تمثل محافظة درعا، جنوبي سورية، صورة مصغرة لكيفية إدارة النظام المناطق الواقعة تحت سيطرته، عبر منظومة من الأجهزة الأمنية، هاجسها الأساسي إخضاع الأهالي، وبث الفتن بينهم، بغية إضعافهم والسيطرة عليهم.
وتبرز في هذا السياق سياسة تجنيد عملاء ومخبرين محليين، لا يكتفي النظام فقط باستخدامهم لرصد تحركات المعارضين ونقل المزاج الشعبي، بل إن بعضهم يُكلّف بعمليات تصفية وقتل. حالة عامر النصار، الذي وُصف بأنه قيادي في فرع أمن الدولة التابع للنظام في المحافظة، أحد الأمثلة على علاقات هؤلاء العملاء بأجهزة النظام الأمنية، والتي تصل في بعض الأحيان إلى مستويات عالية.
ونشر “تجمّع أحرار حوران” تسجيلات لمكالمات من هاتف عامر النصار، الذي قُتل في مدينة الحارّة، شمال غربي درعا، منتصف الشهر الماضي، مع شريكته سماح اللكود، بعد استيلاء الثوار على هاتفه الجوال. واللافت أن النصار كانت له اتصالات مع رؤساء الأفرع الأمنية شخصياً، والذين طلب بعضهم منه حذف محادثاتهم مباشرة، خشية وقوع هاتفه بيد المعارضين.
وتكشف التسجيلات عن التنافس بين الأجهزة الأمنية لتسويق “إنجازاتها” في المحافظة لدى الجهات الأعلى، والتنافس أيضاً بين مجموعات “المخبرين” لإظهار ولائهم وقدراتهم على إنجاز المهام التي يكلفون بها، بل ومبادرة بعضهم إلى القيام ببعض الأعمال خدمة لتلك الأجهزة. وتتقاطع مصالح الطرفين في التخلص من “الأعداء المشتركين”، أي الوطنيين والثوار في درعا، لأن خطرهم قائم على النظام والمخبرين معاً.
اتصالات مع كبار ضباط الأمن
يتضمن الجزء الأول من هذه السلسلة من التسريبات محادثة بين النصار واللواء حسام لوقا، الذي كان يرأس اللجنة الأمنية في درعا بين عامي 2019 و2021، ويشغل حالياً مدير شعبة المخابرات العامة. وتشير المحادثة إلى وجود خلافات حادة بين جهازي الأمن العسكري وأمن الدولة.
وحذّر النصار اللواء لوقا من عواقب دخول الأمن العسكري إلى مدينة جاسم في ربيع العام الماضي بعد خروج أمن الدولة من هناك، وتوقعه أن يُستهدف العملاء من جانب الثوار، وأن الأمن العسكري سيتساهل معهم، لأنه يسعى إلى التهدئة في هذه الفترة ليظهر بمظهر المتفهم لمطالب الأهالي، إضافة إلى التنبيه بأن الثوار سيستهدفون ضابطاً محدداً، وطلب منه لوقا تحذير ذلك الضابط فوراً.
كما بادر النصار إلى اقتراح سرقة أسلحة خبأها ثوار جاسم في ريف درعا الشمالي باتجاه محافظة القنيطرة، عبر متعاون محلي في تلك المنطقة، وهو ما تم فعلاً، وأرسل النصار صوراً للوقا تظهر تلك الأسلحة والذخائر، وطلب منه تسهيل مروره عبر الحواجز، لنقلها إلى دمشق.
نُشرت تسجيلات بين النصار واللواء في قوات النظام حسام لوقا
وفي محادثة أخرى بينهما، طلب النصار من لوقا أن تقوم الأجهزة الأمنية بمداهمة وهمية لمنزل العميل سيف الفروخ بهدف إبعاد شبهة العمالة عنه، مشيراً إلى مساعي جهاز أمن الدولة الذي كان يعمل النصار لديه في تهجير أبناء المنطقة، وفي مقايضة معتقلين بقطع سلاح، إضافة إلى محاولتهم إشعال اقتتال عشائري في مدينة جاسم.
ونتيجة شعوره بالخطر بعد إبعاد أمن الدولة ورئيسه العميد عقاب عباس إلى القامشلي، شمال شرقي البلاد، بعد فشل جهازه في اقتحام مدينة جاسم وتكبّد خسائر بشرية خلال المحاولة، وبالتالي تسليم المنطقة للأمن العسكري، طلب النصار من لوقا الموافقة على خروجه إلى لبنان، ويبدو أنه كان يفكر في التوجه منه إلى تركيا أو أوروبا.
