تركيا ليست مركز العالم لكنها دولة مهمة، ومسألة أن الحكومة ربما تتغير في أنقرة بعد الـ 14 من مايو (أيار) المقبل مسألة فضول دولي، فمن الطبيعي أن تتم متابعة عملية تغير السلطة في تركيا بعناية من قبل كل من واشنطن ولندن وباريس وموسكو وبرلين والرياض والقاهرة وعدد من المراكز الأخرى، بل يمكنني القول بثقة إن أكثر الانتخابات التركية التي ستتم متابعتها من الخارج في تاريخ الدولة هي الانتخابات المقبلة.
من الواضح أن الرئيس رجب طيب أردوغان أصبح أخيراً بصدد تحويل سياسته الخارجية إلى مشروع للحفاظ على سلطته، فعلى سبيل المثال وأثناء صنع السلام مع العواصم التي يمكنه من خلالها الحصول على قروض أو أموال ساخنة من دون قيد أو شرط، فإنه يفضل خوض حروب لفظية مع المراكز في الغرب، إذ لا يمكنه الحصول على قروض منها.
في مثل هذا الجو بالتحديد قررت بعض الممثليات الأجنبية في تركيا تعليق أنشطتها لبضعة أيام بسبب التهديد الإرهابي، وبالطبع فهي قضية مهمة بالنسبة إلى الحفاظ على أمن مواطنيها، لكن إغلاق السفارات هذا جعل مهمة أردوغان أسهل.
إن العملية التي بدأت بإغلاق الولايات المتحدة سفارتها ثم استمرار بعض الدول الغربية مثل كندا وهولندا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا تعليق أنشطة قنصلياتها العامة في إسطنبول، أعادت فجأة إلى ذهن المواطنين سؤال “هل سنخوض الحرب أم الانتخابات؟”.
وفي هذا السياق قررت بعض المدارس الأجنبية وبعض الكنائس في تركيا إغلاق أبوابها موقتاً بسبب خطر وقوع هجوم إرهابي، والشيء المثير للاهتمام هو أنه في حين أن العالم قد أخذ حال التأهب بسبب الادعاء بأنه سيكون هناك هجوم في تركيا فيما يتخذ الغربيون بعض الاحتياطات بطريقتهم الخاصة، لا تزال حكومة حزب العدالة والتنمية تتكتم حيال مواطنيها ولا تصرح لهم بشيء يشفي الغليل.
نعم تحدث وزير الداخلية سليمان صويلو أخيراً عن هذا الموضوع لكنه أدلى بتصريح كان هدفه الحقيقي التلاعب بالأذهان، واعتبر هذه القرارات التي اتخذتها الدول الغربية “حرباً نفسية”، ووصف مبادرة الولايات المتحدة بخاصة بأنها “مؤامرة” وأن “الغرب لا يريدنا أن نكون مستقلين وأحراراً في هذه الجغرافيا”، فلماذا يتصرف قادة حزب العدالة والتنمية على هذا النحو؟
سأجيب عن هذا السؤال من خلال استطلاع رأي عام، إذ نشرت شركة أبحاث استبياناً نهاية عام 2022 عن التصورات العامة حيال السياسة الخارجية التركية، وتم طرح السؤال التالي على الناس: “ما هي الدول التي تشكل خطراً على تركيا؟”، فأجاب 42.7 في المئة من أفراد العينة بأنها الولايات المتحدة، تليها إسرائيل بنسبة 41.9 في المئة، ثم إنجلترا بنسبة 33.4 في المئة، ثم فرنسا.
بعبارة أخرى تشكل في ذهن المواطن التركي خلال السنوات الـ 20 الماضية إمكان “احتلال” الولايات المتحدة وبعض العواصم الغربية لتركيا، وبعبارة أخرى، في نظر الجمهور، تبرز الدول المهمة مثل الولايات المتحدة وأوروبا وكأنهم غزاة محتملون.
كان الرئيس أردوغان على علم بهذا الاستطلاع، وكان ينتظر فرصة للاستفادة منه، وبالفعل أعطته الدول الغربية تلك الفرصة وإن كان ذلك من غير قصد منها، لأنه في عام 2003 عندما تولى حزب “العدالة والتنمية” السلطة للمرة الأولى لم يتحدث رجب طيب أردوغان خلال حملته الانتخابية آنذاك عن الأزمة الاقتصادية وحسب، بل تعمق الخوف في ذلك الوقت لدى الجماهير العامة من غزو الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية لتركيا، وبالفعل فاز حزبه في الانتخابات، ولكن هل هناك بالفعل تهديد بشن هجوم إرهابي في تركيا؟ بالطبع نعم.
علينا أن تذكر ما حدث قبل نحو ثلاثة أشهر عندما حدث هجوم بالقنابل في شارع الاستقلال بإسطنبول راح ضحيته ستة أشخاص، ففي الدقائق الأولى من الحادثة أُلقيت اللائمة على حزب “العمال” الكردستاني، وبشكل غير مباشر على أنصار حزب “الشعوب الديمقراطي”، وقبل أيام قليلة من هذا الهجوم صرح حزب العدالة والتنمية بأنه يريد اتخاذ إجراءات مشتركة مع حزب الشعوب الديمقراطي في ما يتعلق بالدستور الجديد، لكن الحزب الأخير لم يستجب لذلك، وأصبح الهجوم في عداد الأحداث العابرة، وعلى رغم القبض على الجاني فإنه لا يزال من غير الواضح من يقف وراء تلك الحادثة.
في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية تعرضت تركيا للأسف لمثل هذه الهجمات قبل كل انتخابات وأثرت تداعياتها في ارتفاع نسبة التأييد لها، وأدى ذلك حتماً إلى زيادة الشكوك أيضاً حول علاقة الأمر بالأجواء الانتخابية.
ومن اللافت للأنظار أنه بينما تقيم تركيا علاقات استراتيجية مع الغرب وبخاصة مع الـ “ناتو”، فإن الحكومة من ناحية أخرى تبذل جهداً لتجعل الناس ينظرون إلى الدول التي تربطها بها علاقات وكأنهم أعداء، ولم يكن من قبيل المصادفة أن يتم حرق القرآن الكريم أمام السفارة التركية في السويد ثم يقوم أعضاء المؤسسة التابعة لنجل الرئيس بلال أردوغان بتنظيم مسيرات “لعنة” ضد ذلك، ومن الطبيعي أنه إذا قام بعضهم بنشر معلومات بأن “المسلمين سينتقمون من الغربيين” ومهدوا الطريق لأحداث جديدة وقدموا الخدمات اللوجيستية، فإن الغربيين سيغلقون سفاراتهم وقنصلياتهم.
نعم ستخوض تركيا الانتخابات ولكن حزب العدالة والتنمية يحاول أن يخلق أجواء وكأنه سيخوض الحرب، وأتمنى أن لا تلدغ الأمة التركية من الجحر نفسه مرتين، بل ومرات عدة.
اندبندت عربي