يمكن القول إن #الألفية الجديدة أو العقدين الأخيرين كانا حافلين بتطورات إقليمية ودولية مصيرية ومفصلية، وقد توافقت هذه التطورات مع وجود الرئيس #محمد_خاتمي على رأس السلطة التنفيذية للدولة #الإيرانية، إذ استطاع، إلى حد ما وبما يملكه من مرونة سياسية، الموازنة بين ضرورات الدبلوماسية والعلاقات الدولية من جهة، وبين دور الميدان ومخاوف المؤسسة العسكرية من جهة أخرى بما كانت تعبر عنه من هواجس ومخاوف النظام ومنظومة السلطة التي فوضت #حرس_الثورة وقوة القدس فيه بالتعامل مع مصادر الخطر والتهديد، مستفيدة من الغطاء السياسي الذي وفرته الحكومة آنذاك.
وبين محوري “الشرق” والساحة الأفغانية التي أسندت مهمة متابعتها للجنرال إسماعيل قاآني وكان مساعداً لقائد قوة القدس قاسم سليماني، ومحور “الغرب” الذي تولى سليماني مهمة الإشراف عليه مباشرة، بدأ النظام الإيراني بعملية تثبيت قواعد استراتيجيته الإقليمية التي تمتد على مساحة منطقة غرب آسيا، وتعريفها تحت عنوانين أساسيين، الأول يتمثل “بكسر الهيمنة الأميركية” في المحيط الإيراني القريب والمتوسط (غرب آسيا)، والثاني يتمثل بالعمل على تحطيم “الصنم الإسرائيلي” بحسب تعبير مهدي كلهر مستشار الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد في جلسة خاصة مع الكاتب.
وانسجاماً مع هذه الاستراتيجية أو الرؤية، دخلت إيران تحت مظلة حرس الثورة في مسار عملي وتطبيقي للوصول إلى هذا الهدف. في جانب الشعار الرئيس الذي طرحته والمطالب بخروج كل القوات الأجنبية من منطقة غرب آسيا، بخاصة القوات الأميركية، والعمل على تأسيس منظومة أمنية تتولى الدفاع والحفاظ على أمن هذه المنطقة ودولها بمحور ودور إيراني أساس، سواء من خلال المشروع الذي أطلقه الرئيس خاتمي لتشكيل “شرق أوسط إسلامي” في مواجهة الطرح الأميركي ببناء شرق أوسط جديد، مروراً بكلام الرئيس محمود أحمدي نجاد عن بناء “إيران القوية” لمواجهة الوجود والانتشار العسكري والهيمنة الأميركية، وصولاً إلى الرؤية التي قدمها الرئيس حسن روحاني بالدعوة إلى بناء “منطقة قوية” بالشراكة بين إيران ودول الجوار الجغرافي، بخاصة الدول الخليجية، بحيث تكون هذه المنظومة بديلاً عن المنظومة الأمنية الأميركية، وتكون قادرة على توفير الأمن الذاتي لهذه الدول، وما يستدعيه ذلك من قطع الطريق على إمكانية تولي قوات من حلف “الناتو” هذه المهمة بعد خروج القوات الأميركية.
ومع قرار الانسحاب الأميركي من العراق الذي نفذه الرئيس الأسبق باراك أوباما عام 2009، وخفض عديد القوات الأميركية في أفغانستان تمهيداً لقرار الانسحاب النهائي، وجدت إيران أن الأجواء الإقليمية تصب في إطار مصالحها، بخاصة أنها استطاعت خلال هذه الفترة كسر “توازن الرعب” مع إسرائيل نتيجة حرب يوليو (تموز) 2006 في لبنان، وحرب غزة 2009، بالتالي فقد لجأت إلى نزع “قفازاتها” في التعامل مع دول الإقليم، وذهبت إلى بلورة مشروعها الاستراتيجي لتشكيل ما أطلق عليه اسم “محور المقاومة” الذي يربط طهران بسواحل البحر الأبيض المتوسط عبر العراق وسوريا وصولاً إلى لبنان وفلسطين، وهو المحور الذي يعطيها ورقة الوجود المباشر على الحدود مع الدولة الإسرائيلية، الغريمة والمنافسة الحقيقية لها في الإقليم، ويعطيها ورقة تفوق في معركتها على تقاسم هذه المنطقة مع تل أبيب ويمنحها موقعاً ومكاناً في معادلات التسوية الدولية.
