وكانت الاتفاقيات بدلاً من ذلك مجرد أداة لكسب الوقت لتقوية أوكرانيا إلى النقطة التي يمكنها فيها استعادة الأراضي “المفقودة” عن طريق إلحاق هزيمة عسكرية بروسيا.
قامت إدارة بايدن بتحضير الاستعدادات لرفع التوترات إلى النقطة التي أصبح فيها الصراع المسلح أمرًا لا مفر منه. فقد ازداد القصف المتقطع لمدينة دونيتسك (حيث قتل 14 مدنيًا بين العامين 2015 و2020، وفقًا لتقدير رسمي صادر عن لجنة تابعة للأمم المتحدة) ليتضاعف عدة مرات، وتم تحشيد وحدات الجيش الأوكراني بأعداد كبيرة على طول الحدود المرسومة. وقامت روسيا بهجومها الاستباقي. والباقي التاريخ.
(كل ما ذُكر أعلاه مسجل في سجل علني وموثق)
أين نحن الآن؟
هنا، سوف يأخذ الاستدلال الأسبقية.
ألزمت إدارة بايدن نفسها بالتصعيد من خلال نشر أنظمة الأسلحة الثقيلة التي كان نشرها ممنوعاً سابقًا.
كما قامت بتسليح حلفائها في أوروبا الغربية بقوة من أجل أن يقوموا بتزويد الأسلحة هم أيضًا.
لماذا؟ لا يمكن للأشخاص الذين يقودون السياسة في واشنطن هضم احتمال التعرض لهزيمة؛ بمعنى تمكُّن روسيا من سحق الجيش الأوكراني، ودمج المقاطعات الأربع المزعومة، وبقية الرواية الغربية السخيفة التي أظهرت أنها لم تكن أكثر من سلسلة من الأكاذيب.
لقد تم استثمار الكثير من الهيبة، والمال، ورأس المال السياسي بحيث لا يمكن التسامح مع هذه النتيجة.
بالإضافة إلى ذلك، وكما تم استخدام أوكرانيا بطريقة خادمة للذات كأداة لتركيع روسيا، فكذلك حال تغيير طبيعة روسيا وإلغاء خصائصها كقوة يُنظر إليها باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من المواجهة العالمية مع الصين، التي تهيمن على كل التفكير الاستراتيجي.
تم على الفور رفض خيار العمل على توفير شروط التعايش والمنافسة غير القسرية مع الصين. وكانت الطبقة السياسية الأميركية بأكملها تقريبًا عازمة على تعزيز الهيمنة العالمية للبلد وشرعت في إعداد نفسها للقيام بذلك.
أما بقية البلد فلم يتم إبلاغها بحقيقة النوايا بعد، وهي مشتتة للغاية بحيث لا تكلف نفسها عناء الانتباه إلى العلامات البديهية لما كان جاريًا على قدم وساق.
كان قد وضع البرنامج الاستراتيجي في مذكرة آذار (مارس) 1991 سيئة السمعة بول وولفويتز، وكيل وزارة الدفاع لشؤون السياسة آنذاك، حول منع صعود أي قوة عظمى منافسة.
وأصبح ذلك بمثابة الكتاب المقدس لمعظم مجتمع السياسة الخارجية في الولايات المتحدة.
(محتويات المذكرة، جنبًا إلى جنب مع نشأة المحافظين الجدد الذين تبنوها منذ فترة طويلة سابقة ككتاب مقدس، صنعا التحول التاريخي من كون ذلك عقيدة لطائفة واحدة فقط إلى كونه الإيمان العقائدي شبه الرسمي للإمبريالية الأميركية بأكملها).
لم يزعج الفشل المطلق في تحطيم الاقتصاد الروسي، وبالتالي فتح الطريق أمام التغيير السياسي في موسكو، وجعل التحاقه بالقوة الصينية أمرًا مخيبا للآمال؛ هؤلاء المؤمنين الحقيقيين.
لقد وحَّدت الولايات المتحدة غربًا جماعيًا كان جامحًا وساخطًا، وجندته كبيادق راغبة في الإذعان لأي تحركات تريد واشنطن منهم أن يتبعوها.
كان الحدث البارز الذي أشر على تلك التبعية غير العادية هو موافقة ألمانيا على السماح للولايات المتحدة (وشركائها) بتفجير خطوط أنابيب نوردستروم، التي اعتبرتها حكومات برلين المتعاقبة ضرورية لتلبية احتياجات الصناعة الألمانية من الطاقة.
