لم يعد السؤال الذى يشغل العالم هو متى تنتهى الحرب الروسية الأوكرانية لأنه لا توجد مؤشرات نحو إنهائها، وصار السؤال ما هى الخسائر الناجمة عن الحرب ومن يتحملها؟، وعلى الرغم من أنه يمكن النظر إلى الحرب باعتبارها نوعا من حرب بالوكالة كغيرها من الحروب التى نشبت فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلا أنها تختلف اختلافا بينا عما سبقها من حروب. فمن ناحية، تبدو فنيا أنها حرب بين روسيا من ناحية وأوكرانيا وكيلة عن الولايات المتحدة وأوروبا من ناحية أخرى، بيد أن المساندة العسكرية والمالية الأمريكية والأوروبية لأوكرانيا تجعلها حربا شبه مباشرة بين روسيا وتلك الدول. ألم يكن ممكنا تجنبها إذا لم تنوه أوروبا والولايات المتحدة بالنوايا المؤكدة لضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبى وحلف الأطلنطى، وتعلم تلك الأطراف أن ذلك يعد خرقا لإعلانات والتزامات من جانبها بعدم تعديل الوضع الاستراتيجى لأوكرانيا منذ 2014. ومن ناحية أخرى، وخلافا على الحروب بالوكالة، نحن بصدد حرب اقتصادية بامتياز ضد روسيا، فالولايات المتحدة وأوروبا طبقت تسع مراحل من العقوبات الاقتصادية المؤلمة ضد روسيا وعلى أعتاب المرحلة العاشرة، ويقصد بها كسر القدرات الاقتصادية الروسية سند قدراتها العسكرية من ناحية، وإجهاد الدولة الروسية من ناحية أخرى لعلها تتعثر من زلزال داخلى يقوض مكانتها ويزعزع مكانها. ومن ناحية ثالثة، نحن بصدد حرب عالمية وليست حربا محدودة. فالولايات المتحدة وحلفاؤها وأوروبا وحلفاؤها والأمم المتحدة وأجهزتها تقف عنوة ضد روسيا، بل وتسعى إلى رفع الأمر إلى المحكمة الجنائية الدولية للاقتصاص من روسيا. وهى حرب خلقت أزمات متشابكة ومؤلمة كأزمة الغذاء التى طالت العالم كله وبصفة خاصة دول الجنوب المستوردة للحبوب والزيوت وغيرها، وأزمة الطاقة سواء كانت البترول أم الغاز الطبيعى، وأزمة طرق ووسائل الإمداد، فإذا لم تكن هذه كلها إرهاصات لحرب عالمية ثالثة، فما هى إذن مظاهر الحرب المنتظرة؟
وإذا كان المواطن ينتفض لطول مدة الحرب ــ عام حتى الآن ــ فإن الانتفاضة الحقيقية يجب أن توجه إلى الأطراف التى تغذى الحرب وتشعل أرض المعارك دون هوادة، ولا شك أن الصراع على قيادة النظام الدولى بين الولايات المتحدة من ناحية وروسيا والصين من ناحية أخرى، هو الدافع على قيام الحرب واستمرارها وعدم قدرة أى طرف للتقدم بوساطة أو مبادرة جادة لإنهائها. فى كافة الحروب بالوكالة السابقة وجد الوسيط الذى استخدم أساليب الإقناع لدفع الأطراف إلى التفاوض، وهو ما تفتقد إليه تلك الحرب فالولايات المتحدة تبغى إنهاك روسيا وإضعافها حتى تتفرغ للصين فى معركة دامية قادمة حول تايوان، ومن عجائب هذا الموقف أن الجميع يدرك أن الرئيس بوتين لن يسمح بهزيمة روسيا حتى وإن لجأ مضطرا إلى استخدام الأسلحة النووية فى ضوء التصعيد غير المسبوق من جانب الولايات المتحدة وحلف الناتو! ومن المعلوم أن معظم النار من مستصغر الشرر، مَن إذن المستفيدون من استمرار الحرب؟
• • •
الإجابة لا تعنى الوقوع فريسة نظرية المؤامرة، ولكن التحليل الموضوعى يؤكد أن هناك أطرافا عدة تستفيد من استمرار الحرب وعلى رأسها صناعة وتجارة الأسلحة، ولا يغرب عن البال كمية الأسلحة التى تنتقل إلى أوكرانيا بصورة شبه يومية من أوروبا والولايات المتحدة وإسرائيل (حديثا). ولا يوجد إحصاء عن قيمة السلاح الذى انتقل إلى أوكرانيا وإن كانت هناك تقديرات تصل إلى 700 أو 800 مليار دولار، وشركات التدريب العسكرى التى تتولى تدريب الجيش الأوكرانى، وشركات توريد المرتزقة والذين يشكلون فرقا مقاتلة إلى جانب جيش أوكرانيا، والمؤسسة العسكرية الأمريكية والغربية والتى ارتفعت مكانتها أثناء الحرب، وبالطبع الدول المنتجة للطاقة بمختلف أنواعها وشركات الشحن والنقل، وما عدا ذلك، فإن الجميع خاسرون.
