للصين والولايات المتحدة سجل حافل من التجسس والتجسس المضاد، وهو أمر متصور تقليدياً في ظل المنافسة الحالية بين الولايات المتحدة التي تسعى للحفاظ على مكانتها كقوة عظمى عالمية، والصين التي لا يمكن تجاهل صعودها كقوة عظمى في الوقت نفسه.
قد لا تكون مباريات التجسس بين الطرفين حامية في العلن والخفاء على غرار ما كان عليه الأمر خلال الحرب الباردة التي انتهت بخروج الاتحاد السوفيتي من التاريخ، حيث تكشف الوثائق التاريخية لتلك الحقبة عن مدى تفوق الأخير في الابتكارات وفنون التجسس. لكن يبدو أن واشنطن وبكين لديهما ما يكفي من الدروس المستفادة مما جرى خلال تلك الحقبة حتى تتحول معارك التجسس إلى تصعيد بينهما.
وغالباً ما توجه الولايات المتحدة اتهامات للصين بالسطو على الملكية الفكرية الأمريكية، لدرجة أن تقارير أمريكية تتندر بأن العمليات السيبرانية التي ينفذها أمريكيون ضد الصين تفضي في الأخير إلى الحصول على ما يتعلق بالملكية الفكرية الأمريكية، والأسرار التجارية والصناعية.
وتعتبر قضية “جنرال إلكتريك” أحدث قضايا التجسس الصناعي الصيني في يناير المنقضي، والتي تتعلق بسرقة عميل لتصاميم خاصة بتصنيع التوربينات الغازية والبخارية وشفرات التوربينات وأختام التوربينات.
لكن يبدو أن هناك نوعاً آخر من الاتهامات التي تبادلها الطرفان تخرج إلى العلن. ففي نهاية شهر يوليو 2021، كشفت الولايات المتحدة عن 250 صومعة صينية لصواريخ نووية، كما كشفت بالصور الجوية التي تم الحصول عليها من الأقمار الصناعية الأمريكية عن حقول صواريخ في منطقة شينجيانغ هو، وذكرت الولايات المتحدة بأنها قبل هذا الكشف كانت قد التقطت صوراً مماثلة في منطقة جانسو أيضاً. ومع ذلك، لم تتذمر الصين من تلك الاكتشافات التي بثتها وكالات الصحافة الأمريكية، بل ردت بدبلوماسية هادئة معتبرة أن تلك المواقع ليست صوامع لصواريخ يمكن أن تحمل رؤوساً نووية، وإنما صوامع لحقول زراعية.
قد يكون هذا السياق مهماً في تناول أحد جوانب قصة البالون الصيني الطائر فوق الولايات المتحدة الذي أسقطته مقاتلات أمريكية في 4 نوفمبر الجاري (2023) قبالة سواحل كارولينا الجنوبية. فمن اللافت بالنسبة لواشنطن الإعلان عن وجود البالون فوق ولاية مونتانا حيث موقع قاعدة بيلينجز النووية التي تضم أيضاً قاعدة “مالمستروم” الجوية، رغم مراقبة رحلة البالون قبل ذلك. كما أدلي بعض المسئولين الأمريكيين لوسائل الإعلام بأن البالون ربما توقف في هذه المحطة أكثر من غيرها. وفى المقابل، من اللافت بالنسبة للصين أنها مصرة على تأكيد أن البالون مدني ويستخدم في عمليات الرصد الجوي، وتم فقدان السيطرة عليه.
قد تكون القصة عند هذا الحد هي السلوك المعتاد من الطرفين، وفق ما سلفت الإشارة إليه، لكن النهاية قد تكون أكثر دراماتيكية مما هو معتاد. فمبدئياً، أجل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلنكين زيارة إلى بكين كانت مقررة في 5 فبراير الجاري، معلناً أنه يصعب القيام بتلك الزيارة في ظل الأجواء التي تسبب فيها هذا المنطاد. ثم أعلنت الولايات المتحدة عن غلق ثلاث مطارات كإجراء أمني، على الرغم مما سبق هذا الإعلان من تصريحات أمريكية بأن البالون لا يشكل خطورة استخباراتية أو خطورة على الحركة الجوية في الأجواء الأمريكية.
وفي ضوء هذه التطورات، فإن المتوقع أن كافة التصريحات السابقة للمسئولين الأمريكيين ستبدأ في التحول باتجاه نظرية المؤامرة أكثر مما كانت عليه الإشارات الخاصة بتقليل المخاوف والشكوك من طبيعة البالون وتداعياته ووظيفته بالأساس.
وفي هذا السياق، من الأهمية بمكان الإشارة إلى عدد من النقاط ذات الصلة ومنها ما يتعلق بسيناريو استخدام البالون كوسيلة للتجسس، كأحد السيناريوهات التي تأخذها واشنطن على محمل الجد الآن.
أبعاد تقنية
يشير متخصصون في فنون التجسس إلى أنه كلما زادت التكنولوجيا تعقيداً قد تكون استخدامات وسائل التجسس التقليدية أو القديمة ذات قيمة. فالبالونات تستخدم منذ أكثر من 230 عاماً عندما استخدمتها فرنسا للمرة الأولى في معركة فلورنس. كما كانت إحدى الأدوات المهمة خلال الحرب العالمية الثانية.
ولكن في الوقت ذاته، لا يمكن الادعاء بأن البالون قد يكون وسيلة تقليدية عفا عليها الزمن، إذ ربما يكون البالون بالفعل وسيلة قديمة، ولكن من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن ما يحمله البالون المعاصر يختلف عما كان يحمله في السابق، حيث لم يكن من قبل لديه القدرة على حمل رادرات وكاميرات مراقبة وغيرها من تلك الأدوات التي تستخدم اليوم في وظائف الأقمار الصناعية.
