في هذه المقالة من تلخيص كتابي الجديد “الجمهورية الإمبريالية الإيرانية والسياسة الأميركية” للقراء العرب، أتوقف عند المعادلة المركزية المخفية التي سمحت للنظام الإيراني بتفادي تلقي ضربات #أميركية وغربية حاسمة كالتي خبرتها أنظمة أخرى كأنظمة “طالبان” وصدام حسين، والقذافي، وغيرها، بل أكثر، شرحت للقراء أسباب تأثير اللوبي العميق على إدارتين أميركيتين وعلى معظم البيروقراطيات خلال العشرين سنة الماضية، وقد سئلت مراراً و تكراراً من قبل مسؤولي المنطقة ومواطنيها في وسائل الإعلام و خلال المؤتمرات، عن أسباب “السماح لطهران” بأن تعربد داخل واشنطن وتؤثر في قرارات الأمن القومي حيال “الجمهورية الإسلامية”. وكانت هكذا أسئلة “مؤلمة” لشركاء وحلفاء الولايات المتحدة #العرب، والإسرائيليين، والأكراد، والمعارضين الإيرانيين، والمجتمعات المدنية في الشرق الأوسط بشكل عام، لأنهم شاهدوا بأم العين كيف أن #اللوبي_الإيراني نجح في الضغط على الإدارات للتخلي عن الأصدقاء كل على حدة. وقد حدث هذا التخلي ما بين عامي 2009 و2017، ومن ثم بين 2021 و2023. وكنت قد رددت مراراً في المقابلات والخلوات أن هذا “التخلي” هو نتيجة تأثير وهذا “التأثير” هو نتيجة صفقات، وهذه الأخيرة صنعتها عقول ونفذتها أيدي لوبي أكبر وأقدر من اللوبي الإيراني، وهو “لوبي الاتفاق النووي”، وهو كناية عن مصالح كبرى في أميركا والغرب من شركات وتجمعات تجارية وشبكات استشارية تبحث عن “أسواق سهلة” وعن “ممرات مالية” لهذه المصالح، واستنتجت في الكتاب أن عمق التأثير الإيراني في القرار السياسي الأميركي هو مالي استفادي للأطراف المشاركة في الصفقة، مما قد يصدم الكثيرين الذين اعتقدوا أن هنالك جداراً أخلاقياً لدى الرأي العام لا يمكن اجتيازه.
في الحقيقة وبتقديري فالجدار لا يزال موجوداً وقوياً، أي إن الرأي العام الأميركي لا يزال يتأثر بالقيم المعنوية في العلاقات الدولية وبقدرته التمييز بين الحق والباطل، لكنه تعرض لحملة “تضييع” ممنهجة منذ أقل من ثلاثة عقود شنتها القوى الراديكالية الخارجية عبر اختراقها الجامعات والصحافة و”هوليوود” بعد نهاية الحرب الباردة، وفرضتها قراءات خاصة بها على الرأي العام، بالتالي فهذا الأخير لا يزال أخلاقي، لكنه حُرم من “المعلومات والمعطيات” وكذلك أحياناً حُرم الكونغرس من التقييمات المطلوبة (assessments)، السؤال الكبير هو كيف تمكنت إيران من هذا الاختراق الهائل للآلة التثقيفية الإعلامية بالتالي التقريرية في الولايات المتحدة خلال سنوات طويلة؟ هذا ما لخصته في كتابي.
اختراق على محاور عدة
كما كتبت في حلقات سابقة، قام النظام الإيراني، بخاصة منذ حرب العراق، بحملة تواصل عبر الراديكاليين الأميركيين، لإقناعهم بأن الجمهورية الإسلامية هي قوة ضرورية لمستقبل الولايات المتحدة لحملها على الانسحاب من المنطقة، فأقنعت جزءاً من اليسار الراديكالي بأن إيران ستكون البديل عن الاتحاد السوفياتي “لدعم التقدميين بوجه الإمبريالية”. فتم التواصل بين الاثنين وتوسع.