ويستطيع المرء أن يبرر ذلك على أنه استعداد المستشار أولاف شولتس لـ”التضحية من أجل الفريق”. أي فريق؟ ما هي المصلحة الوطنية الكبيرة؟ لا تحتفظ سجلات التاريخ بأي حالة مماثلة لدولة ذات سيادة تُلحق مثل هذا الضرر الشديد بنفسها بمحض إرادتها.
وثمة ميزة إضافية من قضية أوكرانيا، في نظر صناع السياسة الأميركيين، هي تبلوُر نظام دولي هيكله التأسيسي ثنائي القطب -عالم “نحن مقابل هم” مشابه للحرب الباردة- والذي سيكون مريحاً طالما أنه لا يضع الكثير من المطالب على الخيال الفكري أو الدبلوماسية الماهرة التي ليس لديهم حماس ولا شهية لها.
في النهاية، وقّع جميع أعضاء الغرب الجماعي على خطة بايدن التصعيدية. وكذلك الحال بالنسبة للفصائل المهيمنة في حكومة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
ثمة سبب وجيه للاعتقاد بأن الغرض من زيارة مدير وكالة المخابرات المركزية، ويليام بيرنز، المفاجئة إلى كييف قبل أيام قليلة من الإعلان عن نشر دبابات “أبرامز” الأميركية هناك هو ضمان عدم وجود منشقين بين أعضاء الدائرة الداخلية لزيلينسكي أو غيرهم من كبار المسؤولين الذين قد يشعرون بالفتور إزاء احتمال أن تصبح أوكرانيا ساحة معركة لحرب روسية أميركية، تكون ذات آثار مماثلة للتي عانت منها البلاد من العام 1941 إلى العام 1944.
وأعقبت زيارة بيرنز على الفور تقريبًا عملية تطهير واسعة النطاق لصفوف القيادة الأوكرانية، إلى جانب مسؤولين في المستويات الأدنى.
وكان الموقف الرسمي، الذي قبلته وسائل الإعلام الغربية السائدة دائمة الإذعان، هو أن هذا التطهير يشكل حملة حميدة لمكافحة الفساد -وإن كان ذلك يجري في خضم حرب كاملة النطاق.
قيل لنا أن بيرنز جاء على هذا النحو لتوضيح بعض المشكلات البسيطة (وربما للتبرك)؟ فقد أصبح زيلينسكي نفسه أصلًا كبيرًا باعتباره المنقذ المبشَّر به لأوكرانيا بحيث لم يعد من الممكن التخلص منه- كما كان حال نجو دينه ديم في فيتنام في العام 1963.
لا شك في أن بيرنز قدم ضمانات له بأنه سيكون آمنًا– أما كل شخص آخر فسيتم إلقاؤه في البحر. من شبه المستحيل أن نرى كيف يمكن تحقيق أهداف الولايات المتحدة في أوكرانيا. ومع ذلك، فإن المحافظين الجدد ليس لديهم “غيار رجوع إلى الخلف” -باستخدام عبارة المحلل ألكسندر ميركوريس الموفقة.
لقد حرضوا على حملة عنيفة تهدف إلى تأمين هيمنة أميركا العالمية- قريبًا وإلى الأبد. وأوكرانيا هي مجرد محطة على الطريق إلى تلك القدس الرؤيوية. ومع ذلك، فشلوا– أثناء تصميم مخططهم الكبير- في تكلف عناء وضع إستراتيجية متماسكة وممكنة التحقيق لحل الأزمة.
أما الرئيس جو بايدن، فيبدو مسؤولاً اسميا فقط. لقد سيطر عليه بالكامل المحافظون الجدد. وهو لم يعد يسمع أي أصوات أخرى. وبصفته صقرًا بالغريزة مدى الحياة، فإنه يميل في اتجاههم.
وهو بالإضافة إلى ذلك مُسنّ وضعيف.
قبل نهاية العام، من المرجح أن نواجه جميعًا لحظة الحقيقة. سوف تكون القوات الروسية على نهر الدنيبر، وفي بعض الأماكن، أبعد منه. وسيكون الجيش الأوكراني في مراحله الأخيرة -أبرامز، ليوبارد 2، تشالنجر، برادلي، إلخ. ما الذي ستفعله عندئذٍ حزمة دبابات بايدن المخدوع والعاجز؟ كل شيء ممكن.
*مايكل برينر
الغد