لم يكن اختراق المنطاد الصيني للأجواء الأميركية حدثاً عابراً في زمن يشتد فيه الصراع على زعامة العالم اقتصادياً بين بكين وواشنطن، فرغم تبرير الصين للواقعة بأنها بسبب خطأ تقني، ولا يوجد هدف عسكري أو سياسي لتجاوز المنطاد حدود دولة عظمى كأميركا، فإن انتهاك السيادة الذي مارسته واشنطن بزيارة بيلوسي لتايوان يرجح أن يكون حادث المنطاد رسالة رد بانتهاك سيادة أميركا، خصوصاً أننا نمر بمرحلة زمنية خطرة بالعالم، مع الاتجاه لتعدد الأقطاب وهو ما يضفي مزيداً من الحساسية على أي تحرك من الطرفين بأحداث مشابهة لن تكون إلا تدشيناً لحرب باردة، فالتنين الآسيوي وصل في وقت سباق التسلح بين العملاقين لدرجة خطيرة ومتقدمة، وألغت أمريكا إمكانية الأمن المطلق، كما أدركوا أن انتصارهم في الحرب الباردة سيكون ذا جدوى، وتجلت ظاهرة عدم الطاعة لمسؤولين يفرضون العمل السياسي لعدم ملاءمة الهدف الحقيقي ومعارضة القانون، وبهذا المعنى لن تظهر الحوادث مرة أخرى متشابهة، بل التاريخ يعيد نفسه.
في الواقع لم يكن من خيار أمام الصين الباحثة عن القوة والتوازن إلا أن تلتقي بأمريكا الباحثة عن القوة والأمن، فكان ابتعاد بكين عن موسكو مكسباً لواشنطن بعد تحالف بكين مع واشنطن في أواخر الثمانينات، حين تهاوى جدار برلين ومن بعده الاتحاد السوفياتي، فيما راحت الصين تتصاعد كقوة عالمية من الدرجة الأولى في أقل من ثلاثة عقود، لتصبح الصين قريبة من الغرب، وتبتعد عن إمبراطوريات السوفيات، وعملت جاهدة لتكشف عن أكبر المفاجآت، وسجلت أعلى نسبة نمو في العالم وهي 11 في المائة، والخروج من نفق الإصلاحات لنظامها إلى مراكز القرار والانفتاح ومقاربة العمل الصيني والتكنولوجيا الغربية حتى أصبحت نداً اقتصادياً لأمريكا وأوروبا.
ودخلت الصين مرحلة أكثر ثباتاً نحو الواقعية والخطوات السياسية، وأدركت أن الحرية ضرورية لإنتاج القوة، وأن تصبح قوة رأسمالية بلا ديمقراطية، لأن اشتراكية السوق هي المصطلح الجديد لمواجهة تلك العقدة، واليوم حذّر الساسة ومعهم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من احتمالية اندلاع حرب باردة، ودعا الصين والولايات المتحدة إلى إصلاح العلاقة المختلة تماماً بينهما، قبل أن تنتشر المشكلات بين الدولتين الكبيرتين والمؤثرتين بشكل كبير في بقية أنحاء الكوكب، فهل على القوتين الاقتصاديتين الهائلتين أن تتعاونا، في ظل استمرار الخلافات السياسية؟
فمنذ عدة سنوات يحاول الغرب أن يستفز ذلك التنين الضخم، ولم يدرك أن له قدرات خارقة على التنافس وروح المثابرة لبسط نفوذه اقتصادياً، فكان نصراً كبيراً تجلى فيه التفوق، واستمر بنقل التكنولوجيا الحديثة في جميع الصناعات الصينية، ولو أخذنا كل هذه الاعتبارات مجتمعة، لَمَثَّلَتْ بكين المثلث الاستراتيجي الذي حصلت عليه أثناء الحرب الباردة إلى جانب موسكو وواشنطن، وهناك أهداف أخرى لا يمكن حصرها، فأزمة المنطاد الصيني جاءت في أعقاب «تقرير سري» قُدّم للكونغرس، الشهر الماضي، حدد حوادث محتملة لاستخدام «أعداء أميركا لتكنولوجيا جوية متقدمة للتجسس على البلاد».
فبعدما أصدر الرئيس الأميركي جو بايدن استراتيجية للأمن القومي تدعو إلى «منافسة بكين خارجياً» وعرقلة جهودها لإعادة تشكيل الشؤون العالمية، اتهمت الحكومة الصينية، الولايات المتحدة بممارسة «الحرب الباردة»، مطالبة ببذل جهود لإصلاح العلاقات المتوترة بين البلدين، بمعنى آخر وهو أن الحرب الباردة لم تنته على الإطلاق، وقصة المنطاد الصيني الذي حلّق لأيام في سماء الولايات المتحدة، ستبقى عالقة في تاريخ البلدين، إذ إن تداعياته لا تزال مستمرة.
الشرق الأوسط