التقدم في المشروع الإقليمي للنظام الإيراني لم يكن ليتحقق من دون تفاهمات من “تحت الطاولة” مع الإدارة الأميركية، بخاصة إدارة أوباما الديمقراطية، التي رسمت استراتيجيتها على استيعاب النظام في طهران وزجه في أزمات المنطقة من منطلق منعه من تحقيق مكاسب فقط من دون تقديم تنازلات أو عقد تسويات، وهذا ما ظهر واضحاً في التعامل والتعاون بين طهران وواشنطن الذي شهدته الساحة العراقية وتركيب السلطة وتوزيعها على حلفاء إيران بقيادة وإشراف قائد قوة القدس سليماني. ووصل إلى أعلى مستوياته بعد توقيع الاتفاق النووي عام 2015، الأمر الذي سمح لسليماني وغيره من المسؤولين الإيرانيين التحدث بكل ثقة عن سيطرة إيران على أربع عواصم عربية.
هذه التطورات والأحداث والتسويات، وإن كانت قد أسهمت في وضع إيران على خريطة المعادلات الإقليمية والدولية، إلا أنها على المستوى الداخلي، شكلت “رصاصة الرحمة” على الإدارة الدبلوماسية للحكومة الإيرانية، والتي كان من المفترض بها أن تكون الأداة المنفذة للسياسات العامة والاستراتيجية للنظام والدفاع عن مصالحه القومية والاستراتيجية، إذ تحولت إلى أداة تنفيذية في قبضة المؤسسة العسكرية وتحديداً قائد قوة القدس الذي تحول إلى مفوض تام الصلاحيات في رسم السياسة الخارجية للنظام والدولة على حد سواء، مدعوماً مباشرة من رأس النظام، وتقف وراءه مؤسسة استطاع التغلغل والنفوذ إلى القطاعات كافة في المجتمع الإيراني الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والمالية والإنتاجية، إلى جانب عملها الأساس في البعد العسكري وتطوير قدرات إيران النووية والصاروخية والقتالية.
ولعل النقطة المفصلية أو المتحول الأبرز في دور وموقع قائد قوة القدس، وحسب الرواية الرسمية للنظام، عندما استطاع، متجاوزاً كل الأطر الدبلوماسية والأعراف السياسية، التفاوض المباشر مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2015 بعيداً من الإدارة الدبلوماسية، والاتفاق معه على المشاركة المباشرة والعلنية في الحرب السورية دعماً للنظام في دمشق. في الوقت نفسه، كانت المؤسسة العسكرية التي ينتمي لها سليماني، تستعد للانقضاض على مؤسسة الدولة ومحاصرة حكومة حسن روحاني ومصادرة الإنجاز الذي حققه في الاتفاق النووي، من خلال الإمساك بالقرار الاقتصادي وعرقلة جهود الانفتاح على المجتمع الدولي والتعاون الاقتصادي والمالي، وفتح باب الاستثمارات الغربية في إيران في مختلف القطاعات، في حرب أو معركة واضحة الأهداف، يشكل الخوف من الانفتاح ودخول المستثمر الأجنبي في القطاعات الاقتصادية الجانب الأبرز فيها، لما لذلك من تأثيرات قد ترتد سلباً على مصالحها التي تسمح لها بالإمساك بالاقتصاد الإيراني والتحكم به.
اندبندت عربي