وبدلا من تقسيم الغنائم، نحن بصدد مهرجان كونى لتحمل الخسائر، خسائر فادحة على دول وشعوب لا ناقة لها ولا جمل فى حرب شعواء تشعلها لعبة صفرية بين الولايات المتحدة من ناحية وروسيا من ناحية أخرى. فالعالم كله يعانى من تضخم حاد يصيب القادرين والفقراء معا، ويزيد من المعاناة ويحد من جودة الحياة ويضيق الخناق على قدرة الدول على تحقيق أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التى تستهدفها الأمم المتحدة، وامتد الأثر السلبى إلى الانكماش الاقتصادى المميت والذى ينعكس على تضييق فرص العمل ومن ثم النمو. وكلا الأثرين ــ التضخم والانكماش ــ أثرا سلبا على الاستقرار الاجتماعى فى دول عدة متقدمة ونامية بما ينذر بنمو اليمين المتطرف وما يرتبط به من ميل إلى العنف والصراع، وتشير الاضرابات فى بريطانيا وفرنسا، والقلق الاجتماعى فى ألمانيا وإيطاليا، ناهينا عن تزايد معدلات عدم الرضا فى الولايات المتحدة ودول الجنوب إلى امتداد الخسائر الدولية عبر الحدود بما يهدد دولا بالتقسيم الداخلى وما قد ينجم عنه من فشل سياسى.
ولما كنا نعيش فى عالم صغير متشابك ويتسم بالاعتماد المتبادل، فإن تلك الخسائر تصيب الوطن العربى من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه. ولن نجازف بالقول أن يتقدم العرب بمبادرة لوقف الحرب ومن ثم احتواء خسائرها، لأنها حرب ضروس ولدى أطرافها غطرسة وغرور لا مثيل له، ولكننا نتمنى من دولنا وحكوماتنا التكاتف والتعاضد معا للحد من الخسائر، فهل ممكن أن تزيد التجارة البينية العربية، وهل ممكن أن تتجه الاستثمارات العربية إلى إنتاج الغذاء من داخل الدول العربية، وهل ممكن التركيز على الصناعات الغذائية فى ذات الوقت الذى نتجه فيه إلى الصناعات العسكرية المشتركة؟ نريد بذلك أن نحول الخسائر الدولية إلى فرص عربية تعود علينا بالغنم وتحد من الغرم.
العالم كله يعانى من تضخم حاد يصيب القادرين والفقراء معا، ويزيد من المعاناة ويحد من جودة الحياة ويضيق الخناق على قدرة الدول على تحقيق أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التى تستهدفها الأمم المتحدة، وامتد الأثر السلبى إلى الانكماش الاقتصادى المميت والذى ينعكس على تضييق فرص العمل ومن ثم النمو.
د. دكتور عبدالمنعم المشاط
صحيفة الشروق المصرية