لم يكن الهجوم الذي تعرضت له إحدى المنشآت العسكرية الإيرانية في مدينة أصفهان، في 27 يناير الجاري (2023) جديداً، حيث سبق أن تعرضت إيران لهجمات مماثلة وربما كانت أكثر قوة، طالت مؤسساتها العسكرية والنووية، فضلاً عن علمائها النوويين وقادتها العسكريين. لكن الجديد في الأمر هو انخراط قوى عديدة، مثل روسيا وأوكرانيا إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، في الجدل الذي صاحب الهجوم الأخير، في ظل تضارب التقارير حول هوية الجهة المسئولة عن الهجوم.
انخراط أوكرانيا بدا جلياً في التغريدة التي كتبها مستشار الرئيس الأوكراني ميخايلو بودولياك على موقع “تويتر” عقب الهجوم، وقال فيها: “ليلة متفجرة في إيران”، مضيفاً أن “منطق الحرب (…) يجعل المرتكبين والمتواطئين يدفعون الثمن”.
هذه التغريدة تحديداً، والتي دفعت طهران إلى استدعاء القائم بأعمال السفير الأوكراني لديها لتقديم احتجاج ومطالبة كييف بتحديد موقفها، توازت مع مسارعة روسيا إلى إدانة الهجوم، محذرة من “التصرفات الاستفزازية التي قد تثير تصعيداً في وضع ملتهب بالفعل”.
قد لا يكون ذلك بدوره جديداً، حيث سبق أن أبدت روسيا دعمها لإيران في مواقف كثيرة سابقة وخلافات عديدة مع الدول الغربية. لكن الجديد هذه المرة هو تأكيد المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف على أن “أجهزة الأمن الروسية تحلل المعلومات للحصول على صورة لما حدث في إيران”.
دلالات عديدة
مجمل ردود الفعل التي أبدتها قوى عديدة معنية بما يجري من تصعيد على المستويين الإقليمي والدولي، تطرح دلالات رئيسية ثلاثة تتمثل في:
1- إن السبب الرئيسي في الضربة الأخيرة التي تعرضت لها إيران ربما لا يتمثل في التصعيد الجاري حول البرنامج النووي، رغم أهميته بالطبع في ظل استمرار الأنشطة النووية الحساسة، وإنما في الدعم العسكري الذي تقدمه الأخيرة لروسيا لتعزيز قدرتها على مواصلة عملياتها العسكرية في أوكرانيا، عبر توفير الطائرات من دون طيار من طراز “شاهد 136” التي كان لها دور بارز في التدمير الذي لحق بالبنية التحتية الأوكرانية التي ركزت عليها روسيا خلال الفترة الماضية.
صحيح أن ثمة ضربات نوعية تعرضت لها إيران في الشهور الماضية، توازت مع تصاعد حدة الحرب الروسية – الأوكرانية، على غرار الضربة التي تعرضت لها منشأة “بارشين”- التي مثلت أحد محاور الخلاف بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية بسبب الأنشطة التي كانت إيران تقوم بها داخلها- في مايو 2022. لكن الصحيح أيضاً أن هذه الضربات حدثت في وقت لم يكن فيه الدعم العسكري الإيراني لروسيا قد فرض نفسه على الساحة بعد، أو تحول إلى محور رئيسي للخلافات بين إيران والدول الغربية، التي تهدد حالياً برفع مستوى التصعيد مع إيران، عبر إدراج الحرس الثوري على قائمة التنظيمات الإرهابية الأوروبية بعد أن تم إدراجه على القائمة الأمريكية في عام 2019. بل إن الهجوم الذي نفذته ستة طائرات مسيرة على قاعدة تابعة للحرس الثوري وتضم مئات من المسيرات، في منتصف فبراير 2022 – واتهمت إسرائيل بتنفيذه – سبق في الأساس اندلاع الحرب بأيام عديدة.
2- إن الهدف الأساسي من الهجوم ربما يكون روسيا وليس إيران. وبمعنى آخر، قد يكون الهجوم مقدمة لإدارة حرب بالوكالة مع روسيا، من خلال توجيه ضربات عسكرية لإيران لرفع كلفة الدعم العسكري الذي تقدمه لروسيا في أوكرانيا. ويعني ذلك أن الحرب الأوكرانية قد تمتد إلى مساحات أخرى خارج أوروبا نفسها.
وبالطبع، فإن الساحة الأكثر ترشيحاً في هذا السياق هى منطقة الشرق الأوسط، ليس فقط لجهة انخراط قوى عديدة منها في الحرب الأوكرانية وبأنماط مختلفة، على غرار إيران وتركيا وإسرائيل، وإنما أيضاً لأن القوى الدولية التي تدير الحرب الأوكرانية نفسها هى قوى رئيسية منخرطة في أزماتها، وفي مقدمتها روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية على غرار فرنسا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا.
