تأتي الضربة الأخيرة عبر الطائرات المسيرة على المجمع الصناعي في مدينة أصفهان الإيرانية في الثلاثين من شهر كانون الثاني 2023 لتعطي ملامح ميدانية على حقيقة الأوضاع الجارية والسياسات المتبعة من قبل النظام الإيراني واستمرار العمليات السرية الموجهة إلى منشآت وأماكن تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني وبرنامج الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة وأنها تعبر عن الفعاليات الإقليمية في دائرة الصراع القائم على مواجهة النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط والإمكانيات العلمية التي توصلت إليها طهران في زيادة نسبة كمية تخصيب اليورانيوم وإعداد الطرود المركزية الفاعلة والداخلية في البرنامج النووي واتساع عملية الممانعة في عدم الانتظام والتوجه إلى التعاون الجدي مع مبادرات الاتحاد الأوروبي والبدأ بمرحلة جديدة في سلسلة الحوارات والاتفاق على رؤية ميدانية لتحقيق مسار جديد في الجولة العاشرة التي أصبحت بعيدة عن الانعقاد ولا تلبي طموح أطراف الحوار التي ابتعدت كثيرا عن الاهتمام بكيفية الانتهاء من هذه الجولات لعدم تقديم طهران لإجابات كافية عن الأسئلة المتعلقة بآثار اليورانيوم المخصب في عدد من المواقع حول مدينة طهران والتي لا زالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تطالب إيران بتقديم ايضاحات شافية حولها وهذا ما يجعل خطة العمل الشاملة المشتركة أمام طريق مسدود لعدم تقديم جميع الأطراف اي تنازلات ذات قيمة ميدانية واستعداد سياسي لتوقيع إتفاق جديد يلبي رغبات وطموحات جميع الأطراف المشاركة في جولات الحوار التي سبق وأن عقدت لسنتين ماضيتين دون الوصول إلى نتائج مثمرة وحقيقية ، في وقت بدأت الأوضاع الداخلية الإيرانية تتأزم بشكل متواصل باستمرار الانتفاضة الشعبية والاحتجاجات الجماهيرية والمطالبة بعمليات الإصلاح والتغيير وإسقاط النظام الحاكم والتعرض لرموزه وقيادات الدينية والسياسية واستهداف الأماكن الحكومية والمؤسسات و الدوائر الرسمية وبعض المواقع الدينية في العديد من المدن الإيرانية.
حاولت الإدارة الأمريكية أن تفعل سياسة الضغط الأقصى ولكنها لم تكن بالخطوة والتشدد في عملية التطبيق مما سمح لإيران خلال السنتين الماضيتين من زيادة صادراتها النفطية من(820_1,200) مليون برميل يوميا من النفط الخام والمكثفات التي تذهب جميعها للصين وبعض الكيانات في سوريا ولم يتم فرض أي عقوبات من قبل الرئيس بايدن إلا في شهر آب وايلول 2022 بعد الإجراءات التي أقرت من قبل وزارة الخزانة الأميركية، وهذا ما كان له الأثر في عدم تواصل النظام الإيراني لإحياء الاتفاق النووي وتقويض الفوائد المتمثلة لتحقيق العقوبات وابتعاد التعامل مع النفط الإيراني في الأسواق العالمية مما أدى إلى تحقيق أرباح مالية كبيرة للنظام بلغت (6,2) مليار دولار للفترة من شهر نيسان _تموز 2022 بسبب البيع المنخفض عن سعر سوق الطاقة وبشكل سري وعبر إجراءات وقائية للتغلب على العقوبات الاقتصادية وبمساعدة تشكيلات الحرس الثوري الايراني الذي يساهم في عمليات التهريب وسحب الأموال الداعمة لأنشطته.
والآن وبعد التطورات التي رافقت قيام إيران بتزويد روسيا بالطائرات المسيرة وزيادة نسبة التخصيب اليورانيوم في منشآتها وتصريحات رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول عدم تعاون طهران مع مفتشي الوكالة، بدأت واشنطن بسياسة الضغط على عدد من الدول (ماليزيا والصين والهند وسنغافورة ) لبذل المزيد من الجهود لتنفيذ العقوبات وعدم التعامل مع النظام الإيراني وتسريع وتيرة العقوبات وخلق أجواء من عدم اليقين والقلق بين الأفراد والشركات التي تستخدم النفط الإيراني وتفعيل دور وزارة الخزانة الأميركية وخفر السواحل الأميركية لاستخدام المزيد من التقنيات لمنع تهريب النفط الإيراني وتعزيز قدرتها في مجال المعلومات الاستخبارية والمراقبة والاستطلاع.
أمام هذه الإجراءات التي تؤثر على طبيعة الحياة الداخلية والتعامل مع الأزمات الاقتصادية وزيادة فعالية الرفض الشعبي في المجتمع الإيراني، اتبع مسؤولي النظام سلوك تفاوضي يعبر عن الشخصية الإيرانية في قبول استقبال رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية في منتصف شهر شباط 2023 والتباحث معه في كيفية التغلب على العديد من المشاكل في حين أن هناك قرار من مجلس الشورى الإيراني يقضي بإيقاف التعامل مع مسؤولي ومفتشي الوكالة ورفع كاميرات المراقبة وعدم الإنصات إليهم، ثم اتباع النظام الإيراني لمبدأ(سياسة التعددية والدبلوماسية ) مع جميع الأطراف والذهاب نحو إقامة علاقات وشراكة اقتصادية بعيدة المدى مع الصين وروسيا والهند وتفعيل الحوار مع المملكة العربية السعودية وتعزيز العلاقات مع دول الخليج العربي وبعض الاقطار العربية ومحاولة الاقتراب من باكستان عبر الصين ، ومما ساعد على تنفيذ هذه السياسية أن قامت روسيا والصين بدعم انضمام إيران لمنظمة شنغهاي واعتبارها طرفا رئيسيا في موضوع مناقشة أي تطورات على الساحة الأفغانية وإضفاء الشرعية الدولية على التعامل مع إيران وامكانياتها في التواصل مع غالبية الدول الآسيوية وهذا ما يحقق لها فوائد اقتصادية وعوائد مالية وعلاقات سياسية تتغلب فيها على التأثيرات التي أحدثتها العقوبات الأمريكية وهذا الدور الروسي _الصيني يأتي لمواجهة المصالح والمنافع الأمريكية في منطقة المحيط الهادئ والهندي وتفويض دورها المساند لأوكرانيا.
تحاول روسيا أن تضغط باتجاه تصعيد الأحداث والمواجهة غير المباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية بدعم النظام الإيراني سياسيا واقتصاديا وعسكريا عبر تزويده بالعديد من الأسلحة والمعدات الحديثة وعقد الاتفاقيات التجارية بعيدة المدى وزيادة حجم الاستثمارات المالية، وهذه هي إحدى طلبات طهران بعد أن افصحت لروسيا والصين انها في دائرة الاستهداف والعاصفة من قبل الإدارة الأمريكية وأدركت انها تحولت إلى دولة مضطرة بعد أن كانت تفرض إرادتها وسياستها على الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي وان ما يهمها الآن هو الحفاظ على أمنها الداخلي ونظامها السياسي ومواجهة الاحتجاجات الشعبية ومحاولة تحسين وضعها في أي مفاوضات قادمة حول البرنامج النووي وضمان مصالحها الإستراتيجية السياسية في العراق الذي ترى فيه جزء من منطقة نفوذ تمتد من أفغانستان إلى البحر الأبيض المتوسط مع ضمان حماية أدواتها ووكلائها من المليشيات والفصائل المسلحة.
وحدة الدراسات الايرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية