انشغل الشرق الأوسط بقضايا ونزاعات مختلفة في الفترة الأخيرة وشهد تراشقات عسكرية وعنفاً وسُلطت الأضواء على قضايا عدة، مما دفع بعضهم سهواً أو عن عمد إلى طرح أن القضية الفلسطينية لم تعد ضمن الأولويات الإقليمية أو العربية، بل إنها قضية مصطنعة تستخدم من القادة العرب للتغطية على مشكلاتهم الأخرى، ومن أهم وأبرز المروجين لهذه النظرية الباطلة بنيامين نتنياهو الذي كان يمثل “حزب الليكود” واليمين الإسرائيلي.
مع هذا ومع انتهاء عام وبداية آخر، قررتُ الكتابة عن القضية الفلسطينية وموقف إسرائيل منها لأنها قضية حق مسلوب ولها تأثير عبر الشرق الأوسط بأكمله أكثر من أي قضية أخرى، مما يفرض على كل عربي إعطاءها حقها والاهتمام بها، بل تصحيح بعض ما يتداول في شأنها.
ولعلي أبدأ بتفنيد الادعاء بأن القضية هادئة ومحكومة وقليلة الخسائر والضحايا، وذلك بالإشارة إلى أن تقارير الأمم المتحدة الأخيرة تؤكد أن القوات الإسرائيلية قتلت 199 فلسطينياً في الأقل في الضفة الغربية حتى شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، من ضمنهم 47 طفلاً، وهو أعلى معدل منذ عام 2008، مما دفع مبعوثة الأمم المتحدة للطفل والنزاعات العسكرية إلى زيارة المنطقة، كما صرح أخيراً المبعوث الأممي لعملية السلام أمام مجلس الأمن الدولي السيد تور كوينزلاند بأن “حلقات العنف لن تزول إلا من خلال حل سياسي للنزاع يشمل إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 ووفقاً للقانون الدولي”.
ويخطئ من يفترض أن القضية زالت أو أن الظلم والاضطهاد اللذين يتعرض لهما الفلسطينيون على مرأى من الجميع، لن تنعكس على الغير في الشرق الأوسط.
خلال مسيرتي الدبلوماسية والسياسية، تناولت وتفاعلت وانشغلت كثيراً بالقضية الفلسطينية كجزء من المساعي المصرية لتحقيق السلام الشامل العربي – الإسرائيلي وإنهاء احتلال الأراضي العربية، وشهدت مراحل عدة من الجهد الفلسطيني سعياً إلى إقامة دولته وعاصمتها القدس الشرقية، ومراحل شهدت مرونة فلسطينية ملموسة مثل القبول بقرار مجلس الأمن رقم 242، وعناصر وقيود عملية أوسلو وغير ذلك، وقرارات قمة بيروت عام 2002 التي تحدثت عن علاقات طبيعية بين إسرائيل والدول العربية كافة بعد إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية المحتلة.
وخلال تلك المسيرة توقفت وغضبت كثيراً أمام ادعاءات إسرائيلية وأميركية بأن القيادات الفلسطينية وعلى رأسها أبو عمار وأبو مازن، يترددون في اتخاذ قرارات حاسمة من أجل السلام، أي أن هناك غياباً لشريك فلسطيني مؤيد للسلام وقادر على اتخاذ قرارات صعبة.
وامتعضت من ذلك لأن السؤال الجوهري ليس في توافر شريك فلسطيني من عدمه، إنما هو في هل تريد إسرائيل السلام مع الفلسطينيين؟ وفي الحقيقة كل الأدلة والمؤشرات تعكس غياب تلك الرغبة بين الإسرائيليين بصرف النظر عن توجههم الحزبي، ومن أهم المؤشرات السلبية أن التوسع الاستيطاني الإسرائيلي مستمر وبشكل متنام حتى خلال رئاسة حزب العمل اليساري وقيادة إسحاق رابين، واستمر خلال رئاسة اليمين الإسرائيلي. إذاً تجاوزنا 70 عاماً من الاحتلال والتوسع الإسرائيلي مستمر على حساب أراض من المفترض أن تشكل الدولة الفلسطينية المستقلة.