فروسيا من جانبها تسعى، على سبيل المثال، إلى ملء الفراغ الناتج عن الانسحاب الفرنسي من بعض المناطق، مثل منطقة الساحل الأفريقي. في حين تحاول الدول الأوروبية البحث عن خيارات أخرى لتعويض انقطاع إمدادات الطاقة الروسية، خاصة في المنطقة، وهو ما تعكسه الزيارات المتتالية التي يقوم بها مسئولون أوروبيون إلى بعض دولها، وكان آخرهم جورجيا ميلوني التي قامت بزيارة الجزائر وليبيا في شهر يناير الجاري.
بعبارة أخرى، فإن الدول الغربية لا تسعى إلى الدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا. صحيح أنها رفعت مستوى ونوعية الدعم العسكري لأوكرانيا، على غرار دبابات “ليوبارد 2” التي بدأت دول عديدة في تقديمها للأخيرة على غرار الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا. لكن الصحيح أيضاً هو أنها حريصة على أن لا يُحدِث هذا الدعم تغييراً كبيراً في توازنات القوى الاستراتيجية، فالهدف الأساسي منه هو رفع كلفة العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، أو استنزاف قوة روسيا دون المغامرة بتعزيز فرص الحرب المباشرة معها.
وقد كان لافتاً في هذا السياق، أن الرئيس الأمريكي جو بايدن استبعد، في 31 يناير الجاري، إمكانية إرسال مقاتلات من طراز “إف 16” إلى أوكرانيا، رغم الدعوات التي يطلقها المسئولون الأوكرانيون للحصول على دعم جوي من جانب الدول الغربية، وهو التوجه نفسه الذي تبناه المستشار الألماني اولاف شولتز.
هنا، فإن حرص الدول الغربية على عدم المغامرة بالانخراط في حرب مباشرة مع روسيا، قد يدفعها ليس فقط إلى محاولة تكبيدها أكبر خسائر ممكنة عبر دعم أوكرانيا عسكرياً وفقاً لحدود تفرضها حسابات ومصالح تلك الدول، وإنما أيضاً إلى توسيع نطاق المواجهة غير المباشرة معها، عبر نقلها إلى ساحات أخرى، مثل منطقة الشرق الأوسط.
3- إن إسرائيل تسعى عبر المقاربة الجديدة التي تتبناها في هذا السياق، إلى وضع حدود للدعم العسكري الإيراني لروسيا في الحرب الأوكرانية. فهذا الدعم يفرض، في رؤيتها، معطيات جديدة في المنطقة، خاصة في سوريا، لا تتوافق مع حساباتها ومصالحها.
إذ ترى تل أبيب أن هذا الدعم يمكن أن ينتج تأثيرين: أولهما، إقدام روسيا على تغيير سياستها الحالية عبر السماح، أو بمعنى أدق، التغاضي عن محاولات إيران تعزيز حضورها العسكري بالقرب من الحدود الإسرائيلية. إذ كانت روسيا في المرحلة الماضية حريصة على وضع حدود لتحركات إيران والمليشيات الموالية لها، عبر فتح قنوات تواصل مع خصومها، لا سيما إسرائيل، التي تقوم بشن هجمات متتالية ضد تلك التحركات كان آخرها في اليوم نفسه الذي وقع فيه هجوم أصفهان، حيث استهدفت قافلة على الحدود العراقية-السورية.
وثانيهما، اندفاع روسيا إلى الرد على الدعم العسكري الإيراني لها في أوكرانيا، برفع مستوى التعاون العسكري بينهما، ليصل إلى حد إرسال مزيد من المقاتلات من طراز “سوخوى 35″، خاصة بعد أن أعلنت إيران أنها سوف تستلم الدفعة الأولى من هذه المقاتلات في بدايات الربيع القادم. وربما يصل التعاون بين الطرفين إلى مستوى غير مسبوق، لا سيما في حالة ما إذا اتجهت إيران إلى إرسال صواريخ باليستية لروسيا لمساعدتها في إدارة الحرب في أوكرانيا، وهو “المحظور” الذي لم تقدم عليه إيران حتى الآن.
هنا، تبدو فرص اندلاع نمط جديد من الحرب بالوكالة قائماً في المنطقة بقوة. حرب سيكون طرفاها الأساسيان قوتين دوليتين هما الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، ووكيلاها الرئيسيان قوتين إقليميتين، هما إسرائيل وإيران، لتكون النتيجة في النهاية أن أوكرانيا لن تكون، على الأرجح، الساحة الوحيدة للحرب الحالية.
مركز الاهرام للدراسات