لا حركة في لبنان سوى تتابع الانهيارات السياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية، وأخيراً القضائية. والباقي ثرثرة سياسية في لقاءات بين أشخاص لا يصلون إلى خلاصة. فهم لا يزالون في مرحلة “المناظرة”، حيث ما يهم كل متناظر هو أن يقول رأيه الذي يعجب جمهوره، ولا يهمه إقناع الآخر بوجهة نظره، ولا الاقتناع برأي الآخر. ولا شيء يوحي أن هناك فرصة للاقتراب من مرحلة “الحوار”، حيث يسعى كل طرف إلى إقناع الآخر برأيه من دون نتيجة عملية. ولا أحد يعرف متى نصل إلى مرحلة “التسوية”، حيث التفاهم على رئيس للجمهورية يكرر الجميع المواصفات المطلوبة فيه ومنه.
رئيس المجلس النيابي نبيه بري يدعو إلى الحوار، متجاهلاً الهرب من تطبيق ما جرى التفاهم عليه في حوارات سابقة، لا سيما حول الاستراتيجية الدفاعية، ورافضاً حتى أن يحاور نواب “التغيير” المعتصمين في قاعة البرلمان للمطالبة بدورات متتابعة في جلسة نيابية حتى التوصل إلى انتخاب رئيس بدل رفع الجلسة بعد الدورة الأولى للحيلولة دون انتخاب رئيس.
وليد جنبلاط يجد من واجبه بعد أربعة أشهر على الشغور الرئاسي محاولة ما سماه “التنقيب” عن رئيس، وسط وقوف طرفين على حافة الهاوية يعرفان ويعترفان بأن أياً منهما لا يستطيع إيصال مرشحه إلى القصر الجمهوري، ويرفضان التزحزح عن الموقف.
والرهانات في بيروت أكبر من الوقائع في اجتماع باريس بين مسؤولين أميركيين وفرنسيين وسعوديين ومصريين وقطريين للبحث في مساعدة لبنان. فقبل أسابيع صدر بيان أميركي – فرنسي – سعودي يرسم بوضوح المطلوب من اللبنانيين ومختصره ثلاثة أمور، أولها “انتخاب رئيس يمكنه توحيد الشعب اللبناني، ويعمل مع الجهات العاملة الإقليمية والدولية لتجاوز الأزمة الحالية”، وثانيها “تطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي 1559 و1680 و1701 و2650″، وثالثها “إجراء الإصلاحات المالية والاقتصادية وتطبيق اتفاق الطائف”، لكن الدعوة بقيت أسيرة التعطيل الذي يمارسه “محور الممانعة” بقيادة إيران. فما يصر عليه “محور الممانعة” هو انتخاب رئيس يرضي المقاومة الإسلامية ويغطي دور “حزب الله” وسلاحه في سوريا والعراق واليمن، ويتيح له استمرار التحكم برئاسات الجمهورية والبرلمان والحكومة، وليس انتخاب رئيس للدولة اللبنانية يرضي اللبنانيين ويقيم أفضل العلاقات مع الأشقاء العرب والأصدقاء الدوليين.
ومن المفارقات بعد 16 سنة على “تفاهم مار مخايل” بين “التيار الوطني الحر” و”حزب الله” أن يعلن رئيس التيار الآن أنه متفق مع “حزب الله” على المقاومة، ومختلف معه على “بناء الدولة”. كأن رفض “حزب الله” لبناء الدولة التي هي نقيض “دويلته” مسألة كانت سرية.
وكان لا بد من أن تكتمل “التراجيكوميدي” بانهيار القضاء بأوامر سياسية لا علاقة لها بالقوانين من أجل هدف معلن منذ تفجير مرفأ بيروت وتغيير المحقق العدلي الأول فادي صوان وتعطيل المحقق العدلي الثاني طارق البيطار: منع الكشف عن حقيقة ما حدث، وليس فقط منع المحاسبة والمساءلة لحماية مسؤولين متهمين يمثلون في النهاية الطرف القوي الذي خزن 2750 طناً من نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، ودأب على السحب منها حتى انفجرت البقية التي دمرت المرفأ ونصف بيروت.
في البدء جرى رفض الذهاب إلى التحقيق الدولي بحجة أنه بطيء، وأن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان قضت سنوات، وأنفقت ملايين الدولارات لتصل في النهاية إلى إدانة أعضاء في “حزب الله” باغتيال الرئيس رفيق الحريري رفض الحزب تسليمهم، ووصفهم بأنهم “قديسون”، ثم تتابع تقديم دعاوى الرد ضد المحقق العدلي، ورفض وزير المال بأمر من مرجعيته توقيع تشكيل محاكم التمييز، بحيث تعطل وجود محكمة قادرة على بت الدعاوى. ربط العقدة من جانبين.
لكن، قاد هذا إلى العكس. فالرأي العام صار واثقاً من مسؤولية الجهة التي تحول دون اكتمال التحقيق عن جريمة التفجير بأكثر مما كان يمكن أن تقدمه الأدلة في المجلس العدلي. وتتابع الانهيارات من دون أية محاولة جدية لوقفها يؤكد أنه لا عدو يمكن أن يؤذي لبنان واللبنانيين أكثر من التركيبة الحاكمة والمتحكمة التي هي أخطر من المافيات الإيطالية والكورسيكية والروسية.
اندبندت عربي