ويحمل البالون الصيني معدات من هذا النوع، ويمكن لهذه المعدات إرسال الصور إلى المصدر ثم التخلص منها، بحيث لا يتبقى لديه سوى البيانات والمعلومات التي يريد المصدر الإبقاء عليها.
كذلك، أصبحت الأقمار الصناعية التي تستخدم للتجسس أهدافاً عسكرية في معارك الفضاء الجارية بين الدول، وربما اللجوء للبالون محاولة لتفادي هذا المصير، ويؤخذ في هذا الاعتبار أن الولايات المتحدة تشكك في أهداف الأقمار الصناعية الصينية باستمرار.
ففي ديسمبر الماضي، أعلن رئيس قيادة الفضاء الأمريكية الجنرال جيمس ديكنسون أن واشنطن تراقب الأنشطة الصينية التي من المحتمل أن تهدد الأصول الأمريكية في الفضاء، مشيراً إلى الأقمار التي توظفها الصين للحصول على معلومات عسكرية من الولايات المتحدة.
وفي ضوء ذلك، قد تكون البالونات الطائرة في مدارات منخفضة، أو ما يعرف بالغلاف الجوي العلوي مهمة للاطلاع على معلومات أكثر دقة، كما يمكن للبالون التحرك ببطء أكثر من الأقمار الصناعية.
يضاف إلى ما سبق أن الولايات المتحدة نفسها أعادت قبل نحو عقد ونصف العقد إحياء دور هذه البالونات وظيفياً كإحدى وسائل جمع المعلومات. وتشير تقارير بريطانية أيضاً إلى أن لندن هي الأخرى تحذو حذو واشنطن في هذا الأمر، حيث بدأت العام الماضي في استثمارات ضخمة في صناعة البالونات.
كذلك، هناك تقديرات تشير إلى أن الصين لديها أسطول من تلك البالونات يجول في قارات العالم، وبالتالي يصعب الحديث عن اندثار البالونات كوسيلة تجسس قابلة للتطوير نظراً لما تتمع به من مميزات عديدة، فضلاً عن أن الأقمار الصناعية لم تحيلها إلى التقاعد، بل على العكس من ذلك قد تكون ذات قيمة مضافة، في ظل قلة التكلفة، وعدم وجود تعقيدات تقنية إذا ما قورنت بالأقمار الصناعية.
دلالات سياسية
توقف العديد من محللي الاستخبارات الأمريكية عند إشارات سياسية في رحلة البالون. فقد تكون الصين بصدد اختبار الموقف الأمريكي في التعامل مع البالون، وكيف سيكون الرد عليها بعد إسقاطه، في الوقت الذي أكدت فيه بكين على رفضها أي مزاعم لنظرية المؤامرة، وشددت على أنها تتعامل مع الأمر بمسئولية.
وفي المقابل، قال بلنكين- الذي ألغى رحلته إلى بكين- أنه يتم التعامل بمسئولية من الجانب الأمريكي، وأن الاتصالات تجري بين الطرفين للتعامل مع الأمر.
وعلى الرغم من اللهجة الدبلوماسية المتبادلة بين الطرفين في العلن، إلا أن التلميحات الأمريكية بسجل عدم المصداقية من الجانب الصيني قد تكون مؤشراً على حقيقة النظرة الأمريكية للصين في هذه الحادثة.
فقد تزايدت وتيرة التشكيك الأمريكي في مصداقية الرواية الصينية حول وظيفة البالون عندما تواردت أنباء عن وجود بالون آخر فوق أمريكا اللاتينية، وبالتالي يصعب القول أنه هو الآخر جنح في هذا الاتجاه بسبب فقدان السيطرة عليه.
وفى ضوء ذلك، استدعت وكالات وقنوات الإعلام الأمريكية خبراء الطقس للإفادة حول ما إذا كانت حالة الطقس وسرعة الرياح يمكنها بالفعل التأثير على حركة البالون الصيني، وأفاد أغلب المحللين بأن الأجواء عادية وسرعة الرياح لم تتغير عن ما هو معروف، وبالتراكم يجري التشكيك في الرواية الصينية.
قد يكون لهذه الحملة الإعلامية المضادة للصين والتي فتحت ملفات التجسس الصيني على الولايات التحدة على الهواء مباشرة أمام الجمهور تداعياتها على تأجيج الاحتقان في العلاقات الصينية-الأمريكية.
ومن جانب آخر، فإن إغلاق المجال الجوي في بعض المطارات الأمريكية في مجال وجود البالون مثّل علامة أخرى على نفاد الصبر مما كان يمكن أن يتسبب فيه البالون الذي كان عالقاً في الأجواء الأمريكية، بما يعني أنه لن يكون بمقدور بكين مواصلة التأكيد على رواية فقدان السيطرة عليه.
في الأخير، قامت الولايات المتحدة بإسقاط البالون بعد محاولات مضنية لإبعاده عن المناطق المأهولة قبالة سواحل كارولينا الجنوبية، حيث سقط في المحيط، بعد استهدافه من جانب مقاتلات أمريكية. وقد تكون رحلة البالون انتهت، لكن لا يعتقد أن قصته ما زالت باقية وممتدة، بالنظر لما سببه من أزمة، فالبنتاجون أعلن أنه سيسعى إلى استعادة الأجهزة التي كان يحملها لفحصها، وحينها قد تكون هناك رواية أمريكية أخرى ربما ستكون مختلفة بشكل أكبر عن الرواية الصينية.
مركز الاهرام للدراسات