على محور آخر، أقنع النظام شريحة من أقصى اليمين الأميركي المتشدد في انعزاليته ومواقفه المضادة للسامية (antisemitic) بأن إيران هي “آرية” بالتالي يمكن “التعاون معها ضد اليهود”. فبات بين أيدي الملالي “كماشة” عقائدية داخل أميركا لها شبكاتها في أقصى اليسار وأقصى اليمين، وبإمكانها أن تضغط على الإدارات كي لا تدعم حروباً أو حملات ضد إيران وشركائها، وتمكنت بعض القيادات الشابة من أقصى اليسار أن تصل إلى قيادة الحزب الديمقراطي منذ عام 2004، فسيطرت على أكثرية الكونغرس في 2007، وعبرها وصل السناتور التقدمي الشاب باراك حسين أوباما إلى البيت الأبيض، ومعه أتى طاقم التواصل مع الإيرانيين، بمن فيهم جون كيري، وروبرت مالي، وغيرهم، وهنا تغير كل شيء في السياسة الخارجية الأميركية حيال الشرق الأوسط، فإيران وصلت إلى “قلب الغرب” لحماية نظامها على المديين المتوسط والبعيد، ولم يبقَ إلا التفاوض بين دولة ودولة، وهو بالطبع أصعب من كلام بين ناشطين يساريين ووسطاء مع الجمهورية الخمينية، لذا، استمرت المحادثات الثنائية، ومن ثم الجماعية مع مجموعة الدول الخمس الكبار زائد واحد لسنوات عدة قبل التوقيع في عام 2015، لكن الصفقة تم الاتفاق عليها منذ يونيو (حزيران) 2009. وتتالت التراجعات الأوروبية والأميركية، وتساءلت الدول الشريكة والحليفة عن أسباب “التبدل”، ولو البطيء، في سياسة واشنطن لأكثر من نصف عقد. وكان ردي على من حاورتهم في المنطقة، أن التبدل هو على أقساط، ولكنه حقيقي، لأن له جذوراً في الفريق الجديد الذي بدل نظرة الأمن القومي تجاه إيران و”الإخوان المسلمين”. وكثيراً ما رد الذين حاوروني بأن “الموضوع هو تمثيلية”، فقلت لهم، “لا، الموضوع جدي”.
إلا أن الحليف الأثقل للوبي الاتفاق النووي كان ولا يزال، كما خلصت في الكتاب، ليس الناشطين أو السياسيين اليساريين بل ممثلي الشركات الكبيرة والتكتلات الاستشارية (Consultants) المستفيدة من الصفقة، فلهذه المصالح الضخمة ثقل كبير لدى البيروقراطيات والإدارات والإعلاميين والسياسيين، ككل الكارتلات الأخرى. وليس وزن المصالح الاقتصادية أمراً استثنائياً محصوراً باللوبي الإيراني فقط، بل هو بمثابة طريقة العمل في واشنطن منذ قرن أو أكثر، فشركات الأسلحة والنقل والنفط والاتصالات وغيرها في أميركا تملك لوبيات أو تتعاقد معها، وهكذا تتصرف الدول الأجنبية في واشنطن، إلا أن تكتل الاتفاق النووي خرق كل تلك الحدود العادية وقيد يدي السياسة الأميركية تجاه المنطقة وإيران بخاصة، وذهب هذا التأثير إلى عدم إعلام الرأي العام، وأحياناً الكونغرس بمحتوى الاتفاقات الأعمق.
العمق الأخطر
وذهبت في كتابي إلى حيث لم يذهب كاتب في هذا المجال من قبل، فحللت تأثير “لوبي الاتفاق” في عمق البيروقراطية وتوجيهها لتتحول بشكل غير مباشر إلى “جهاز ضاغط” لمصلحة الاتفاق يستعمَل بوجه الكونغرس وفي وجه الخبراء المتخصصين بالشرق الاوسط، وللتنسيق مع الإعلام المؤيد للصفقة، وكما شاهدنا إبان مرحلة ترمب بين عامي 2017 و2020، استُعمل هذا الجهاز “لمقاومة” سياسة الإدارة إذا استهدفت الاتفاق أو إيران نفسها، عندما تداخل لوبي الاتفاق بمؤسسات الدولة وانخرط بالسياسة الداخلية الأميركية، بما فيها استعمال نفوذ اللوبي في دعم معارضة سياسية يقودها الرئيس السابق وحلفاؤه ضد الرئيس المقيم في البيت الأبيض، وصل هذا اللوبي إلى حيث لم يصل أي لوبي خارجي من قبل، أي أن يتحول إلى لاعب حزبي داخلي، فجرجرت قوة الضغط المتحالفة مع طهران الشركات إلى حيث لا يجب أن تكون، أي إلى معارك صيف 2020 في الشارع، ومواجهة الانتخابات الرئاسية، وأحداث السادس من يناير (كانون الثاني، فوجدت هذه المصالح نفسها في موقع متصادم مع عدد من أعضاء الكونغرس المؤيدين لترمب، بينما كانت في السابق دقيقة وحريصة على دعم الحزبين، كل ذلك أدى إلى حالة غير طبيعية داخل أميركا جعلت من ذراع إيران المتدخلة في السياسات الحزبية قوة عنيدة لمنع إسقاط الاتفاق.
لذلك فعندما كان يسأل السائلون عن الأسباب “غير الطبيعية” التي تمنع إدارة بايدن من التخلي عن الصفقة، لم تكن الأجوبة مرضية، لأن أحداً لم يتصور إلى أي عمق قد وصل لوبي الصفقة، إذ تمكن من “حشر” الإدارة في زاروب ضيق غير قادرة أن تخرج منه من دون ضرر انتخابي بالغ.
وسألخص في المقالة المقبلة التفسير الذي يقدمه الكتاب عن طبيعة العرقلة التي تمنع بايدن من التراجع عن الاتفاق.
اندبندت عربي