وحضرتُ في الآونة الأخيرة عدداً من الندوات حول النظام الدولي الجديد والمعادلة الشرق أوسطية فيه، شملت عدداً من السياسيين الإسرائيليين على يسار الوسط الإسرائيلي، بمن فيهم رؤساء وزراء سابقون، حاول الجانب الإسرائيلي فيها الابتعاد عن الغالبية الإسرائيلية الحالية، وإنما لم يخجل من تحميل الجانب الفلسطيني مسؤولية فشل جهود السلام الفلسطينية – الإسرائيلية، وهو شيء أثار حفيظتي لأنني تعاملت معهم جميعاً في الماضي، وأعلم مدى تجاوزهم أو إغفالهم للحقيقة، وإنما الأهم من كل ذلك، أنه حتى مع تعبيرهم عن نصف الحقيقة لا أكثر، فالواقع أنهم خسروا الانتخابات وضعف التيار اليساري الإسرائيلي.
ولذا تساءلت هل تريد إسرائيل حقاً السلام مع الفلسطينيين؟
فعلى رغم كل ما قيل لا يُخفى على أي متابع بسيط للساحة السياسية الإسرائيلية أن التوجه في إسرائيل عاماً بعد عام نحو اليمين، بل اليمين المتطرف والعنصري، عدا حكومة ائتلافية قصيرة بين أقصى اليمين ويسار الوسط، بين بينيت ولابيد، وذلك بعد أن ظل نتنياهو أطول رئيس وزراء في تاريخ إسرائيل، وهو لا يؤمن بحل الدولتين، والآن نجده بصدد رئاسة ائتلاف بالغ التطرف، يشمل إيتمار بن غفير الفاشي والعنصري، مما جعل صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية تحذر من التوجهات الإسرائيلية، ورئيس أركان إسرائيلي سابق يهدد بحشد مليون مواطن ضدها، بخاصة أن هناك توجهاً بتمكين هؤلاء من إدارة ساحات واسعة في الضفة الغربية.
هذا ونقل عن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك أن الائتلاف السياسي الحالي “مقزز”، سيدفع فيه نتنياهو إلى تعظيم مكانة وزراء عنصريين ويسمح بتوجهات تثقيفية وتعليمية تغذي التطرف والكراهية وإجراءات تقلص سلطات الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية لمصلحة ميليشيات متطرفة، مما يترتب عليه ضم أراض وغالبية غير إسرائيلية والسيطرة عليهم في نظام “أبرتهايد” يقلص الحلم الصهيوني ويهدمه.
من ناحية أخرى، كتب عدد من الدبلوماسيين الأميركيين السابقين أخيراً، من ضمنهم دانييل كرتزر وآرون ميللر أن على الولايات المتحدة التنويه مبكراً وصراحة أنها ستتخذ مواقف صارمة بما فيها إجراءات عقابية ضد الوزراء الإسرائيليين إذا خالفوا حقوق الإنسان ومارسوا العنصرية.
ختاماً أعتقد بأن الإجابة الصريحة والحاسمة والخلاصة الخطرة، أن المجتمع الإسرائيلي لا يؤيد التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين وليس على استعداد للتعاون الإيجابي نحو ذلك، بل ليس على استعداد للتعامل مع الفلسطينيين وفقاً للقوانين الدولية الإنسانية.
وتلك الإجابة تفرض على الكل أخذها في الاعتبار والتصرف حيالها، فهل يظل المجتمع الدولي غير راغب أو غير قادر على تطبيق المعايير القانونية الإنسانية على إسرائيل، مثلها مثل المخالفين الآخرين، حتى في تحمل دولة الاحتلال مسؤولياتها إزاء الشعب المحتل؟ وهل يسمح لإسرائيل بالقضاء كاملاً حتى على الفرص المتضائلة لتحقيق حل الدولتين؟
على الطرف الفلسطيني، سلطة وشعباً، التحرك بخطة متكاملة ومتنوعة للتصدي لهذا الواقع الأليم وغير الإنساني.
وعلى الدول العربية تقييم الموقف بدقة وتحديد متطلباتها تجاه إسرائيل حفاظاً على أسس عملية السلام، حتى إذا لم تسمح الظروف بالتفاوض حالياً، وعليها أيضاً التحديد مسبقاً ما لا يمكن قبوله من استفزازات إسرائيلية تجاه الفلسطينيين، والتنويه بذلك لرئيس وزراء إسرائيل وكذلك أعضاء المجموعة الرباعية الدولية، وعلى رأسهم الرئيس الأميركي جو بايدن وكذلك الأمين العام للأمم المتحدة.
اندبندت عربي