يعيش نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وقت وقف التنفيذ. فمجرى التاريخ يتحول وكل شيء، من التقدم الأوكراني على أرض المعركة إلى الوحدة الغربية والحزم المستمرين في وجه عدوانية بوتين، يشير إلى أن سنة 2023 هي سنة حاسمة. فإذا بقي الغرب متماسكاً، فمن المرجح أن ينهار نظام بوتينفي مستقبل قريب. بيد أن هناك بين شركاء أوكرانيا الأساسيين من لا يزال متلكئاً عن تزويد كييف بالأسلحة التي تحتاجها كي تسدد الضربة القاضية. وتبدو إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، على نحو خاص، تخشى الفوضى التي قد ترافق هزيمة الكرملين الساحقة. وعليه، رفضت هذه الإدارة إرسال الدبابات، وأنظمة الصواريخ البعيدة المدى، والمسيرات التي تسمح للقوات الأوكرانية بنقل القتال إلى عمق أراضي العدو، واستعادة الأراضي الأوكرانية، وإنهاء الحرب.
ونهاية حكم بوتين الاستبدادي ستؤدي، بالتأكيد إلى تغير روسيا جذرياً (كما باقي العالم)– لكن ليس على النحو الذي يراه البيت الأبيض الآن. فالنصر الأوكراني، بدلاً من زعزعة استقرار روسيا وجيرانها، يزيل قوة ثأرية عنيفة، ويعزز قضية الديمقراطية ومكانتها في أنحاء العالم. ويعمل الروس المؤيدون للديمقراطية، الذين يرفضون توتاليتارية بوتين- وكاتبا هذه المقالة منهم- وسعهم لمساعدة أوكرانيا على تحرير جميع أراضيها المحتلة واستعادة وحدتها داخل حدودها المعترف بها دولياً سنة 1991. ونحن نضع الخطط لليوم الذي يلي سقوط بوتين. فـ”هيئة العمل الروسية”، وهي تحالف يضم مجموعات المعارضة في المنفى، أعلنت عن تأسيسها في شهر مايو (أيار) 2022، وتسعى إلى ضمان تعويض عادل لأوكرانيا على ما تسبب به عدوان بوتين، وإلى محاسبة جميع مجرمي الحرب، والانتقال بروسيا من ديكتاتورية مارقة إلى جمهورية فيدرالية برلمانية. وعليه، فينبغي ألا يخيف اقتراب حكم بوتين من نهايته أحداً، بل ينبغي الترحيب به، واحتضان التغيير الموعود.
ولا شك في أن محاولات بوتين وجهوده لاستعادة إمبراطورية روسيا السالفة، مصيرها الفشل. لذا فالوقت الآن مهيأ للانتقال إلى الديمقراطية، وتوزيع السلطة على المناطق والأقاليم ونقلها إليها. وكي تتحقق هذه التحولات السياسية ينبغي دحر بوتين عسكرياً في أوكرانيا. وسوف تبدد الهزيمة الساحقة في أرض المعركة هالة بوتين الذي لا يقهر، وتظهره مهندساً لدولة فاشلة، وتُظهر هشاشة نظامه أمام التحديات التي يواجهها في الداخل.
الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، قادر على تأمين الدعم العسكري والمالي لتعجيل الأمر المحتوم، ووضع أوكرانيا على سكة نصر سريع. إلا أن إدارة بايدن لم تُجمِع بعد على نهج واضح لإنهاء الحرب. ويرى بعض المسؤولين الأميركيين أن على كييف التفكير في التنازل عن بعض أراضيها في مقابل السلام– وهي أفكار واقتراحات غير مضمونة أصلاً. وقد أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بوضوح أن الشعب الأوكراني لن يقبل بهكذا صفقة. وأي تنازل عن أرض لمصلحة بوتين سيقود حتماً، وعلى الفور، إلى حرب أخرى. وإحجام الولايات المتحدة عن تزويد أوكرانيا بالأسلحة الضرورية مرآة لخوف من العواقب المترتبة على هزيمة كاسحة تمنى بها روسيا في أوكرانيا. وكثيرون في إدارة بايدن يرون أن سقوط بوتين قد يؤدي إلى انهيار روسيا، ويُغرق دولة تملك الأسلحة النووية، في الفوضى، وقد يعزز قوة الصين ومكانتها.
عدوانية بوتين كشفت حال عدم الاستقرار المتأصلة في نموذجه السياسي.
وهذه المخاوف لا تخلو من المبالغة. فخطر الانهيار الروسي حقيقي طبعاً. ويفوقه خطراً بقاء بوتين في السلطة– وحمله البلاد على مزيد من النزعات المركزية والعسكرية– ويفوق الخطر الناجم عن نظام ديمقراطي وفيدرالي. وكلما طال بقاء النظام الحالي في السلطة، تعاظم خطر حدوث انقسام لا يمكن التنبؤ بنتائجه. وكشفت عدوانية بوتين حال عدم الاستقرار المتأصلة في نموذجه السياسي، وهو نموذج يقوم على الحاجة إلى مواجهة أعداء خارجيين. ومافيا الكرملين هذه، بعد أن حولت روسيا إلى مسرح لخططها العسكرية، هددت سلفاً باستخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا. لذا، على واشنطن ألا تخشى سقوط نظام بوتين، بل ينبغي أن تخشى بقاءه في السلطة. فطوال عقدين تقريباً زعم بعض المحللين الغربيين أن الشعب الروسي يلفظ الديمقراطية، وأن نازع روسيا إلى الثأر هو قدرها المحتوم. ونجحت البروباغندا البوتينية، فعلاً، في غرس وجهة نظر، داخل شريحة واسعة من المجتمع الروسي، تزعم أن القيم الغربية هي قيم غريبة عن روسيا ولا تلائمها. إلا أن التكامل الاقتصادي مع الغرب مكن دولاً أخرى من تجاوز إرثها الفاشي. لذا، فإن تكاملاً أعمق مع أوروبا، مقروناً بتخفيف مشروط للعقوبات الغربية، يمكن أن يساعد روسيا اليوم على القيام بالأمر ذاته.
وفي أعقاب هزيمة بوتين العسكرية على روسيا أن تختار: إما أن تتحول إلى دولة خاضعة للصين، وإما أن تشرع في تجديد اندماجها في أوروبا (بعد أن تسدد تعويضات لأوكرانيا على الأضرار التي ألحقتها بها خلال الحرب، وعاقبت المسؤولين عن الجرائم). وخيار معظم الروس لجانب السلام والحرية والازدهار هو الأرجح– والإسراع في إعادة إعمار أوكرانيا سيجعلهم ينحون أكثر في اتجاه الخيار المذكور.
الأمل قبل الخوف
ستساعد هزيمة بوتين العسكرية على تحفيز الانتقال السياسي في روسيا، ويتيح ذلك للساعين إلى مستقبل أفضل للبلاد أن يقوضوا النظام القديم وينشئوا واقعاً سياسياً جديداً. وبلورت “هيئة العمل الروسية” خطة لهذا الانتقال السياسي، واقترحت تأسيس الدولة الروسية “على مبادئ الحق والقانون، والفيدرالية، والأصول البرلمانية، والفصل الواضح بين السلطات، وإعطاء الأولوية لحقوق الإنسان والحريات قياساً على [مصالح الدولة] المجردة”. وتسعى رؤيتنا هذه إلى نقل روسيا إلى جمهورية برلمانية، ودولة فيدرالية بسلطات مركزية محدودة (السلطات الضرورية لممارسة السياسات الخارجية والدفاعية وحماية حقوق المواطنين)، وحكومات إقليمية أكثر قوة وفاعلية. وبلوغ هذه الرؤية يتطلب وقتاً. فخلال السنتين الأوليين بعد سقوط نظام بوتين، ينتخب الروس مجلساً تأسيسياً يتبنى دستوراً جديداً، ويضع نظاماً جديداً للسلطات والهيئات الإقليمية. وفي الأثناء، وقبل انتخاب هذا المجلس وتشكيله، ثمة حاجة إلى مجلس دولة (حكم) انتقالي بسلطات تشريعية للإشراف على عمل الحكومة التكنوقراطية المؤقتة. وتتألف نواة مجلس الدولة (الحكم) الانتقالي من روس ملتزمين بحكم القانون، من أولئك الذين عارضوا علناً حرب بوتين ونظامه غير الشرعي. وهؤلاء معظمهم أجبروا على الذهاب إلى المنافي، حيث أتيحت لنا حرية تنظيم أنفسنا، وإطلاق مجتمع مدني افتراضي غيابياً. ومثل هذا الإعداد سيمكننا من التحرك بسرعة، والعمل مع القوى الغربية التي تحتاج الحكومة الروسية الجديدة إلى التعاون معها لتحقيق استقرار الاقتصاد.