تنافس بين أمن الدولة والأمن العسكري
وتظهر المحادثات حالة التنافس بين الأجهزة الأمنية التابعة للنظام، وطعن كل جهة في الأخرى، بمساعدة تقارير العملاء. وفي محادثة له مع العميد عقاب عباس، الذي كان يقود فرع أمن الدولة في المحافظة، ينقل النصار له أخبار الأمن العسكري وما يفعله رئيسه لؤي العلي وعناصره في محافظة درعا، ويسخر الاثنان من الإنجازات المزعومة للأمن العسكري في المحافظة، ومحاولة العلي تسويق تلك الإنجازات لدى رؤسائه.
وبعد نقل عباس إلى القامشلي، يواصل النصار العمل مع خليفته العميد محسن درغام. وتشير محادثات بينهما، تعود لشهري نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، إلى تجهيز النصار ومجموعته للعمل ضد “هدف” في محافظة القنيطرة المجاورة، بالتعاون مع شخص في المنطقة.
ويشير إلى شخص سيجلب له عبوة ناسفة وجهاز تحكم، ويطلب الإذن من العميد درغام لهذه الخطوة والذي يقرّها. كما يبلغه بأن مجموعته تمكنت من الوصول إلى معلومات بشأن مجموعة “سرايا قاسيون” (التي أعلنت خلال السنوات الماضية مسؤوليتها عن عدد من عمليات الاغتيال لبعض رموز النظام في دمشق وريفها)، وأن قائدها يُدعى محمد عاشور، وكان سابقاً مع “لواء الفرقان” المعارض وهو موجود في منطقة كناكر بريف دمشق. ويبلغه أيضاً أنهم يعدّون لتصفية شخص في منطقة المزيريب بريف درعا الغربي.
وفي محادثات أخرى بين عقاب عباس والنصار، يشير عباس إلى مقتل زعيم تنظيم “داعش” في الجنوب السوري أبو عبد الرحمن العراقي، ويقول له النصار إن جثته أرسلت إلى دمشق، لكن عباس يؤكد له أنها سلمت للأردن بواسطة “الفيلق الثامن” من دون علم الأمن العسكري.
وبالفعل، اتضح لاحقاً أن الجثة سلمت للأردن بواسطة “الفيلق الثامن”. وخلال محادثة له مع من وصفه “تجمع حوران” بأنه رئيس فرع الأمن السياسي في دمشق العميد رياض، تعود لشهر يوليو/تموز الماضي، يبلغه النصار بتصفية شخص يدعى يحيي الصقر في مدينة نوى بدرعا، كما يحرّضه على عميل آخر يعمل لدى الأمن العسكري هو وسيم الزرقان.
ولكن في محادثة أخرى بين النصار ووسيم الزرقان نفسه، يتناقشان حول سبل تتبّع بعض الأشخاص في بلدة كفر ناسج بريف درعا. ويتوافقان على ضرورة مطالبة جيش النظام بأن يقوم بحملة واسعة لتمشيط المنطقة، إذ يستشعران بخطر استهدافهما من جانب تلك المجموعات.
تظهر المحادثات حالة التنافس بين الأجهزة الأمنية التابعة للنظام
وفي محادثة أخرى بين النصار وشريكته سماح اللكود، تبلغه الأخيرة بأن هناك أشخاصاً من جاسم ومن الحارّة اجتمعوا في منزل أحدهم واتفقوا على ضرورة التخلص منه، فيسألها النصار عن مكان وجودهم إذا كان معروفاً، فتجيبه بالإيجاب، لكنها تنبّهه إلى أنهم مسلحون ببنادق حديثة، وتقول له إنهم يرصدونه تمهيداً لتصفيته.
وفي آخر محادثة بينهما في ديسمبر الماضي، ينصح العميد عباس، النصار، بالحضور إليه في دمشق وإحضار ابنه عبود، الذي كان اختطفه قبل ذلك مسلحون مجهولون، وينفي العميد مسؤولية “الدواعش” عن خطفه كما يروج الأمن العسكري، ويحمّل المسؤولية لـ”جماعة جاسم”، أي المعارضين في المدينة. ويحذره من خطورة الوضع على حياته وضرورة مغادرة المنطقة.
العملاء أهم ركائز النظام في درعا
وحول سياسة تجنيد العملاء من جانب النظام في محافظة درعا، يقول المتحدث باسم “تجمع أحرار حوران” أيمن أبو محمود، لـ”العربي الجديد”، إن النظام يعتمد بشكل كبير على العملاء المحليين، ويبحث خصوصاً عن القادة السابقين في صفوف المعارضة، لما بحوزتهم من معلومات ثمينة بالنسبة له.
