يقول الخبراء إن الاستراتيجيّة هي عبارة عن خطّة أو طريقة عمل، يتم بها وعبرها ربط الأهداف بالوسائل. لكن الربط بين الأهداف والوسائل، يجب أن يكون متوازناً، وألا تكون الأهداف تعجيزيّة، مقارنة مع وسائل متواضعة.
الاستراتيجيّة كائن حيّ، يتفاعل مع محيطه في عمليّة ديالكتيكيّة. تُغيّر الاستراتيجيّة محيطها عند لحظة بدء التنفيذ، فتخلق واقعاً جديداً، الأمر الذي يُحتّم على الاستراتيجيّة أن تتأقلم وإلا سبقتها الأحداث.
لا يمكن لكلّ الاستراتيجيّات الموضوعة من قبل المتحاربين أن تنجح. فهذا الأمر يعني أن الكلّ يربح، وهذا أمر مستحيل في الصراعات والحروب. عندما تُرسم الاستراتيجيّات، ترتكز على مدى وعمق معرفة العدو – الآخر في كلّ الأبعاد. ينطبق على هذا الآخر المبدأ نفسه الذي يأخذنا للقول: «العدو يضع استراتيجيّتي، وأنا بالمقابل أضع استراتيجيّته».
إذن، كيف يمكن تحقيق النصر إذا عرف العدو استراتيجيّتي، وأنا بالمقابل أعرف استراتيجيّته؟ قد يكون الجواب على الشكل التالي: لكلّ فريق نظريّة ربح معيّنة. قد يكون قياس النصر لفريق ما هو ألا يخسر، وهو عادة الأضعف في معادلة الصراع. وقد تكون النظريّة للبعض الآخر، في النصر الشامل والكامل عبر سحق العدو واستسلامه، وهو عادة الأقوى في معادلة الصراع. هكذا حدّد الحلفاء في الحرب العالميّة الثانية نصرهم، «الاستسلام غير المشروط لدول المحور».
لكن الأكيد في هذه المعادلة (تحديد وقياس النصر) هو الأهميّة القصوى للعمق اللوجيستي لأي فريق من الفرقاء. بكلام آخر من لديه جعبة غنيّة، تمدّ الحرب دون انقطاع بما تحتاج إليه، قد يُكتب له النصر.
هكذا نظّر المفكّر الإنجليزي الراحل السير مايكل هاورد بمقال له في مجلّة «فورين أفيرز»، عندما اعتبر أن البُعد الخامس للاستراتيجيّة هو حتماً اللوجيستيّة، وهو البُعد المُهمل عادة من المخطّطين والقادة العسكريّين كما السياسييّن. فمن يريد تحقيق النصر العملانيّ وبالتالي الاستراتيجيّ، عليه أن يدرس بعمق ويفهم المُتطلّبات اللوجيستيّة لحربه. لكن هذا لا يعني أن تُؤمّن كل الوسائل اللازمة لأي حرب وبشكل كامل؛ فهذا أمر مستحيل، إذ لا بد من وجود بعض المخاطرة التي يجب أن تُعوّض بالـ«كيف»؛ أي: كيف تُدار الحرب؟ وعبر تطبيق مبادئ الحرب التسعة كلها إذا أمكن، وعلى رأسها مبدأ الاقتصاد بالقوى.
في الحالة الأوكرانيّة، تخرق الحرب الكثير من مبادئ الحرب التسعة، خصوصاً في مبدأ المفاجأة، الاقتصاد بالقوى، الأمن العملانيّ للقوى، البساطة، وحدة القيادة وغيرها من المبادئ.
في الحرب الأوكرانيّة، تبخّر عنصر المفاجأة خصوصاً من الجهّة الروسيّة؛ فالحشد العسكريّ الروسيّ على الحدود الأوكرانية كان ظاهراً قبل أشهر من الطلقة الأولى؛ إذ كانت الاستراتيجيّة الروسيّة واضحة وضوح الشمس، فأتت المفاجأة من الأداء الأوكراني. لكن بعد سنة على الحرب، أصبحت ساحة الحرب واضحة من قبل كلّ الفرقاء الأساسيّين، مع الدعم الدولي لأوكرانيا وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركيّة.
إذن نحن في مرحلة ما يُسمّى «بالوضوح الاستراتيجيّ، العملانيّ والتكتيكي» لكلّ مخططات الحرب. بكلام آخر، أنا أعرف استراتيجيّتك مسبقاً، والعكس صحيح. من هنا انتقل الجانب الروسيّ مؤخراً إلى إغراق المسرح الأوكراني بالعدّة والعديد، واعتماد مبدأ الأرض المحروقة. فهل أخذ الرئيس بوتين بالبُعد الخامس الذي نظّر حوله السير هاورد ألا وهو عمق الجعبة اللوجيستيّة؟ بالطبع، فالتاريخ الروسي الحربيّ اعتمد دائماً على مبدأ الكميّة مقابل النوعيّة. ألم يقل الزعيم السوفياتيّ الراحل جوزف ستالين: «للكميّة نوعيّة بحدّ ذاتها»، وذلك عندما زجّ بآلاف الدبابات الروسيّة ضدّ الدبابات الألمانيّة المتطوّرة من نوع بانتزر.
الشرق الاوسط