وبعد توليه السلطة، يقوم مجلس الدولة (أي مجلس الحكم الانتقالي) بعقد اتفاقية سلام مع أوكرانيا، فيعترف بحدودها المعينة سنة 1991، ويسدد لها تعويضات عادلة على ما ألحقته بها حرب بوتين من أضرار. ويقوم مجلس الدولة (العتيد) رسمياً برفض سياسات نظام بوتين الإمبريالية، داخل روسيا وخارجها على حد سواء، ويتتبع ذلك وقف جميع أشكال الدعم الرسمية وغير الرسمية للمجموعات المؤيدة لروسيا في بلدان الاتحاد السوفياتي السابق. وينهي (مجلس الدولة) حال المواجهة القائمة منذ زمن بين روسيا والغرب، ويبادر، عوضاً عن ذلك، إلى اعتماد سياسة خارجية قائمة على السلام، والشراكة، والاندماج في المؤسسات “الأورو– أطلسية”.
لا يمكن للولايات المتحدة السماح لمخاوفها باعتراض طريق الآمال الأوكرانية
وفي الجبهة الداخلية، يبدأ مجلس الدولة نزع الطابع العسكري عن روسيا، وتخفيض حجم القوات المسلحة ونفقات تجهيزها. كما يقوم المجلس المذكور بحل أجهزة دولة بوتين البوليسية، ومن بينها جهازا “خدمات الأمن الفيدرالي” القمعي و”مركز مكافحة التطرف”، وبإلغاء جميع القوانين القمعية التي سنها حكم بوتين. ويطلق سراح جميع السجناء السياسيين، على أن يحصلوا على فرصة إعادة تأهيل كاملة، ويُعد برنامج عفو أشمل بغية تقليص عدد السجناء الإجمالي في روسيا.
وعلى المستوى الفيدرالي، يتولى مجلس الدولة عملية تطهير، ويطلق تحقيقات مفتوحة ودقيقة مع المسؤولين السابقين يستبعد، في ضوء نتائجها، من يتحملون مسؤولية الانتهاكات التي قام بها النظام السابق. وإلى هذا يضطلع المجلس بتصفية كل الأحزاب السياسية والمنظمات العامة التي أيدت اجتياح أوكرانيا، فلا يسع تلك الجماعات الإسهام في إعادة إعمار روسيا الجديدة. وفي الوقت عينه يقوم مجلس الدولة بسن قوانين الانتخاب، وتسهيل عملية تسجيل الأحزاب السياسية، وإلغاء القيود التي وضعها حكم بوتين على التظاهرات، والإضرابات، والتجمعات الاعتراضية.
ويشرع مجلس الدولة، إلى ذلك، في تنفيذ اللامركزية، وفي نقل سلطات وصلاحيات واسعة إلى المناطق، بما في ذلك السلطات المتعلقة بالموازنات. وهذه إصلاحات تضعف المركزية الإمبريالية الروسية، أي المركز الذي تُطبِق قبضته على جميع السلطات. وهذا يعني أنه إذا لم تكن الحكومة الاتحادية متحكمة في ميزانية الدولة وماليتها تحكماً مطلقاً، فلن يكون بوسعها إطلاق مغامرات عسكرية.
وأخيراً، يتعهد مجلس الدولة محاسبة مجرمي الحرب والمسؤولين الأساسيين في نظام بوتين. ومن يتحملون التبعة عن جرائم الحرب الأفظع يجب أن يُحاكموا أمام محكمة دولية، فيما تحاكم روسيا الباقين. ويقتضي ذلك من مجلس الدولة الفصل بين مجرمي الحرب وعملاء النظام السابق– وتقترح على هؤلاء صيغ من التسويات لضمانة الانتقال السياسي بطريقة أفضل.
إنها لحظة حاسمة بالنسبة لأوكرانيا. ويمكن لبايدن أن يقلب مجرى الحوادث لمصلحة كييف من طريق تجديد وعوده بالدعم، وإرسال الدبابات والأسلحة البعيدة المدى وتفعيلها. ويمكنه تعجيل سقوط نظام بوتين، وفتح الطريق والاحتمالات أمام مستقبل ديمقراطي لروسيا، وإظهار حماقة العدوان العسكري للعالم. ولا يجوز للولايات المتحدة أن تقف مخاوفها حاجزاً دون الآمال الأوكرانية.
غاري كاسباروف
اندبندت عربي