ويرى أبو محمود أن حجم هذه الظاهرة بات كبيراً بعد سيطرة النظام على المحافظة عام 2018، و”هذه نتيجة طبيعية لمنطقة تحكمها الأجهزة الأمنية”.
ويشير إلى أنه يجرى تجنيد بعض ضعفاء النفوس، أو من لديهم ظروف خاصة، من خلال جملة من الإغراءات، من تقديم المال في بعض الحالات إلى التسهيلات الأمنية، مثل توفير بطاقات أمنية تساعد على التنقل أو رخصة حمل سلاح، إضافة إلى الشعور بالحصانة إزاء عمليات الاعتقال والاستهداف من جانب قوات النظام وأجهزته الأمنية.
ويشير أبو محمود إلى أن هذه الظاهرة تتسبب في أضرار كبيرة لجهة تصفية بعض أبرز القيادات ومعارضي النظام، إضافة إلى رصد تحركات المعارضين ونقل المزاج الشعبي في مناطقهم. ويلفت إلى أنه في مرات كثيرة تجرى تصفية أبرياء نتيجة تقارير كيدية يرفعها العملاء بسبب خلافات شخصية.
وحول أن النصار كانت له اتصالات مباشرة مع قادة الأفرع الأمنية، بمن فيهم اللواء حسام لوقا، يقول أبو محمود إن النصار كان قيادياً سابقاً في المعارضة، وقدّم للنظام خدمات جليلة، فحاز ثقة ضباطه، وطبعاً ليس كل عميل تتاح له فرصة التواصل مع ضباط النظام على هذا المستوى.
أيمن أبو محمود: في مرات كثيرة تجرى تصفية أبرياء نتيجة تقارير كيدية
ويُعرب أبو محمود عن اعتقاده بأن النظام كان سيتخلص من النصار ومن أي عميل آخر لديه مخزون أسرار حول شبكة عملاء النظام في المحافظة عاجلاً أم آجلاً، لكن يبدو أن النصار كان ما زال مفيداً لهم إلى أن قُتل على يد المعارضة في منطقة الحارّة.
ويشير أبو محمود إلى أن هناك حالات عدة لجأ فيها النظام إلى التخلص من بعض العملاء، وحتى من بعض الضباط العاملين مع النظام، في حال استشعر خطورة ما من بقائهم على قيد الحياة لجهة كشف أسرارهم، لكنه يلجأ إلى طرق مدروسة وغير مباشرة بحيث لا يظهر النظام في الصورة، كي يحافظ على ثقة بقية العملاء.
ويرى أن التخلص من العملاء لا يكون دائماً بالقتل والتصفية، و”يمكن إرسال تهديدات لهم أو الطلب منهم مغادرة المنطقة، باستثناء الأشخاص المتورطين في الدم، فهؤلاء لا بد من تصفيتهم”.
ويروي شخص، طلب عدم ذكر اسمه، لـ”العربي الجديد”، كان يقيم في قرية بين محافظتي درعا والقنيطرة قبل أن ينتقل إلى تركيا، أن ضابطاً في أحد أجهزة النظام الأمنية عرض عليه مبلغ مليون ونصف مليون ليرة شهرياً، مع تسليمه مسدساً ودراجة نارية، مقابل العمل معهم.
ويضيف أنه وافق في البداية، خصوصاً أن ابن عمه كان يعمل معهم، لكن أول مهمة كلف بها هي شخص كان أجرى تسوية مع النظام، وليس له أي نشاط حالي، فتردد في ذلك، وقرر مغادرة المنطقة، لا سيما بعد تصفية ابن عمه من جانب هذا الجهاز الأمني بعد أن خدم معهم.
من جهته، يقول أبو عدي، وهو قيادي سابق في “الجيش الحر” في درعا، إن استفحال ظاهرة العملاء في درعا يشكل تهديداً للسلم الأهلي في المحافظة، ويأخذ أحياناً بعداً عشائرياً، وهو ما يلعب عليه النظام لإثارة الفتن بين أبناء المحافظة، على الرغم من أن هؤلاء العملاء لا ينتمون لعشيرة أو عائلة محددة، بل لعائلات متنوعة.
ويشدد، في تصريح لـ”العربي الجديد”، على ضرورة أن يطور المجتمع المحلي أساليبه للكشف عن هؤلاء العملاء مبكراً، والتعامل بحزم مع من يثبت تعامله الأمني مع أجهزة النظام، لما يتسبب فيه من أضرار فادحة للمجتمع المحلي.
العربي الجديد